الاثنين، 10 فبراير 2025

فحوصات: عن مخطوطات الأموات/ محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

مخطوطات الأموات

بقلم: الدكتور محسن الرملي

في ختام كل عام، تُجرى استفتاءات عن أهم الأحداث الثقافية، وكان جوابي، فيما يتعلق بالعام المنصرم، هو أن اسم الكولومبي غارثيا ماركيز، كان هو الأبرز مرة أخرى وبامتياز، وذلك بإصدار روايته، غير المنشورة (نلتقي في أغسطس)، وتُرجِمَت سريعاً، في وقت قياسي، إلى أغلب لغات العالم، ومنها العربية، وكذلك بإنجاز وبَث مسلسل (مئة عام من العزلة) على منصة نتفلكس، المُستَمَد من روايته الأشهر، وكلا الحَدثين أثارا جَدلاً كبيراً ونقاشات ثرية، مع وضد، في مختلف الأوساط والصحافة الثقافية ووسائل التواصل الاجتماعي في العالم، حول عدة قضايا مهمة، مازال البت فيها مُعلّقاً، رغم تكرار طرحها منذ عقود، وأهمها: قضية تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال درامية، وقضية مخالفة الورَثة للوصية، وقضية نشر مخطوطات الأدباء الراحلين، وهنا سأتوقف عند الأخيرة، لأنها تمسني شخصياً، فقد كانت ومازالت أحد أهم محاور اهتمامي وانشغالي في حياتي الثقافية والشخصية، حيث أخذتُ على عاتقي نشر كل أعمال ومخطوطات ونصوص ويوميات ورسائل أخي الراحل حسن مطلك، التي لم ينشرها بنفسه، المكتملة منها والناقصة.

إن لم تنشُر سوف تُلام، وإن نشرتَ سوف تُلام، لذا فأنا مع النشر لكل ما يتركه أي كاتب ومبدع حقيقي، فهذا سينفع الكثيرين من محبين وقراء ومهتمين ودارسين لأعماله ولأدبه ولسيرته ولعصره، وهو أمر لن يضر به، بل على العكس؛ سيسلط الضوء على طبيعة اشتغاله وخلفية وتفاصيل صناعته، وما يمحوه في نصوصه وما يُغيره، أما عدم نشرها فهو لا ينفع أي أحد.

فمثلاً؛ ما فعله ماكس برود، صديق كافكا، هو درس في هذه المسألة، فقد خالف وصية كافكا، القاضية بحرق أعماله بعد موته، وقام بنشرها، ولولا هذه المخالفة لما عرفنا ولا عرف العالم كافكا كما نعرفه اليوم ومدى تأثيراته على الأدب برمته. وأبناء ماركيز، الذين انتقدهم البعض لنشر مخطوط روايته (نلتقي في أغسطس)، لم يضروا بسمعته، بل زادوها وأعادوا تسليط الضوء على طبيعة اشتغاله، أو حتى على نوعيه العمل الذي لم يكن مُقتنعاً بنشره، وكان نشرها مناسبة لتقوم دور النشر بإعادة طباعة أعماله الكاملة والترويج لها مجدداً، فيما لم يضر نشرها ماركيز بأي شيء.

أما في حال امتناع الورثة عن النشر، علماً بأن أغلب أُسر الكُتاب في العالم هي غير مختصة وليست عارفة بالأدب وشؤونه، فيجب احترام آراء ومواقف تلك العوائل، لأن بعضها قد يعترض على النشر لأسباب عائلية أو شخصية، كخشية وجود أسرار أو أفكار ربما تمس أحداً أو قِيماً أو نظاماً وتسبب إشكالات للعائلة، وفي كل الأحوال؛ لا يحق لروابِط واتحادات الكُتاب أو للدولة أن تتدخل في الأمر بالضغط أو الإكراه، وإنما لتبدأ بالتواصل مع الورثة، بالإقناع، بالتطمين، بالترغيب، بتبيان أهمية الأمر، أو بشراء الحقوق، فإن لم تنجح، يمكن الانتظار إلى أن تسقط الحقوق، بعد خمسين أو سبعين سنة، حسب قانون البلد، وبعدها تتبنى المسؤولية والتعامل مع الأجيال الجديدة من العائلة للبحث والكشف عن المزيد من المخطوطات، أو عن كيفية التعامل مع آثاره الأخرى، كمكتبته أو بيته أو قبره وما إلى ذلك. لقد حدث هذا قريباً مني، هنا في إسبانيا، مع الورثة، فحتى الآن مثلاً، ترفض عائلة لوركا نقل رفاته وإقامة قبر مستقل له عن الذين تم قتلهم ودفنهم معه خارج غرناطة، وكذلك الأمر مع ورثة الشاعر بيثنته ألكساندرة (نوبل 1977)، حيث رفضوا كل المناشدات لتحويل بيته إلى متحف أو ترميمه، إلى أن انتهى الأمر بشراء بلدية مدريد للبيت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 76 فبراير 2025م

https://sibf.com/ar/pwhardcover 

ليست هناك تعليقات: