الخميس، 7 ديسمبر 2023

محسن الرملي في ندوة عن الكتابة / معد فياض

 محسن الرملي لـرووداو

في الخارج أكتب عن العراق بحرية لكنني أفتقد حرارة اللقاء بقُرائي

معد فياض

رووداو ديجيتال

لم ينقطع الكاتب والشاعر العراقي الأكاديمي، محسن الرملي، عن أصوله العراقية، مولود في قرية (سُديرة) بقضاء الشرقاط التابع لمحافظة صلاح الدين، رغم تنقله منذ 1993 في دول عدة، آخرها إسبانيا التي يقيم فيها منذ 1995، حيث حصل من جامعة مدريد على شهادة الدكتوراه، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف من كلية الفلسفة والآداب، عن رسالته "تأثيرات الثقافة الإسلامية في الكيخوته" عام 2003. ويعمل حالياً أستاذ في جامعة سانت لويس الأميركية في مدريد... رغم ذلك فإن رواياته تنقل الروح العراقية حدثاً وانفعالاً واحساساَ، وتجسد ذلك، مثلاً في أعماله: أوراق بعيدة عن دجلة (قصص)، تمر الأصابع (رواية) كتبها بالإسبانية والعربية، ذئبة الحب والكتب(رواية)، برتقالات بغداد وحب صيني(قصص)، حدائق الرئيس (رواية)، أبناء وأحذية (رواية)، كلنا أرمل الأجوبة، ديوان شعر صدر في مدريد بثلاث لغات: العربية والإنكليزية والإسبانية. إضافة إلى أعمال عديدة أخرى.

الكتابة من الخارج

في محاضرة ألقاها مؤخراً، بدعوة من نادي (المدى للقراءة) ومعهد غوته الألماني في أربيل، إضافة لإشرافه على ورشة كتابة للشباب، قال الأكاديمي محسن الرملي لرووداو، حول وضوح الرؤية في الكتابة من الخارج، إسبانيا، حول ما يحدث في الداخل، العراق:” أتفق معك، إننا إذا رأينا المشكلة ونحن في الخارج، أفضل بكثير مما لو كنا في الداخل، إلى جانب اننا نشعر بالأمان والحرية، في الخارج، ونستطيع أن نكتب هناك إيجابيات وسلبيات. هذا على صعيد الكتابة، لكن نحن الذين في الخارج نخسر التقاليد الثقافية السائدة في الداخل، ببغداد مثلاً هناك أجيال تتعلم من الأجيال السابقة، يعني الشباب يجلسون في المقهى مع أدباء من جيل الستينيات والسبعينيات، ويصير هناك تراكم أدبي من خلال النقاشات، وتقاليد ثقافية". مشيرا إلى أن: "مثل هذه التقاليد تحدث في مصر تماماً، مثلما كان يحدث في بغداد.. بالنسبة لبلداننا التي انفجرت وتشتتنا، نفقد هذا التواصل بين الأجيال، وأيضا نفقد حرارة اللقاء مع الناس وحرارة الكتابة عن المشاكل، مثلا يسألوني أو يطلبون مني أن أكتب عن فترة (داعش) او انتفاضة تشرين، أنا أتمنى ذلك، ولكن بما أنني ما عشتها (الأحداث)، فسوف أفقد احساس الصدق فيها.. من ناحية أخرى، نحن في الخارج نفقد التقائنا بالقارئ، الأمر يختلف عندما تلتقي بالقارئ ويتحدث عن رايه من روايتك، فتطور أدواتك من خلال هذه اللقاءات والآراء... أحياناً أشعر بأنني بعيد ومعزول، وهذه مشكلة، يعني نفقد الحرية ووضوح الرؤية والتواصل مع محيطنا الثقافي والمتلقي".

وعن نظرته لأهمية المرأة في الأدب، فيما يعتقده الرملي، قال، والحديث لرووداو:"المرأة والرجل يكملان بعضهما. لكن المرأة أكثر حساسية من الرجل. في العالم كله المرأة هي أكثر من يقرأ.. الاحصائيات تقول إن المرأة أكثر اقتناءً للروايات". منبهاً إلى ان:" غالبية الكُتاب عندما تسألهم عن مصادرهم الأولى في الحكايات والقص يقولون مباشرة: جدتي، جدتي هي التي حكت لي ونمت عندي مخيلة القص والكتابة، لم أسمع أحداً قال: جدي...هن، النساء، الملتزمات بالحكاية. حكايات (ألف ليلة وليلة) روتها امرأة، شهرزاد.. هناك تفاصيل عند المرأة لا يستطيع الكتابة عنها إلا المرأة الكاتبة، البقية مشترك، أعني الموقف العاطفي وغيره.. الرجل يمل من قراءة مشهد عاطفي طويل، عكس المرأة... انخيتونا أول من بدأت الأدب وكتبت القصيدة الأولى، وهناك أول آلهة امرأة، ومن علَّمت انكيدو الخارج من عالم الوحوش، أن يكون إنساناً، كانت امرأة".

تعدد الهويات إغناء إبداعي

وفيما إذا كان الانتقال من بيئة، من بلد، من مجتمع، إلى آخر، يشكل أزمة هوية لدى الكاتب، وهو الخارج من بيئته العراقية إلى بيئة أوروبية، إسبانيا، قال الكاتب محسن الرملي: “أعتقد وحسب التجربة، إن أي انتقال هو مؤلم، ليس للإنسان فقط، إذا تنقل شجرة من أرضها إلى أرض أخرى سوف تذبل في البداية، وتعاني حتى تمد جذورها في الأرض الجديدة، الحيوان كذلك سيحاول أن يتطبع مع المكان الجديد، فكيف بالإنسان؟"، مستطرداً بحديثه:" كانت تجربة الانتقال من العراق إلى إسبانيا، في البداية، مؤلمة، والذي لا يقاوم فسوف يسقط، الشجرة التي لا تتحمل ولا تستطيع مد جذورها في الأرض الجديدة سوف تذبل. ظهر هذا في نتاجاتي التي كتبتها في إسبانيا، في السنوات الأولى، وفي مجموعتي القصصية (أوراق بعيدة عن دجلة)، حيث أني كنت أقارن بين المدن العراقية والاسبانية، أو أخلق مرادفات أو تشابه بينها، كأني أقارن وأُقنع نفسي بأنني لم أتغير، وان الأماكن متشابهة، وبالتحديد موضوع الهوية، في روايتي (تمر الأصابع)، فهناك ثلاثة أجيال يتنقلون، جيل الأجداد قناعاتهم ثابتة سواء كانت الاجتماعية أم الدينية، وجيل الآباء، وهو جيل الستينيات، وجيل الأبناء وهم الجيل الثالث". موضحاً: “في الادب العربي هناك دراسات كاملة لما يُسمى بـ(الشرق والغرب)، وهذا واضح ومنذ وقت مبكر، كما في رواية (قنديل أم هاشم) للكاتب المصري يحيى حقي، وفي الخمسينات ظهرت رواية (الحي اللاتيني) للكاتب اللبناني سهيل إدريس، ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السوداني الطيب صالح، كان واضحاً في هذه الأعمال طابع الانبهار بالغرب، وكانت الحرية الجنسية شيء صادم كما في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال). أما نحن الجيل اللاحق، لا توجد في أعماقنا عقدة تفوق الغرب علينا، لا يوجد عندنا انبهار بالحرية السياسية أو الجنسية أو الاجتماعية أو الثقافية، ذلك لأننا ذهبنا إلى الغرب ونحن نعرفهم ونجيد، من خلال الدراسة، لغات البلدان التي ذهبنا اليها، ولهذا كان من السهل أن تجعل لك هناك جذوراً. هناك مهاجرين أو مهجرين من مدنهم داخل العراق، في أربيل مثلاً، بسبب أعمال تنظيم داعش الارهابي، أو مشاكل أمنية، وهنا يسألني البعض: كيف تحَملت الغربة على مدى 30 سنة، وهم أمضوا 3 سنوات هنا ولم يتحملوا الغربة ويعانون".

ويستطرد قائلا: "أي انتقال مؤلم، ولكنه بمرور الزمن يتحول إلى إثراء.. إلى انشطار وهو أيضا مؤلم، ويكوِن ثنائيات، لكن مع الزمن، تتمنى لو أنك منشطر عشر مرات.. أتمنى أن أعيش عشر سنوات في الهند وأخرى في افريقيا وأخرى في الصين وعشر سنوات في أقاصي آسيا، كوريا، يا ليت هناك متسع في العمر لنعيش ونتعرف على ثقافات أخرى، ونحن الذين صرنا نتمتع بهويتين أو ثقافتين، أقول: أن تقف بقدمين أفضل من أن تقف بقدم واحدة... بمرور الزمن، حتى لو كان هذا جرح أو اقتلاع، فسوف تُحب هذا الجرح وتعتز به". 

الأهمية للزمان

ولكن هل بقية أهمية للمكان عند الرملي، يجيب قائلا:" بعد الانتقال الذي تحدثتُ عنه آنفا، تراجعَت عندي أهمية المكان إلى الخلف. اكتشفتُ ماذا أريد أنا من المكان، أي مكان، وهو أن يوفر لي نقطتين: الأمان والحرية، بعد ذلك لا يهمني أين أعيش وفي أي بلد، المكان ليس مهماً عندي، إنما الأهمية للزمان.. الزمان هو أنا، يعني الساعة التي تمر هي أنا، لكن المكان الذي يتغير لا علاقة لي به، إلا من حيث أن يوفر لي الشروط، مثل معطف، إذا كان ضيقاً لا أشعر بالراحة فيه، أما إذا كان على مقاسي وعلى ذوقي سأرتديه وأتحرك به وأنا مرتاح"، مضيفاً: "فهمي للمكان هو انه أداة، وأعرف شروطي لهذه الأداة. إذا وفر لي أي بلد آخر الأمان والحرية كأساسيات، لا يختلف الأمر عندي، لكن الزمان يختلف، فأي ساعة تمر هي من عمري، والمكان ليس من عمري، واكتشفتُ أن الذات هي الزمن... في المفهوم البابلي، المنفى لا علاقة له بالمكان وإنما كان زمانياً، يعني أنت تنشأ وتحلم في بلد، وفجأة ينقطع الحلم ولا تستطيع أن تحقق أحلامك، وتضطر في أرض أخرى أن تبدأ من جديد وتحلم أحلاماً جديدة حتى تؤسس ذاتك، يعني خلع أو سلخ الروح الزمنية أكثر قسوة من سلخ المكان".

التكنولوجيا الرقمية

وعن غزو التكنولوجيا الرقمية لعالم الكتاب الورقي، يوضح الرملي قائلاً: "قبل التكنولوجيا الرقمية، كانت هناك المقاهي الثقافية وهذا تقليد أوروبي انتقل إلى مدننا، ومنها بغداد، ومن هذه المقاهي خرجت حركات فكرية وتجارب أدبية إبداعية. يجب الحديث عن أهمية الكتاب الورقي. كان سوق الوراقين ببغداد في العصر العباسي أشهر الأسواق، ومنه خرجت أمهات الكتب". مشيراً إلى أن: "قراءتك للكتاب لوحدك لا تكفي، يجب مناقشة ما قرأته مع الآخرين كي تُثري قراءتك، ونوادي القراءة هي خير من يُثري القراءة. كانت هناك صالونات أدبية معروفة للقراءة والنقاش، مثل صالون مي زيادة في بيروت، وعباس محمود العقاد في القاهرة، وفي بغداد أيضاً كان هناك صالون الفنانة عفيفة إسكندر الذي حضره كبار الكتاب والشعراء والنقاد، حيث تجتمع النخبة ويناقشون كتاباً جديداً أو نتاجاً أدبياً جديداً، نوادي القراءة حالياً موجودة بغزارة في منطقة الخليج، لكنها في العراق قليلة، وأغلب هذه الصالونات تديرها سيدات، وباللغة العربية والانكليزية، بينما هناك أندية للقراءة في أميركا اللاتينية وأنا دُعيت إلى بعضها في المكسيك وكولومبيا. انديتنا، رغم قلتها، مثل (المدى)، هي أوسع وأكثر وصولً إلى الخارج، عبر الانترنيت، أما في أميركا اللاتينية فالحضور بسيط وغالبيتهم أصدقاء يقرأون لبعضهم، ومتعثرة وأعضاء مكررون... ما شاهدته في بغداد وأربيل، كـ (نادي المدى للقراءة)، هو صالون مفتوح وعدد الأعضاء والحضور فيه كبير، وأنا أحسد هذا الجيل على توفر فرص كهذه".

التاريخ مزيّف

وفي مقارنته بين الرواية والتاريخ، أكد الروائي محسن الرملي قائلاً:" أنا من المشككين في كل التاريخ، وذلك لأنه يتم تزييف الحقائق أمام أعيننا. الحقائق التي عشناها، يتم تزييفها وإعادة طريقة كتابتها، ونحن الشهود الأحياء عليها، ثم يتحول ذلك إلى تاريخ". مضيفاً: "أنا كنت مهتما بقراءة التاريخ، واليوم تقريباً انقطعتُ عن قراءته. في رأيي أن الرواية هي كتابة وكِتاب العصر، وهي الجنس الكتابي الذي يُعبر عن أي إنسان في الزمان والمكان... لا يستطيع أي كتاب آخر أن يعطيك فكرة عن أي انسان في الزمان والمكان كما تفعل الرواية، لا تستطيع كتب التاريخ أو الاقتصاد أو السياسة ذلك".  وبإيضاح أكثر، يقول: "الرواية هي صورة الإنسان وعلاقته بنفسه وبالمجتمع المحيط به. عندما تقرأ أي رواية عراقية، سوف تفهم طبيعة علاقاته مع الآخرين وعلاقته بزمانه وبمكانه... أنا درستُ اللغة الإسبانية بسبب الرواية. نعرف الشعوب الأخرى من خلال الأدب وليس من خلال الإعلام، لأن الإعلام (حيادي)، كل النصوص الأخرى هي نصوص بلا مشاعر، بحجة الحيادية، سواء أكانت تاريخية أو إعلامية أو جغرافية، ما دامت خالية من المشاعر، فينطبق عليها مفهومي، السابق الذِكر، عن المكان، بأنه شيء خارجي، يعنيني بقدر إفادته لي، كتب الجغرافيا والسياسة والاقتصاد تنفعني خارجياً، أما الرواية فلها علاقة  بالزمن وبذاكرتك وبأحلامك،  لهذا الرواية هي كتاب الإنسان، ونعرف الإنسان عن طريقها بداخله وخارجه، وتعتبر وثيقة بل، أهم الوثائق، أنا درستُ أكاديمياً العصر الوسيط، العصر الذهبي في إسبانيا، القرنين السادس والسابع عشر، المصدر الأكثر وثوقاً هو الأدب، من خلاله تعرف التفاصيل والناس وموقفهم من السلطة، حتى بواسطة الرموز، وكيف كانت الطبيعة وحياة الناس، بينما التاريخ، وأتحدث عن تجربة إسبانيا، اضطر في القرن التاسع عشر، عندما كانت إسبانيا إمبراطورية وتسيطر على نصف العالم تقريباً، أميركا اللاتينية والفلبين، التي جاء اسمها من الإمبراطور الإسباني فيليبه، فالمثقفين الإسبان، الشعراء، اكتشفوا أن هناك ما يُسمى بالإسبانيتين، وهذا نحن نعانيه في العراق، وهو الخطاب الحكومي الرسمي الإعلامي في زمن الدكتاتورية، يقول إننا قوة كبرى ونحن البواسل وأفضل ما موجود في العالم، نحن الأغنياء، بينما الناس، الشعب، لا يجد ما يأكله، الإنسان العراقي  كان مسحوقاً من الداخل، وهذا يعني وجود عراقين اثنين، مثلما كنت هناك إسبانيتين، والذي قام بالمصالحة بينهما هو الأدب".

وأفصح الرملي، اعتماداً على تجربته، عن أن: “كل إنسان يمر بأزمة، عليه أن يعيد طرح الاسئلة الأولى: من أين ولماذا وإلى أين، مَن أنا وماذا أريد. على صعيد الأمم، إذا قلت أنا عراقي، فماذا يعني ذلك؟ أو إسباني، هل هو الذي تصفه الحكومة أم الذي هو المواطن الاعتيادي، فاستنبطوا الأجوبة من الأدب، من دون كيخوته، وثلستينا ولاثاريو دي تورمس وغيره بالنسبة لإسبانيا، أي من كل الإرث الإبداعي. الآن إذا تسال العراقي: ماذا يعني أنك عراقي؟ سوف يحتار ويسكت... الأدب يستطيع الإجابة على مثل هكذا سؤال، تناول الأعمال الأدبية منذ كلكامش حتى اليوم. هناك صفات تتكرر عبر الأجيال، الشجاعة موجودة عبر كل الأزمان والأجيال عند الإنسان العراقي، الكَرم، الشهامة، الانفعال، السرعة في بناء الحضارة وهدمها، خلق الآلهة والتمرد عليها، الإسلام ولِد واحداً في الجزيرة العربية، لكنه دَخل للعراق فصار خمسة مذاهب، الشعر كان له بحور محددة ومستقرة، دَخل إلى العراق فصار أنواعاً كثيرة: الشعر الحر وقصيدة النثر والقصيدة المدورة والشكلية وما إلى ذلك... شخصية العراقي قلِقة. الأدب هو الذي يساعد الإنسان في كل مكان وزمان على وعي ذاته، هو الذي يمثل هوية الإنسان، والأشمل في الأدب هي الرواية". 

بقي أن نعرف بأن للكاتب والشاعر محسن الرملي أكثر من عشرين كتاباً، بين رواية ومجاميع قصصية وشعرية، والكثير من البحوث في الأدب والفلسفة، التي كتبها باللغتين العربية والإسبانية، كما أن غالبية منها قد تُرجمت إلى العديد من اللغات كالإسبانية، الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، البرتغالية، التركية، الروسية، الكتالانية، الألبانية، الفنلندية والكردية. كما ألقى العديد من المحاضرات، وشارك في العديد من الندوات والأمسيات والمؤتمرات ومعارض الكتاب في غالبية دول العالمين العربي والغربي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نُشر في شبكة (رووداو) الإعلامية الكردية المعروفة، بتاريخ 6/12/2023م

https://www.rudawarabia.net/arabic/culture/06122023

ليست هناك تعليقات: