الثلاثاء، 24 مايو 2022

قراءة في: الفتيت المبعثر وحدائق الرئيس / علي حسين


الفَتيت المُبعثَر.. رواية تشبه العراق

علي حسين

مثل أيّ عراقيٍّ له القدرة على الكتابة ومزجِ الحروف لتسطير ما حلَّ بالبلادِ من ڪوارثٍ جاء بها "النظام السابق ودكتاتوريته أو كما قلت الفرعون". كتبَ «محسن الرملي» عن تلكَ الفترة المشؤومة، مثل ما فعلَ غيره الڪثير من الكُتّاب العراقيين وحتىٰ غير العراقيين. حسبما قرأتُ من وثائقيات بصورٍ مُتعدِّدةٍ بالتاريخ والشعر والروايةِ أخيرًا في «العيش علىٰ حلم»، «البلجيكي»، «الغوغائي»، «إعجام»، «سواقي القلوب»، «رمال حارة جداً»، «سيد أسود باذنجان».. والڪثير من الروايات والقَصص القصيرة التي أضافتْ للمكتبة العراقية وثائقيات فترة النظام بشكل أدبيّ، بل وأصبحت بمجملها الثيمةُ الأساس لأغلب روائيّو العراق.! لما أودت من خسائر وتعطيل الحياة والإنسان في المجتمعات، بل في نفس كل فردٍ عراقيّ. ولكتابةِ العراق غريقًا هكذا، مكسورًا وشاحبًا مُعدَمِ الحياة، عدة دوافعٍ وخلجاتٍ في نفسِ الروائيٍّ العراقيّ، كل من عاشَ تلكَ الفترة وذاقَ طعم عذابها دونما ذنبٍ أو عصيان!

وحسبي كثرةُ الأحداث وتفصيلاتها آنذاك، فـتفرَّد كل روائيّ بحدثٍ ما، له علاقةٌ بتلكَ الفترة وطبعًا دونَ الخروج عن الخط الأدبيّ الذي اختار أن يُوضَّح به الحدثَ للقرّاء. هكذا تميَّز وتفرَّد «محسن الرملي» في كل ما كتبَ وما اعتاد القرّاء عليه في طروحاته الأدبية. ومن جملة ذلكَ «الفتيت المبعثر» ويا لهذا العنوانِ.. كم يحكي من حكايا وكم يقصُّ من قصص؟ تشبيه العراق بالفتيت وليسَ فتيتًا فقط بل مبعثرًا كان الأصدق والأقرب للحديث عن العراق وهو متفتِّت.

من مجمل ذلك الفتيت، يضع «الرملي» أوتاده في القرىٰ التي قد يعتقد الكثير بأن لم يُصب أهلها شيءٍ من نير الدكتاتورية. تحديدًا في قريةٍ شمال العراق تقريباً، ولِما بِصدرِ «الرملي» من فضاءٍ للحزنِ واللوعة، تقمصَّ بدوره شخصيةً تسرد أحوالَ تلك القرية بكل ما فيها، شخصيةً بلا تعريفٍ سوىٰ صلة القرابة بينه وبين عائلةٍ تقطن القريةَ، فليسَ لتلك الشخصيّة من ملامحٍ أو شكلٍ ولا اسما حتىٰ، مثل من يُخاطِبُ نفسه صامتًا، يُعِيدُ ذكريات قريته قبل أن تشيخ وتهرم، بعدما لم يجد من يستمع إليه «لمن سأحكي، مادام الناس هنا في مدريد لا يعرفون شيئاً عن هذا الذي أقوله؟ وخاصة أنه كلام لا يتعلق بكرة القدم، أو مصارعة الثيران، أو حتى فضائح الممثلات؟» خطوة ممتازة أن يبدأ المؤلف بشيءٍ مثل ذلك، ليستعرض بسلاسة وجزالة الحروف أهل القُرىٰ والنظام الحاكِم. بالرغم من المأساةِ الطاغية المتَناوَلَة بحرفٍ ساخرٍ لاذع، إلاَّ أنَّه استطاع أن يأخذ القارئ إلى فضاء ذلكَ الزمن الغابر المشؤوم، موضحًا من خلال شخوصِ عائلةٍ من عوائل القرية التي تعيش علىٰ نظامٍ روتينيٍّ بالغً البساطِة، المبلَغ الذي يجعل أغلبَ ساكنيها يتصوّرُ أنَّ المدينة شيءٌ فضائيٌّ وأسطورة من الأساطير، ذاتها القريةُ التي يستيقظ أهلها قبل شروق الشمس، وطعام إفطارهم زبد الأبقار وحليبها والقشطةِ، أو القشدة، مع الخبز الذي تأتي به نساؤهم من تنانير الطين، وأعمالهم بين الزراعة والرعي وبعض الحِرف البسيطة. تحكمهم عاداتُهم وتقاليدهم قائمة علىٰ الودّ والمحبة والإنسانيّة التي فُطِروا عليها. يبدأها بالبحث عن «محمود» الذي ترك القرية بعدما لم يُعني لأحدٍ فيها وجوده أي شيءٍ، حتىٰ عائلته فهُم لا يحسبوه موجودًا معهم، ودائمًا لا يعُدُونه بالعدة، هكذا شخصًا بلا ظل.. بلا أيَّ شيء.

وقد أعتبرُ أنَّ المؤلف طوىٰ حال مجتمعاتٍ كثيرةٍ –وإن كانت متمدِّنة – بعائلةِ الحاج عجيل "نشنن" الريفيّة، «الحاج عجيل نشنَن» مثَّلَ في الرواية حال من كانَ شديدَ الولاءِ والتطبيل للنظام الحاكِم بنظرةٍ ضيقةً من زاويته العقلية والفكرية. مصدِّقًا مذياعًا ينقل كل إنجازات السلطة دونما التعرُّض للفساد الكُلي التي تقوم عليه دكتاتورية سيادته. فهو «عجيل» الذي يدعو كل ما يراه، يوافق رأيه ورأي السلطة بـ "نشنَن" تباعًا لمفردة "ناشونال" الإنجليزية. وهكذا الحال مع أولاده السبعة، إذ ڪلٌ منهم قد شرح به حالَ شريحة من مجتمع هذا الفتيت المبعثر فـ شخصية «قاسم» ڪانت تلك التي تعلم بحال النظام الفرعوني لتتحاشاه، قدر ما تستطيع، ولا تنفذ ما يُمليه عليها جلاوزته، بل وتحرِّض علىٰ القيام ضدَّ النظام وعدم الانصياع لنفاقِه ودَجَلِه، وكان قد اكتفى بالرسم والخط العربي. ولأنَّ الحُبَّ لا يعرِف الكلام ولا المَواطِن ولا الزمكان، فلم يدَع «الرمليُّ» فضاء السرد خاليًا من الحُبِّ. فمن خلال "قاسم" عرَّفنا كيف يعشَق الريفيّون وكيف يُحبونَ؟ من الممكن أن ينسىٰ القرويُّ نفسه يومًا كاملاً لو رأى فتاةً تخطف قلبه، مثل ما حصل مع "قاسم" عند رؤيته لـ "حسيبة" ابنة عمه، التي رآها فجرًا وظلَّ مشدوهًا ببياض ذراعـِها، "قاسمٌ" هذا، هو ليسَ "نشنَن" عند "عجيل"، إذ لم ينصاع لأوامر الحكومة، ومتخلفٌ عن الحرب وهاربٌ عنها، كارهًا للقائد وجلاوزته، فينال جزائه حسبما ما تقوله الحكومة، فيُعدَم في ساحة القرية.

و«أحمد» الذي كرّس حياته للعلم والتعلم بصعوبةٍ، وفي ظل تلك الظروف، ڪي يُصبح قاضيًّا، يحكم رغمًا عنه، بالقوانين التي جاءت بها السلطة والحكومة آنذاك، غيرها تلك التي حفظها كما يحفظ اسمه وإن أبدىٰ اعتراضًا فجُوبِه بـ «نحن القانون، نحن الحكومة» فڪان يُمثِّل جموعٍ ڪثيرة تعرف وتدرك حقيقة النظام ودكتاتوريته دونما أن تحرِّك ساكنًا خوفًا من أن تُعدم!. و«سعدي» الشخصيّة الشاذة جنسيًا، اللاهث وراء غرائزه، الذي يقضي وقته بتفسيد أخلاق أولاد القرية، الذي لم يكن "نشنَن" عند أبيه، بعد فترة من الغياب يظهَر في وسائل الإعلام رئيسًا لأحباب الرئيس! أما «عبد الواحد» فيعود، مع من تجندوا، من الحرب في توابيتٍ، مما يجعل "عجيل" يحزن حزنًا شديدًا عليهم ويتحول حبه العظيم للقائد إلىٰ كره وبغض وحقد ويخيّب القائد أمله فيه.

عنصر المرأة العراقية الشجاعة في الطرح والرأي تمثَّل بـ "وردة" التي كانت تـعُدُّ القائد مجرمًا، والتي تتزوج، للمرة الثالثة، إسماعيل بعد أن رأته شخصية تستحق الاحترام. وكذا هي زوجة "الحاج عجيل" وعمة الشخصية التي تحدِّثنا، تمثِّل العبء الذي تحمله امرأة/عجوز كل بيتٍ، تظهر بقوة التحمُل والصبر والقدرة على البكاء وإنشاد المرثيات الشعرية.

هكذا يضع «محسن الرملي» بين أيدينا فتيتًا معبثرًا بلغةٍ متمكِّنةٍ وقدرةً علىٰ السرد بطريقةٍ سلسةٍ وواضحة، تسليط الضوء على المأساةِ بسخريةٍ لاذعةٍ.. وإن جانبت بعضَ المُفرداتِ الحياء.. فليسَ إلاَّ ليُبقيها المؤلف علىٰ ماهي واقعًا.

---------------------------

*علي حسين، العراق، نشرت في IRAQI BOOKISH بتاريخ ٢٠٢٢/٥/١٢

https://www.facebook.com/IRAQiBookish/photos/pcb.5362051580501215/5362051520501221 

بخط علي حسين

 ---------------------------

حدائق الرئيس.. مرثية فخمة للعراق

علي حسين

بذاتِ اللَّغة السلسة والسرد الواضح المترفَّع عن بعضِ مفرداته أخلاقيًّا، وَمَيلانِ المؤلف لطرح المأساة بسخريةٍ ولُذوع. ولربما يعود ذلكَ لِما وجدَ فيه المؤلف من تأثيرٍ جذّاب علىٰ السادة القرّاء.

ثُمَّ إنَّها البقعة ذاتها التي اختارها في روايته الأولىٰ «الفتيت المبعثر»، القرية ذاتها شخوصُـها الذين تغيّرت أسماؤهم هنا. الثيمةُ الأساس والمتن السردّي نفسه – فترة النظام الدكتاتوري السابق–. لم تختلف في «حدائق الرئيس» مع عمل المؤلف الأول «الفتيت....» ولكن بالطبع هنالِك لمسةُ التوضيح البادية علىٰ كل الأحداث والوقائع في رواية «حدائق الرئيس» التي لم يتعرَّض لها المؤلف بالشكل الڪامل في عمله الأول «الفتيت...» وإنِّي لأحسَب هذه الروايةَ جزءًا ثانٍ لرواية «الفتيت...» وإن اختلفت بالڪثير من التفاصيل في الروايتين، إلا إن الرموز –القرية وشخوصها علىٰ اختلاف التسميات– التي حرَّكت رواية «الفتيت...» موجودة في «حدائق...» فالقرّاء يفقدونُ كل هذا التشخيص والتركيز الجليّ في رواية «الفتيت...» مع إنَّه ڪان للأحداث – الحروب وما هو عليه النظام الدكتاتوري الحاكم آنذاك – وقعها في «الفتيت..» إلاَّ أنَّ المؤلف قد رڪَّز جُلَّ تفصيلاتَه في حال القرىٰ أو أفراد المجتمعاتِ عند وقوع المصائب والرزايا التي يشيبُ لها شعر الرأس!

ففي «حدائق الرئيس» إماطة للغطاء عن أغلب الأحداث والوقائع بسردٍ باهِر ويُشبع فضول السادة القرّاء.

هـنا في «حدائق...» التي تبدأ بفصل "أبناء شق الأرض" إبراهيم قسمة وعبدالله كافكا وطارق المندهش، الذين اكتسبوا ألقابهم مما اعتاده من القول أو ما هو عليه من حال! فـ إبراهيم لأنه لا يترك حديثٍ دونما يُتوِّجه بـ "كل شيء قسمة ونصيب" وعبدالله لأنَّه مجهول النسب ومشكوكًا بأمرِ أهله، ولأنه عدميٌّ يؤمن أن كل ما يجري هراء/خُراء ولا معنىٰ له ومتأثرًا ومولعًا بكتاباتِ فرانز كافكا، أما طارق فـ دهشته للأشياء التي يعرفها والتي لا يعرفها يكادُ لا يفارق وقعها علىٰ ملامحه. اختلفت التسميات في وصف ثلاثيتهم «الثلاثي، الثلاثي المرِح، الثلاث مؤخرات في لباس واحد». يكشف المؤلف عن محاور روايته من خلال هؤلاء الثلاث، فـبعد الانتهاء من تعريف علاقة القرية بإنسانها القرويُّ ذا الواقع الرتيب واستعراض ما هي عليه القرية وأفرادها – كما هو الحال في رواية الفتيت المبعثريركز المؤلف علىٰ «إبراهيم قسمة وعبدالله كافكا وطارق المندهش» وكل ما يتعلق بهم من مشاعرٍ وتعاملاتٍ وتوجهات من قريبٍ أو بعيد. يجعل الثلاثة كواجهةٍ للقرية وأفرادها، ويسبر أغوار النفس البشرية بمعظم حالاتها من "أبناء شق الأرض". وكذلك تتابع السرد والفصول الواحد تلو الآخر يتكفَّل ببيان حال المجتمعات العراقية بكافةِ أطيافها وأصنافها مطويةً كذلك بشخوصٍ معدودةٍ من القرية، وتحت شروع أمر "التجنيد الإلزامي" يلتحق كلٌ من «إبراهيم وعبدالله» إلىٰ جبهات القتال بينما تشفع لـ «طارق المندهش» دراسته وحمله لصفةِ "طالب". من صورة الإنسان الذي لا حول له ولا قوة، مُستدار الفمِ للباطن في خطاب نفسه فقط تمثَّلتْ بشخصية «إبراهيم قسمة» الذي ينصاع لأمر الحكومة رغمًا عن أنفه، كحال أغلب الشعب آنذاك. تصيب المواد الكيمياوية «إبراهيم قسمة» بالعُقم حيثُ لم ينجب غير «قسمة» التي يضع كل آماله فيها بدلالها وتعليمها بعد أن تزوجَ إحدى نساء القرية قبل التحاقه بالجيش. أما «عبدالله كافكا» فيزداد كآبةً وحُزنًا حيث يموت أبواه بالتبني "صالح ومريم" ولا يجد في أي شيءٍ معنىً، بل يحسب كل شيءٍ تافهًا خصوصًا عندما حرموه ممن يحب بذريعةِ أنه لقيطٌ ومجهول النسب! وتجري الأمور تمامًا مع «طارق المندهش» ليصبح كما والده الراحل إمامًا لمسجد القرية. يتشارك «إبراهيم قسمة /وعبدالله كافكا» ويلات الحرب الإيرانيّة-العراقية باستمرار السرد الإبداعي الذي تكتنزه أنامل "الرملي" يوضِّح للقارئ من خلال «إبراهيم وعبدالله» مآسي الحروب واندفاع أفراد الشعب برغبةٍ أو من دون الرغبة للاقتتال ودفع الثمن فيما بعد حيث تستريح الحكومة دونما أن تُصبها ذرةٌ مما في سوح الحرب! يعود «إبراهيم قسمة» سالمًا بينما يقع «عبدالله كافكا» في الأسر، ليُعرِّج المؤلف بنا لأدب السجونِ وتأثير الأسر علىٰ النفس البشرية بعد التعامل الوحشي وانعدام الإنسانية، بعد سنتين يجد «إبراهيم قسمة» نفسه في حرب احتلال الكويت. الموت والنهب والسلب أمام ناظريه، ورأىٰ مع البعض أنهم يُساقونَ لموتٍ فظيع بعد تدخل القوات الأجنبية وبدأها بالقصف وملاحقة الفلول حتىٰ الأراضي العراقية، الهروب الفوضوي وذعر الجنود أودىٰ به مع صديقه "أحمد النجفي" لقطع ساقه إثر انفجار قنبلة، يعالجه شاب في البصرة مشاركٌ في الثورة التي قُمعت فيما بعد باتفاق النظام العراقي والأمريكان ليعود للقرية بقدم اصطناعية ويمارس عمله القرويّ بأقل كفاءةٍ وجهدًا. يرسل «عبدالله كافكا» رسالةً مقتضبةً، وما ڪاد يفعل، يخبر بها القرية وأصدقاءه بأنه أسيرًا في إيران. يزداد سوداويةً وكآبةً ويكونَ أكثر صمتًا وتدخينًا للسجائر بعد عودته من الأسر فلا يُكلِّم أحدًا سوىٰ أصدقائه والخالة "زينب" باقتضاب شديد، ويومًا بعد يوم، ينطفئ كل شيءٍ في عينيه، وأصبح أكثر عدميةً عند مواجهته مأساته الخاصة والذاتية، عندما أخبرته "الخالة زينب" عند قبر أمه بالحقيقية، بأنه حفيدها من ابنها الأكبر "جلال" الذي زنا بـ "زكية" قاصرة العقل، ابنة أحد الفارين الذين يُسكنهم المختار في بيته، ليطرد "المختار" بعد مشاورة "الشيخ ظاهر والد طارق" ابنه الأكبر بحجة أنه يدرس في الخارج وتنقطع أخباره. بينما تسكن "زكية" عنوةً سردابًا مظلمًا حتىٰ تضع حملها وتُقتَل بعد ذلك علىٰ يد "المختار وظاهر"، لم يبدي «كافكا» شيئًا سوىٰ ازدياده عدميةً وانتظاره لموتٍ تافهة كحياته.

والاختلاف الذي يهتم بصياغته المؤلف، في الربع الأخير من الرواية، وما لم يُذكر –حدائق تتحول إلى مقابر جماعية– في غيره من أعماله الروائيّة قد اهتمَّ بذكره هنا في «حدائق الرئيس»، مما ساهَم ذلك الاختلاف الواضح المرسومِ بسردٍ باذخ ولاذع في إضفاء التمييز عن بقية الأعمال الأدبية، وبالتالي نجاح الرواية. يشاهد السادة القرّاء من خلال انتقال «إبراهيم» وقسمته وزوجته إلىٰ بغداد، بعد أن وجد له «طارق» عملاً في "حدائق الرئيس" مع موافقته علىٰ الثلاثية (لا أسمع لا أرىٰ لا أتكلَّم). يتفاجأ مما هو عليه الحال من بذخٍ وترفٍ وبطش داخل هذه القصور التي لم يرها من قبل، واعتاد عمله الجديد، بعد أن وجده سهلاً دونما تكلُّف، ويومًا بعد يوم هو باندهاش مما يرىٰ وما تبصر عيناه. حينئذٍ يشاهد ولأول مرةٍ سيادة الرئيس يصطاد سمكًا، وكذلك يبصره وهو يقتل فنانًا مشهورًا، تمنىٰ أن يلتقيه يومًا، ويفاجأ برؤيته علىٰ التلفاز في اليوم الثاني بعد أن قُتل! لم يتخلىٰ عن "كل شيء قسمة ونصيب" وأضحىٰ أڪثر صمتًا من ذي قبل، يزداد التمرّد والاحتقار لشخصيته من ابنته وقسمته بعد موت زوجته بالسرطان في إحدىٰ مستشفيات بغداد، إبّان تحويله لعملٍ آخر شديد السريّة، من جانب السلطة وبشعًا ومزريًا من جانبه. رأىٰ مكنون الحكومة وسيدها والقائد من خلاله إذ يؤتى له بالجثث التي لا قت شتىٰ أنواع التعذيب والتمثيل بها، قبل أن تموت بفظاعةٍ شديدة، ليُؤمَر بدفنها دون الاهتمام لكيفية الدفن، سوىٰ ألا يُظهر أثرًا ولا شاهدًا لها. فيعاملها كما يعامل الأحياء ويقرأ لمن يدفنه بعضًا من سور القرآن. وخطرَ له أن يؤرشف تلك الجثث ويُحدِّد مواقعها ويصفها بطريقةٍ بوليسية شديدة الحَذر، بعد شرائه دفترًا أراد أن يكتب فيه رسائل إلىٰ زوجته المتوفاة، يبقىٰ وحيدًا بعد أن تتزوّج قسمته من ضابطٍ في ديوان الرئاسة. صار خبيرًا في عمله وظلَّ يتنقل من حديقةٍ لأخرىٰ، ولڪن مالم يتوقعه هو سوء الوضعِ ڪثيرًا إبّان فترة السقوط، إذ صار دفن المعارضين للنظام بالجملة بعد أن تُحفر لهم حفرةً بواسطة الجرافات تضُمُّ أجسادهم وبعد رشقهم بالرصاص. يعود للقريّة عند دخول القوات الأمريكية وازدياد الوضع سوءًا في سماء وأرض بغداد، تلحقه ابنته «قسمة» وطفلٌ بين يديها بعد أن فقدت زوجها، قبل دخول العدوان بأشهر، ويُحدِّثها عن أرشفته للجثث ودفن زوجها هناك، بعد عودتهم لإخراج جثة زوجِها وهي تحتفي بموقف والدها البطولي لأول مرة، بعد أن لم تجد فيه غير شخصية العبد عند الملوك. تصيرُ دارهم في بغداد قبلةً لكل من لديه مفقود، ويقوم هو بدوره بإخلاصٍ وتفانٍ حتى بعد أن يعود للقريّة، ويُحذره "طارق" بأن يترك هذا الأمر لئلا يُقتل ويكون ضحية. لم يرتدع ولم يستجب لقول صديقه، وبعدها، يُعاد رأسه دون جسد مع ثمانية شخوصٍ من القرية بصناديق موزٍ في بلاد لا موز فيها! يبكيه الشيخ «طارق المندهش» صارخًا ويشرف على دفن رأسه، بينما لم يتحرك «عبدالله كافكا» من مكانه في مقهى القرية، ورأىٰ الناس لأول مرةٍ دمعًا ينزل من عينيه دون أن يرمش، وأكتفىٰ بقول "خلاص.. لقد ارتاح، لأنه ماتَ فعلاً تاركًا إيانا نعيش فوضىٰ الأقدار"...

لم يُغيّب المؤلف عنصر المرأة الشجاعة والمقدامة، التي قد تتحرك خطوةً نحو الأخذ بالثأر أو ما شابه، تذهب "قسمة" بعد أن تتزوج صديق والدها «طارق المندهش» كـ زوجةٍ ثانيةٍ، للبحثِ عن جثة والدها ويرافقهم «عبدالله كافكا» بعد أن امتنع عن مرافقة «قسمة» في البداية، لأداء عملية البحث، ولڪنه يسير جزءًا من الطريق معهم ويعود، بعد أن يتفاجأ بسماعه من «طارق المندهش» أنَّ أبوه "جلال" المطرود، قد عاد مع الأمريكان كزعيمٍ للمرحلة الجديدة. الأب الذي اغتصب أمه وتسبّب بقتلها، عاد ليغتصب البلاد كُلها.

هكذا تنتهي هذه المرثية الفخمة للعراق، كما بدأت، وفي الحقيقة إن التحليلات لها، تضعها مع الأدبيات المليئة بالدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية والتاريخية وقضايا الدكتاتورية والاستبداد المُحطِّم لجوانب الحياة، في واقع مرَّ به العراق ولا زال يدفع ثمنه... ما ڪان الإسهاب هنا إلاَّ من حقَّ هذه الرواية صدقًا...

المحبة والتقدير للرائع محسن الرملي.. أرجو له التوفيق لإبداع لا ينضب.

----------------------------------------------

*علي حسين، العراق، نشرت في IRAQI BOOKISH بتاريخ 26/5/2022م

https://www.facebook.com/photo/?fbid=1761587844173554&set=pcb.7434179059987559

ليست هناك تعليقات: