السبت، 9 فبراير 2019

قراءة.. رواية: أبناء وأحذية / حسين عبد علي


لا يكتب الرملي شخوصه.. بل ينحتها
حسين عبد علي
كعادته؛ يبدأ محسن الرملي من العراق وينتهي بالعراق. فمنذ "الفتيت المبعثر" الذي يستهلها الرواي بقوله:"غادرتُ بلدي"، ثم ينهيها بقصيدة للشاعر ماهر الأصفر يقول فيها:"إنها الأرض/ والقهوة/ والفتيت المبعثر". مروراً بـ"تمر الأصابع" الذي يهديها محسن إلى العراق مهد طفولته ومهد الحضارات. إلى "ذئبة الحب والكتب" التي تستحضر شيئاً من الشهيد حسن مطلك، وفي هذا الشيء من الاستحضار استحضار للعراق بأكمله، في حين يختتم الرملي روايته في الحافلة المتجهة إلى بغداد. "حدائق الرئيس" التي كل صفحاتها عبارة عن عصر العراق الدموي. وأخيراً "أبناء وأحذية" التي تبدأ بـ "انتقاماً من موت طفلتي في العراق، أنجبتُ سبعة وعشرين طفلاً في إسبانيا وكولومبيا". أتفق مع من ذهب إلى القول أن محسن الرملي في روايته الأخيرة استطاع أن يغادر فكرة الحروب والدكتاتورية والبطش، إلا أنني متيقن تماماً أنه لا يستطيع أن يغادر العراق التي في داخله. هذا الرجل المهووس بالعراق هو في الشبه أشبه بـ هاني الصعيدي القبطي في "أبناء وأحذية" الذي يشير إلى أنه قطع علاقته بمصر نهائياً إلا أنه ينسى -أو يتناسى- السبب الذي يجعل اسم ابنه (نيل)، وأن وصيته أن يتم دفنه في مصر.
وإن أشرت مسبقاً في حديثي حول روايته "حدائق الرئيس" حول أهمية استهلال الرواية أو الفقرة الأولى، بوصفها اللحظة الأولى التي تنطلق منها العلاقة بين المتلقي والمنجز. فمحسن الذي كان خبيثاً جداً عندما يستهل "حدائق الرئيس" بعد إهداء ولا أروع بـ "في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها". فإنه هذه المرة ليس أقل خبثاً عندما يستحضر فكرة الصندوق مرة أخرى، ولكن هذه المرة صندوق أحذية كارتوني، ويعمّق وجع الصورة في استهلاليته عندما يقول: "كنت أحمل جثتها الصغيرة في صندوق أحذية كارتوني".
في رواياته، لا يكتب الرملي شخوصه، بل ينحتها. يستخرجها من بين السطور كما يستخرج النحات المنحوتة من داخل الحجر. لذلك أنت أيضاً، لا تقرأ كائنات الرملي، بل تعيشها. فمثلاً أن يستهل الرملي روايته بما يشبه اختصاراً للرواية بأكملها، أن ثمة رجل ماتت ابنته في العراق، وانتقاماً من هذا الموت يُنجب سبعة وعشرين طفلاً في إسبانيا وكولومبيا، هو ما قد يظنّه البعض بأنه بمثابة حرق لأحداث الرواية، وأنها انتهت حيث بدأت. ولكن يدرك الرملي ألا أهمية لما سيحدث، فهو يختصر لنا ما سيحدث في جملة الرواية الأولى، بل الأهمية تكمن في كيف ولماذا سيحدث. وفي طرحه لهذه الكيفية يحفر الرملي شخصياته عميقاً، عن طريق تعرية العلاقة بين الشخصية ونفسها، والشخصية والشخوص الأخرى، الشخصية والمكان (العراق/ إسبانيا/ كولومبيا). أخيراً.. العراق/ أسبانيا/ الحب.. ثالوث لا يمكن إلا أن تجده في روايات الرملي، شاء أم أبى. والجمالية الأم في أنك مع كل منجز للرملي سترى هذا الثالوث من زواية مختلفة.
-------------------------------------
*حسين عبد علي: فنان وكاتب بحريني.
*ونشرت بالانكليزية في صحيفة (المترجم العراق)، عدد فبراير/شباط 2019 بغداد

ليست هناك تعليقات: