الثلاثاء، 2 ديسمبر 2025

فحوصات ثقافية/ ديسمبر الاستهلاك العالمي/ محسن الرملي

 

فحوصات ثقافية

الثقافة في شَهر الاستهلاك العالمي 

بقلم: الدكتور محسن الرملي

ما مِن شهر يتضاعف فيه الاستهلاك أكثر من ديسمبر، حيث يدخل سكان الأرض في مناخات التهيئة لاحتفالات أعياد رأس السنة، أعياد الميلاد. تمتلئ المحال التجارية بالبضائع وترفع أسعارها، تُضاء الشوارع والساحات والحارات بالأنوار الملونة، تزدحم المطاعم والمقاهي بالزبائن، تستعر أسعار وحجوزات تذاكر السفر والفنادق، تكتظ زوايا البيوت بأشجار الميلاد البلاستيكية أو أغصان مقتطعة من أشجار طبيعية، بالونات، نجوم وورود صناعية مزيَّفة، ألعاب، عُلب وأكياس هدايات، ملايين الأطنان من الكارتون والصفيح والزجاج والنايلون، تُتخَم الثلاجات بالأطعمة والأشربة والحلويات، تنشط المصانع بإنتاج المفرقعات النارية، وتنافس ضروس في الدعاية، قصف لا يرحم من الإعلانات في كل الأمكنة والأوقات والشاشات.. وما إلى ذلك من أشياء (نعم: أشياء) تجارية لا حصر لها، متخذة من هذه المناسبة فرصة تستغلها، إلى أقصى حد، للوصول إلى جيبك، وبالمقابل تتراجع وتنزوي باستحياء جل الأنشطة الثقافية والعلمية والفنية والفكرية التي هدفها الوصول إلى عقلك وقلبك، فاسحة الطريق لمرور وحش الاستهلاك بكل صخبه.

وهنا، وسط استلاب الآدمي في شهر الاستهلاك العالمي، أرى من الضروري، التنبيه إلى ذلك، التوعية والحث على أشكال من الأنشطة الثقافية المقاومِة، بدل هذا الاستسلام الذي قد يقود تدريجياً شراهة السوق لقضم المزيد من أشهر أعوامنا، وهذا ما لاحظنا بوادره فعلاً، من خلال تبكير العديد من المدن والمتاجر بإعلاناتها عن بضائعها، بعضها صار يبدأ بنوفمبر، بل وحتى بأكتوبر!  

علينا تذكير الإنسان بأن جوهره أهم من مظهره، وأن تغذية هذا الجوهر وإكرامه بالهدايا أولى من حشد المزيد من زوائد الماديات حوله، غير الضرورية، بل الضارة أكثر من كونها نافعة، والدليل أننا نسارع للتخلص منها، حال انتهاء المناسبة وانحسار الأضواء وسكوت المفرقعات، بما في ذلك السعي للتخلص من كيلوات الوزن الزائد في أجسامنا، التي اكتسبناها بسبب فائض ما التهمناه. أن نقول للناس بأن أيام العُطل هي فرص للاستراحة من ضغط إيقاع وضيق الوقت ومرافقة الشاشات، للتأمل، للتفكير، فرصة لقراءة كتاب، لزيارة معرض فني، لحضور أمسية شعرية، لمشاهدة فلم في السينما مع العائلة، مسرحية، حفل موسيقي، لكتابة رسالة أو مقالة أو قصيدة أو خاطرة، للحديث وتبادل الآراء والأفكار، للتخطيط لمشروع جمالي إنساني، على صعيد الفرد أو الجماعة، فبالنسبة للكاتب مثلاً؛ تأليف كتاب في العام القادم، وبالنسبة للناشر إعداد خطة لنشر الجديد والنوعي من الكتب، وبالنسبة لصاحب المكتبة؛ الدخول في المنافسة وعرض بضاعته بأفضل وجه، وهكذا كل المشتغلين في الميادين الثقافية والفنية والإبداعية، فإذا كان الاستهلاك قد فُرضَ علينا فرضاً، فلنجعل الاستهلاك الثقافي جزءاً منه، على الأقل. وبالنسبة للقُراء، تِبيان قائمة الكتب التي قرأها في العام المنصرم وإعداد قائمة بالتي سيقرأها في العام القادم، وهذه ظاهرة إيجابية صرنا نراها في وسائل التواصل، وعلينا التصفيق لها، تشجيعها وإشاعتها إلى أن تصبح تقليداً. وإشاعة تبادل الكتب كأفضل الهدايا. شخصياً؛ أحتفظ بكل الكتب واللوحات التي تلقيتها كهدايا، أتذكر الأشخاص الذين أهدوني إياها ومناسباتها، فيما نسيتُ تماماً؛ أطنان المأكولات والبلاستيكيات التي أُهديَت لي طوال حياتي. أتذكر ما قرأته وما كتبته في أوقات فراغ تلك المناسبات، فيما نسيت كل ثرثراتها والمجاملات... نريد أن تُصبح الثقافة، وعلى رأسها القراءة، فعل مقاومة للاستهلاك، ووسيلة للاحتفال بالعمق في زمن السطحية، بالهدوء في عصر الصخب والسرعة، بالسلام الإنساني وسط بشاعة الصراعات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 86 ديسمبر 2025م.

https://sibf.com/ar/pwhardcover