الاثنين، 3 مارس 2025

فحوصات: أزمة خيال عربي/ محسن الرملي

فُحوصات ثقافية

أزمة خيال عربي 

بقلم: الدكتور محسن الرملي

أين الخيال في آدابنا المعاصرة؟ أين الفنتازيا فيما نقرأه ونكتبه اليوم؟ لماذا لم نخلق ولو شخصية واحدة مدهشة منذ زمن طويل؟ لماذا لم ننتج عملاً يوازي بدهشته أية حكاية شعبية من حكاياتنا؟ ألسنا نحن الشرق الذي ما أن يأتي ذكره في أحاديث الآخرين عنا حتى تنفتح آفاق الذهن عندهم إلى مديات لا حدود لها من السحر والفنتازيا! البساط الطائر، مصباح علاء الدين بمارد شبيك لبيك، وافتح يا سمسم، رحلات السندباد، الكنوز الخبيئة والجزر الغريبة وما يصعب حصره في ألف ليلة وليلة، الحيوانات الناطقة بالحكمة في كليلة ودمنة، التجوال في العالم الآخر في رسالة الغفران، حي بن يقظان، طائر الفينيق، كلكامش وشخصياتنا الفريدة مزجاً بين الواقعي والخيالي، بين التاريخي والأدبي كمجنون ليلى، كيلوباترا، بلقيس، عروة ابن الورد، جحا، عنترة ابن شداد، أبو زيد الهلالي، الحلاج.. وغيرها.

لماذا ما نقرأه اليوم في آدابنا يتلبس بالواقعية ويفتقر إلى الخيال المدهش.. بل حتى أنه أقل خيالاً من واقعنا نفسه، وأقل من الواقع واقعية، بحكم المحاذير الاجتماعية والسياسية والدينية. كنا نجيد استلهام بذور الشخصيات من إرثنا وواقعنا وإرث وواقع غيرنا وأسطَرَتها، فما الذي أوقفنا عن ذلك! ها هي أمريكا اللاتينية، شريكتنا في كونها من العالم الثالث، قد قدمت واقعيتها السحرية على أبهى ما يكون وسحرت بها العالم، وها هي اليابان العلمية تدهشنا بشخصيات فنونها الخالية، وها هو الغرب الذي نتهمه بالواقعية والمادية يخترع شخصيات الخيال العلمي وشخصيات قصص الأطفال، وسوبرمان، باتمان، طرزان، فرانكنشتاين وهاري بوتر وغيرها، حيث يواصل تنقيبه في تاريخه وإرثه وإرث غيره عن حجر الفلاسفة والسحري والأسطوري كي يعيد إنتاجه في آدابه وفي السينما باحثاً عن الدهشة وخصوبة الخيال.. كأن الغرب قد أصبح شرقاً والشرق غرباً في هذا الأمر!

إذا كان واقعنا مرتبكاً أصلاً، فلماذا نواصل مراكمة الارتباك عليه عبر نتاجاتنا التي هي أكثر ارتباكاً في واقعيتها؟! ترى هل أخذتنا هموم واقعنا إلى الحد الذي حرمتنا فيه حتى من نعمة الخيال؟ أم أن حُسن واقعنا يفوق الخيال؟! أم أن موت الجدات، قد قطع عنا نبع الخيال؟ أم أن الشاشات قد أخذت منا أقصى دهشتنا وحاصرتنا حتى حجبت عنا رؤية ما سواها؟ فتحولنا إلى مجرد متلقين ومستهلكين لما ينتجه الخيال الآخر. تُرى هل نضب الخيال عندنا وتعطل إلى هذا الحد؟ أشك في ذلك، لأن الإنسان في معظم تكوينه اللامادي هو ثمرة المخيلة. وأتساءل أحياناً: إذا كنا عاجزين عن تصدير العلم والفكر إلى غيرنا الآن، فلماذا لا نصدر لهم الخيال على الأقل؟!

ليتنا نناقش هذه المسألة ونتفحص أزمة الخيال عندنا، فهذا النقص يعطلنا حتى عن إيجاد حلول إبداعية مبتَكَرة لمشاكلنا في مختلف الميادين، لذا نجد أنفسنا نكرر معالجات تقليدية أغلبها أثبت فشله.. ليتنا نأخذ هذا الأمر بجدية، ولو فيما يخص آدابنا وفنوننا أولاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 77 مارس 2025م

https://sibf.com/ar/pwhardcover

حوار مع محسن الرملي / مجلة بيننا

 

حوار

الروائي محسن الرملي:

الأدب شاهد على ما يحدُث ومُدافِع عن كل القضايا العادلة

ينقل الكاتب العراقي الإسباني محسن الرملي بقلمه تجربةً إنسانية عميقةً. في هذه المقابلة، يتحدث عن بداياته الأدبية، وتأثيرات الهجرة، وسرّ بقاء الأعمال الأدبية في الذاكرة عبر الزمن 

أجراه: أيهم الغريب Ayham Al Sati

ــ مدريد ــ

"الألم الإنساني"، هو ما ينساب في كتب الكاتب والروائي العراقي – الإسباني محسن الرملي، ليحكي عن “الحرب والدكتاتورية والعائلة والحب والهجرة والغربة واختلاف الثقافات، والقسوة والجمال”. يحمل في قلمه تراثاً ثرياً وتجربةً إنسانيّةً عميقةً. ولد في قرية سديرة شمال العراق، ويقيم في إسبانيا منذ 1995. خريج فقه اللغة الإسبانية من جامعة بغداد منذ العام 1989، حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة مدريد المستقلة.

بدأ الكتابة الأدبية مبكّراً، بدعم من شقيقه حسن مطلك، الكاتب والشاعر المُلقب بـ “لوركا العراقي” الذي أُعدم على يد نظام صدام حسين في العام 1990. حال مقتل شقيقه والملاحقات الأمنية له بينه وبين إكمال مسيرته لبعض الوقت، ثم أُجبر على مغادرة العراق إلى الأردن ثم إلى إسبانيا، حيث يُقيم فيها منذ ذلك الحين. لمحسن الرملي أكثر من عشرين إصداراً متنوعاً بين الرواية والقصة والشِعر والمسرحية، إضافةً إلى الترجمة.

استقبلنا محسن الرملي من محطة (كواترو كمينوس) حيث يسكن مدريد، بعناق وروح مليئة بالتواضع، واصطحبنا في شوارع الحي ثم إلى بيته الذي استحال مكتبةً. تعمقنا في الحديث معه حول بداياته، والمواضيع التي يُفضل تناولها في روايته، وحول علاقته بالأدب الإسباني، وكيف لرواية أن تقود حياة شخص لاختيار بلد وتغيّر مسارات حياته، وصولاً إلى الهجرة وتأثيرها في حياة الأديب، وكذلك أهمية تناول هذا الجانب والقضايا الكبرى والعادلة. كما تحدث إلينا حول قيمة الأدب العربي في إسبانيا والإسباني في العالم العربي. وكذلك السرّ في بقاء بعض الأعمال الأدبية واندثار بعضها الآخر.

*كيف بدأت مسيرتك الأدبية، وما أو مَنْ الذي ألهمك إلى طريق الكتابة؟ وما هي أبرز المؤثرات في إنتاجك هل هي خلفيتك المهاجرة أم العراقية؟ 

ـــ بدأتُ الكتابة الأدبية منذ أن كان عمري 12 سنة. أبي كان رجل دين (ملا) ورجل عشيرة (شيخ)، علَّم نفسه بنفسه القراءة والكتابة، وأخي حسن مطلك، وهو أكثر من أَثَّر بي في حياتي وأدبي، كان رساماً وكاتباً وكنتُ أتبع خطواته دائماً، حيث بدأتُ بالرسم ثم الشِعر ثم المسرح ثم القصص والروايات، وكان أخي هو الذي يشجعني ويرعاني في هذه المسألة، وقد نشرتُ بعض النصوص في الصحف العراقية عندما كنتُ في الجامعة، ولكنني اِمتَنَعتُ ومُنعتُ من ذلك طبعاً، بعد إعدام أخي حسن مطلك شنقاً سنة 1990، وغادرتُ البلد بعد التضييق عليّ وعلى عائلتي وعلى مجمل البلد، حيث اشتدت ضراوة الديكتاتور وضراوة الحصار معاً. قمعٌ لكل أنواع الحريات، ومعاناة في كل شيء. كانوا يستدعونني شهريا للتحقيق الأمني، حتى وأنا مجرد جندي في الجيش طوال الوقت، وكنتُ أتعذَّب نفسياً لأنني جندي في جيش يقوده قاتل أخي. لذا فحال انتهائي من أداء الخدمة العسكرية، التي دامت ثلاث سنوات في صنف الدروع، غادرتُ البلد باتجاه الأردن، وهناك عاودتُ النشر، فنشرتُ العديد من النصوص ونشرتُ كتابي الأول، وبعد عامين من الإقامة في الأردن انتقلتُ إلى إسبانيا.

*وما هي المواضيع التي تُفضل تناولها في كتبك؟

ـــ الألم الإنساني. الإنسان بمختلف همومه وأحلامه وعلاقاته المعقدة مع نفسه ومع غيره ومع ظروفه، الحرب والدكتاتورية والعائلة والحب والهجرة والغربة واختلاف الثقافات، والقسوة والجمال. وبشكل عام أنا أستمد أغلب مواضيعي من تجاربي الشخصية ومن تجارب الذين عرفتهم وعايشتهم، أنا ممن يرون بأن على الكاتب أن يكون شاهداً على عَصره بكل ما فيه.

*كيف كانت البداية مع إسبانيا والأدب الإسباني وصولاً للهجرة والاستقرار في هذا البلد؟ وهل كانت الثقافة الإسبانية مصدر إلهامٍ لك في كتاباتك؟

ـــ بعد أن قرأتُ رواية (مئة عام من العزلة) بترجمتها العربية، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، سَحَرَتني، فقررتُ دراسة اللغة الإسبانية في جامعة بغداد لأتمكن من قراءة هذه الرواية بلغتها الأصلية، على الرغم من أن دارِس اللغة الإسبانية في العراق ليس له أي مستقبل عملي، وهكذا غيّرت اللغة والأدب الإسباني كل حياتي، وأثَّرَت في تفكيري وثقافتي وسلوكي ونتاجي الأدبي، وعندما هاجرتُ هارباً من بلدي العراق، فضَّلتُ أن تكون هجرتي إلى إسبانيا، على الرغم من أن بلداناً أُخرى كانت تمنَح اللجوء السياسي والإنساني للعراقيين آنذاك، لكنني أردتُ ألا تكون أعوام هجرتي مُجرد أكل وشرب وأمان، وإنما أن تكون مُثمِرة ونافعة لي ولثقافتي، لهذا جئت إليها كطالِب وأكملت الدكتوراه، رغم كل الصعوبات الاقتصادية والبيروقراطية والنفسية التي عانيتها في الأعوام الأولى، وهكذا إلى أن انتهيتُ إسبانياً ولي عائلة جديدة إسبانية، أولادي الثلاثة، وُلِدوا هنا في مدريد.

*ما الذي منحته إياك الهجرة وما الذي أخذته منك؟

ـــ منحتني الكثير، وأولها وأهمهما الأمان والحرية، ومن ثم الانفتاح على الثقافات الأخرى ومعرفتها ومعايشتها بشكل مباشر أو أقرب، وبالمقابل حَرمتني من العيش وسط عائلتي وأهلي وأصدقائي وأرضي الأولى وذكرياتي، لذا كانت الأعوام الأولى صعبة ومريرة، إلى أن نشأت لي عائلة وصداقات جديدة، فخفَّفت عني شيئاً من هذا الحرمان.. لكن يصعب أو يستحيل تعويض ما فقدته، فقد مات العديد من أفراد عائلتي الأولى وأحلامي الأولى وأصدقائي في غيابي، وتغيَّرت ملامح كل شيء بسبب الحروب وبعدها الإرهاب.

*كيف ترى الأدب الذي يتناول موضوع الهجرة والاغتراب؟ وهل تعتقد أن الكتابة عن رحلة الهجرة أو مرحلة ما بعد الوصول تساعد في فهم أعمق لتجربة المنفى والاندماج في ثقافات جديدة؟

ـــ ما زال الأدب المكتوب عن الهجرة أقل مما يجب، وخاصة نحن نعيش في عصر أصبحت فيه الهجرة من القضايا والمواضيع الكبرى والتي نشهد تصاعدها كل يوم، بحيث أصبح الملايين مهاجرين ويعيشون في بلدان أخرى غير البلدان التي وُلِدوا فيها، وهناك الملايين أيضاً في العالم ممن هم أبناء مهاجرين، لذا أرى من الضروري أن يزداد كم الأعمال الأدبية والفنية التي تتناول هذه الظاهرة الكبرى، ابتداءً من أسبابها مروراً بصعوبات طُرقها ومعاناة بداياتها وصولاً إلى نتائجها على الإنسان الفرد وعلى المجتمعات، ولا شك أن الأدب سيُضيئ الكثير من جوانب وتفاصيل هذه الظاهرة بما يخدم الجميع والإنسانية عموماً، فالأدب والفنون هي خير مرآة يرى فيها الإنسان نفسه ويرى الآخر المختلف ويرى محيطه وعصره. وعلى الصعيد الشخصي فإن الأدب هو الذي علمني كيف أفهم الآخر المختلف وثقافته وكيف أُحبه وأُحب ثقافته وأتفاعل معها وحتى أُساهِم فيها.

*كيف ترى دور الأدب في دعم القضايا العادلة مثل القضية الفلسطينية؟ وكيف تؤثر الأحداث السياسية والاجتماعية على الأدب؟

ـــ نعم، دور الأدب كبير في كل زمان ومكان، وإن لم يكُن دوره فاعلاً ومؤثراً بشكل مُباشر كما تفعل السياسة والاقتصاد والإعلام، وإنما تأثيره بطيء ولكنه أعمق. الأدب الحقيقي يقف دائماً إلى جانب الضعفاء والبسطاء والمُهمشين والمظلومين والفقراء، وليس إلى جانب الأقوياء والمُتسلطين والظالمين والقُساة والمنتصرين، الأدب إلى جانب الضحية وليس إلى جانب الجلاد، إنه لا يقف مع حق القوة وإنما مع قوة الحق.

الأدب شاهد على ما يحدُث وحافظ للذاكرة ومُدافِع عن كل القضايا العادلة والحقوق الإنسانية، وفاضح للتظليل والكذب والتبريرات الزائِفة والمُفبركة، ورافض للعنف والظُلم والعنصرية. إنه يُذكِّر الإنسان بإنسانيته في كل لحظة، ويُحذره من طُغيان الجانب المتوحش فيه. إنه يعمل على إرهاف الحساسية الإنسانية والرقة والتعاطف، ويسعى إلى أنسَنَة الإنسان أكثر.

*في روايتك حدائق الرئيس، أحد الشخصيات الثلاثة الرئيسية إبراهيم قسمة يجد نفسه يعمل في دفن الجثث التي تُعدم، في سوريا اليوم بعد سقوط النظام تم اكتشاف مئات المقابر الجماعية للمعدومين أو المقتولين تحت التعذيب. ربما كثير من السوريين يفكرون في روايتك عند رؤيتهم أو سماعهم بما يجري. ماذا تعلّق على ذلك؟ وكيف يمكن للكاتب أن يكون شاهداً أميناً على مآسي شعبه دون أن يفقد الأمل أو ينغمس في السوداوية؟ وما هي برأيك مسؤولية الأدب في مواجهة هذه الفظائع وكشف حقيقتها؟

ـــ نعم، النظام الدكتاتوري الساقط في سوريا هو توأم النظام الدكتاتوري الساقط قبله في العراق، يتشابهان في كل شيء حرفياً، ابتداءً بتبني الأيديولوجيا الشوفينية الدموية كمطية للوصول إلى السلطة والانقلابات وسلوكيات القمع والتنكيل والتدمير، وفرض حكم العائلة والفرد بالقوة. دمرا بلدين عظيمين على مدى نصف قرن، لذا لم يفاجئني شيء مما تم كشفه من جرائم الدكتاتور السوري، بل أنني شاهدتُ أناساً يدلون بشهادات مشابهة تماماً لما روته سيرة شخصيات رواية (حدائق الرئيس).

بالنسبة للأدب هو يصف ويشخص، والتشخيص نصف العلاج، لذا فهو لا يقود إلى فقدان الأمل، بل بالعكس، يشير إلى مواضع إمكانية انبعاث الإنسان من وسط الخراب، وبانتصار ما هو إنساني في أعماقه مهما تعرض للسحق ومحاولة المحو، الأدب يصف ويُدين ويُحذر ويواسي الضحايا ويعبر عنهم، وبالخلاصة يكون شهادةً على عصره… 

أنا سعيد بخلاص سوريا من الدكتاتورية أخيراً، وقد شاركتُ في أغلب التظاهرات هنا في مدريد ضده على مدى أكثر من عشرة أعوام، وآمل أن يكون القادم أفضل، فهذا البلد الجميل العريق الغالي يستحق كل الخير وما هو أفضل دائماً.

*قلتَ مرّةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي: “تُكتبُ وتُنشر في كل عام مئات الروايات ولا يبقى منها إلا قلّة قليلة”. ما السرّ وراء بقاء بعض الروايات عبر الزمن بينما تختفي مئات الروايات الأخرى؟

ـــ الأدب الجيد الحقيقي هو الذي ينحاز للإنسان، يُواسيه ويُحاوِره ويُعبر عن آلامه وآماله وحرياته وحقوقه وأسئلته الوجودية، ويُدلّه على مواضع الجمال والقبح في الحياة، ويكون لديه عُمق وبُعد نظَر، هذا من حيث الموضوع، أما من حيث الشكل؛ فيكون مصنوعاً بشكل جيّد من حيث تقنياته الفنيّة وأُسلوب السَرد والعناية باللغة. أما ذلك المكتوب سريعاً بهدف الرِبح السريع أو مُجاراة الموضة والإمتاع العابر وبهدف التدجين والخداع، أو الذي يُستخدَم كأداة ترويج ومطيِّة للأيديولوجيات والعنصريات العِرقية والعقائدية، وبث الكراهية تجاه الآخر المختلف، فهذا سينتهي سريعاً بانتهاء هذه الأهداف الانتهازيّة المُؤقتة.

*هل هناك رسالة عامّة يريد الكاتب محسن الرملي قولها من خلال جميع أعماله الأدبية التي كتبها؟ إن وجدت فما هي؟ وإذا كان لكل عمل رسالته الخاصّة، فاذكر لنا بعض الأمثلة من أعمالك.

هذا أمر صعب، بالنسبة لي ولأي كاتب، فلو استطعنا أن نُوجز رسالتنا بكلمات مُختَصرة؛ لما اضطررنا أن نُكرِّس كل حياتنا لكتابة مئات الصفحات، لذا فإن أفضل طريقة هي قراءة هذه الإعمال، وكل عمل منها ينطوي على أكثر من رسالة، أعتقد بأنها تستحق الاطلاع عليها. مبدئياً، أدعو القراء بالإسبانية لقراءة روايتي (حدائق الرئيسLos jardines del presidente)، وذلك لأنها متوفرة في كل المكتبات، ولأنها تمثل أهلي وشعبي وبلدي الأول العراق أكثر مما تمثلني شخصياً، وبعدها، أنا على يقين من أن القارئ سيهتم هو من ذاته بالبحث عن أعمالي الأخرى، وسيجد فيها ما يُعجبه.

*كيف ترى إقبال القرّاء الإسبان على الأدب العربي؟ وهل تعتقد أن هناك اهتماماً متزايداً به في إسبانيا؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الترجمة في تعزيز هذا الاهتمام؟

ـــ للأسف إنه ضعيف وقليل ومُخيّب، ولا يتناسب أبداً مع ثراء وأهمية الأدب العربي الكلاسيكي منه والحديث، فغالبية الناطقين بالإسبانية يجهلونه، والمشكلة ليست في الترجمة، لأنه يوجد الكثير جداً من المترجمين الجيدين بين اللغتين، ولكن المُشكلة تكمن بِقلة الناشرين الذين يهتمون به، لأن أغلبهم يهتمون بمتطلبات السوق وبالموضات الرابحة على حساب الجانب الثقافي المختلف، والناشر الإسباني مَحلي وغير جَريء بالبحث في الآداب العالمية الأخرى والاختيار بنفسه، لذا فإن القليل الذي يُنشر من الأدب العربي، إما مُترجَم عن لغات أوروبية أُخرى نجح فيها، أو منشور في دور نشر صغيرة ومتخصصة تفتقر إلى إمكانيات الترويج والتسويق والتوزيع الكافية.

*وماذا عن إقبال العرب على الأدب باللغة الإسبانية، وهل هناك اهتماماً متزايداً به في العالم العربي؟ وكيف يمكن تعزيز التواصل الأدبي بين الثقافتين؟

ـــ إنه ممتاز، على العكس تماماً مما هو عليه حال ترجمة الأدب العربي في اللغة الاسبانية، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت ترجمة الأدب من اللغة الإسبانية إلى العربية غزيرة جداً، ويُرحب بها كل الناشرين العرب، حتى صار الناشر والقارئ العربي يعرف أكثر بكثير جداً عن الأدب والثقافة المكتوبة بالإسبانية مما يعرفه الناشر والقارئ الإسباني عن الأدب والثقافة العربية، وقد تُرجِمت أغلب الأعمال الكلاسيكية المهمة والأعمال الحديثة، بل وهناك مواكَبة لكل ما هو جديد، بحيث تتم ترجمة ونشر بعض الكتب بعد صدورها بوقت قليل، ومازال هذا الاهتمام متصاعداً، أما عن سبل تعزيز التواصيل الأدبي بين الثقافتين فهي كثيرة، وعلى رأسها أن تُساهم المؤسسات الكُبرى الرسمية والأكاديمية والخاصة، في مشاريع جادة لدعم الترجمة والتعريف والترويج، ولا يتوقف الأمر عند الجهود الفردية، وأن يكون الناشر والقارئ بالإسبانية أكثر فضولاً وتطلعاً وانفتاحاً وسعياً لمعرفة ما هو خارج نطاق ثقافته المحليّة والغَربية.

*هل تعمل على مشروع أدبي جديد، ما الذي يمكننا توقعه من أعمالك المستقبلية؟

ـــ لدي رواية، أعمل عليها منذ وقت طويل، ولكنها لا تنتهي، ربما أنها أصعب رواية أكتبها حتى الآن، وتختلف عن رواياتي السابقة، لأنها تتضمن فانتازيا، بينما رواياتي الأخرى واقعية. وهذه الفانتازيا التي أشتغل عليها، ليست مُختَرَعة، وإنما مُستمدة من الحكايات الشعبية التي سمعتها من أهلي في طفولتي، وتأثرتُ بها، فأصبحَت جزءاً من ذاكرتي وتكويني، وحتى من تجربتي ورؤيتي الشخصية، وأريد الحفاظ عليها وفي الوقت نفسه إعادة إحيائها بطريقتي، توظيفها وصياغتها وتأملها، وهذا مما يزيد من صعوبة كتابة هذا العمل. أما عن الأعمال المستقبلية، فأتصور أنها، من البديهي، ستكون أكثر نضجاً وعمقاً وتنوعاً بحكم تراكُم المعرفة والعُمر والتجربة.

*هل هناك سؤال تودّ أن يُطرح عليك، وقلّ من يسألك عنه؟ كيف ستُجيب عليه؟

ـــ أن يسألني الجِنيّ الذي يَخرُج من مصباح علاء الدين: أُطلُب أمنيتين، عامة وخاصة، ماذا تُريد؟ وسأُجيبه: العامة؛ أن ينتهي العُنف ويسود السلام في العالم، والخاصة؛ أن أتَفرّغ للكتابة لأُنجِز الأعمال التي أُريدها قبل أن أموت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في مجلة (بيننا) الاسبانية، بتاريخ 28/2/2025م

https://baynana.es/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%85%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d8%b4%d8%a7%d9%87%d8%af-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%a7-%d9%8a/

عن اعتزال الكتابة/ محسن الرملي / النهار

 

متى يَعتزِل الكاتب الكتابة؟

 

سارة النمس

محسن الرملي:

المرحلة العمرية الأفضل للكتابة هي بين الأربعين والخمسين

*هنالك روائيون كتبوا روايةً واحدةً لم يُعرَفوا بغيرها، ومن كتب بضعة أعمالٍ روائية تعدّ على أصابع اليد الواحدة وهنالك من استمّروا في التجريب والكتابةِ بلا توقف، باعتقادك متى على الكاتب أن ينسحب ويتوقف عن تأليف الروايات؟

ـــ لا يوجد قياس لهذه المسألة، فالأمر يتعلق بطبيعة كل كاتب، ظروفه وأفكاره ومزاجه، بل وحتى بوضعه الصحي والاجتماعي، وأعتقد بأن توقفه عن الكتابة يتوقف على مدى قدرته على الإضافة إلى ما سبق وأنجزه أم لا، وعلى مدى ما إذا كان لديه جديد وشيئاً يريد قوله، وفي كل الأحوال أعتقد بأن الكتابة بالنسبة للكاتب هي أسلوب حياة وهوية وانعكاس لكل وجوده وأفكاره ورؤاه، لذا نجد أغلبهم لا يتوقفون عن الكتابة طالما هم أحياء، وحتى الذين يتوقفون اضطراراً، لظروفهم، فهم لا يعلنون ذلك، على أمل أن يستطيعوا تقديم عمل إضافي جديد، حيث يبدو التوقف عن الكتابة بالنسبة لهم وكأنه توقف عن الحياة.

*كيفَ تتغيّرُ مخيّلة الروائي أو الروائية مع التقدّم في العمر؟ بين الشاب العشريني مثلاً الذي قد يمتلكُ المخيّلة الخصبة والاندفاع في تجاربه الشخصية والاجتماعية المُلهمة ولكنّه قد يفتقر إلى النضج والخبرة في استخدام الأدوات والتقنيات، ثم ينضج ويكتسِب الخبرة والتمكّن ويفتقد الإلهام والشغف، ما قولك في هذا؟

ـــ نعم، هذا تشخيص صحيح إلى حد كبير، وقد لا حظته في تجربة مسيرتي الشخصية مع الكتابة في مختلف المراحل العمرية، وكثيراً ما تحدثنا عن هذا الأمر، أنا والأصدقاء الكُتاب من مختلف الثقافات، كما لاحظنا ذلك في مراقبتنا ودراستنا لمختلف أعمال الكُتاب الآخرين من مختلف الأجيال والثقافات، وهذا لا يقلل من أهمية ما يكتبونه، بل يثريه ويجعل سلسلة أعمالهم متنوعة، من حيث الشكل والمضمون، فمثلاً؛ هناك فرق شاسع بين أول عمل لنجيب محفوظ كتبه وهو في العشرينات من عمره وعمله الأخير الذي كتبه بعد تجاوز عمره التسعين، ولكن لكل منهما أهميته الكبيرة... أما في تقديري الشخصي فإن المرحلة العمرية الأفضل والقادرة على الجمع بين الأمرين فهي ما بين الأربعين والخمسين، ليس على صعيد الكتابة فحسب وإنما في حياة أي إنسان، يبدو لي وكأن ما قبل الأربعين هو مقدمة للحياة وما بعد الخمسين هو خاتمة لها.

*هل يشعر الكاتب بعد تجارب روائية كثيرة بالاستنزاف؟ وأنّه استهلك كل أفكاره ومواضيعه وقضاياه في الكتابة؟ ما الذي يكون قادرًا على إثارة مخيّلة الكاتب وتحفيز إلهامه حينها حسب تجربتك؟ وما الذي يساعده على الاستمرارية وكتابةِ روايات قوّية وناجحة في مستوى توقعات قرائهِ؟

ـــ ليس تماماً، فحتى لو كان محور كل أعماله مواضيع وقضايا محددة بعينها، فسوف يبقى في داخله شيء يريد أن يضيفه إليها، وكما قال سيبويه: "أموت وفي نفسي شيء من حتى"، وشعوره بأن مازال لديه رأي أو وجهة نظر أو فكرة يريد أن يقولها وينفع بها الناس، هو ما سيساعده على الاستمرارية، ونلاحظ بأن الكاتب في خواتيم حياته وأعماله، لا يهتم كثيراً بتوقعات ورغبات القراء والنجاح، بقدر اهتمامه بما يريد قوله هو وبالطريقة والشكل الذي يريده، بغض النظر عن حسابات السوق والموضة والنجاح، وفي كل الأحوال فإن لدى أي كاتب ثمة شيء أو مشروع مؤجل يود لو ينجزه، ولا يوقفه عن سعيه إلى ذلك سوى وطأة الزمن والموت، فكما قال كازانتزاكيس: أنا لم أتعب، ولكن شمسي قد غربت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في صحيفة (النهار) بتاريخ 24/2/2025م

https://www.annahar.com/culture/197090/%D9%85%D8%AA%D9%89-%D9%8A%D8%B9%D8%AA%D8%B2%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9

الاثنين، 10 فبراير 2025

فحوصات: عن مخطوطات الأموات/ محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

مخطوطات الأموات

بقلم: الدكتور محسن الرملي

في ختام كل عام، تُجرى استفتاءات عن أهم الأحداث الثقافية، وكان جوابي، فيما يتعلق بالعام المنصرم، هو أن اسم الكولومبي غارثيا ماركيز، كان هو الأبرز مرة أخرى وبامتياز، وذلك بإصدار روايته، غير المنشورة (نلتقي في أغسطس)، وتُرجِمَت سريعاً، في وقت قياسي، إلى أغلب لغات العالم، ومنها العربية، وكذلك بإنجاز وبَث مسلسل (مئة عام من العزلة) على منصة نتفلكس، المُستَمَد من روايته الأشهر، وكلا الحَدثين أثارا جَدلاً كبيراً ونقاشات ثرية، مع وضد، في مختلف الأوساط والصحافة الثقافية ووسائل التواصل الاجتماعي في العالم، حول عدة قضايا مهمة، مازال البت فيها مُعلّقاً، رغم تكرار طرحها منذ عقود، وأهمها: قضية تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال درامية، وقضية مخالفة الورَثة للوصية، وقضية نشر مخطوطات الأدباء الراحلين، وهنا سأتوقف عند الأخيرة، لأنها تمسني شخصياً، فقد كانت ومازالت أحد أهم محاور اهتمامي وانشغالي في حياتي الثقافية والشخصية، حيث أخذتُ على عاتقي نشر كل أعمال ومخطوطات ونصوص ويوميات ورسائل أخي الراحل حسن مطلك، التي لم ينشرها بنفسه، المكتملة منها والناقصة.

إن لم تنشُر سوف تُلام، وإن نشرتَ سوف تُلام، لذا فأنا مع النشر لكل ما يتركه أي كاتب ومبدع حقيقي، فهذا سينفع الكثيرين من محبين وقراء ومهتمين ودارسين لأعماله ولأدبه ولسيرته ولعصره، وهو أمر لن يضر به، بل على العكس؛ سيسلط الضوء على طبيعة اشتغاله وخلفية وتفاصيل صناعته، وما يمحوه في نصوصه وما يُغيره، أما عدم نشرها فهو لا ينفع أي أحد.

فمثلاً؛ ما فعله ماكس برود، صديق كافكا، هو درس في هذه المسألة، فقد خالف وصية كافكا، القاضية بحرق أعماله بعد موته، وقام بنشرها، ولولا هذه المخالفة لما عرفنا ولا عرف العالم كافكا كما نعرفه اليوم ومدى تأثيراته على الأدب برمته. وأبناء ماركيز، الذين انتقدهم البعض لنشر مخطوط روايته (نلتقي في أغسطس)، لم يضروا بسمعته، بل زادوها وأعادوا تسليط الضوء على طبيعة اشتغاله، أو حتى على نوعيه العمل الذي لم يكن مُقتنعاً بنشره، وكان نشرها مناسبة لتقوم دور النشر بإعادة طباعة أعماله الكاملة والترويج لها مجدداً، فيما لم يضر نشرها ماركيز بأي شيء.

أما في حال امتناع الورثة عن النشر، علماً بأن أغلب أُسر الكُتاب في العالم هي غير مختصة وليست عارفة بالأدب وشؤونه، فيجب احترام آراء ومواقف تلك العوائل، لأن بعضها قد يعترض على النشر لأسباب عائلية أو شخصية، كخشية وجود أسرار أو أفكار ربما تمس أحداً أو قِيماً أو نظاماً وتسبب إشكالات للعائلة، وفي كل الأحوال؛ لا يحق لروابِط واتحادات الكُتاب أو للدولة أن تتدخل في الأمر بالضغط أو الإكراه، وإنما لتبدأ بالتواصل مع الورثة، بالإقناع، بالتطمين، بالترغيب، بتبيان أهمية الأمر، أو بشراء الحقوق، فإن لم تنجح، يمكن الانتظار إلى أن تسقط الحقوق، بعد خمسين أو سبعين سنة، حسب قانون البلد، وبعدها تتبنى المسؤولية والتعامل مع الأجيال الجديدة من العائلة للبحث والكشف عن المزيد من المخطوطات، أو عن كيفية التعامل مع آثاره الأخرى، كمكتبته أو بيته أو قبره وما إلى ذلك. لقد حدث هذا قريباً مني، هنا في إسبانيا، مع الورثة، فحتى الآن مثلاً، ترفض عائلة لوركا نقل رفاته وإقامة قبر مستقل له عن الذين تم قتلهم ودفنهم معه خارج غرناطة، وكذلك الأمر مع ورثة الشاعر بيثنته ألكساندرة (نوبل 1977)، حيث رفضوا كل المناشدات لتحويل بيته إلى متحف أو ترميمه، إلى أن انتهى الأمر بشراء بلدية مدريد للبيت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 76 فبراير 2025م

https://sibf.com/ar/pwhardcover 

السبت، 1 فبراير 2025

مراجعات لروايات الرملي / رسل حكمت

 

قراءة في روايات محسن الرملي

هذه مراجعتي لبعض من روايات القلم العراقي المبدع الأستاذ محسن الرملي؛ (حدائق الرئيس) و(بنت دجلة) و(تمر الأصابع)... نوع القراءة: ورقية (كتاب من مكتبتي). 

رسل حكمت بهجت

حدائق الرئيس.. رواية وجع شعب

رواية حين تقرأ سطورها يصغر الكون في أحداقكَ ويتعاظم الالمُ في جوفكَ... تبدأ سطورها برؤوس مقطوعة تُعاد الى ذويها في صناديق الموز تلك الرؤوس ليست ارقام في عداد الموتى في بلد أرتوتْ أرضه من دماء أبناءه أنما هي سجلٌ حافلٌ وتاريخٌ زاخرٌ بالذكريات يجسد أهوال الدهر التي تنصب تباعا على رأس العراقي المنكوب في بلد مسلوب لا تغادره الويلات.. هي سجل لعراقي ترافقه الاوجاع منذ لحظة إبصاره لنور الحياة الدنيا مع أول صرخة يطلقها في الفضاء الرحب الخانق...
يا لهذا التناقض فضاء رحب خانق!!!!

يصير خانقاً لا يتسع لصرخة طفل عراقي لحظة ولادته لأنه فضاء ملوث بالأكاذيب والشعارات الزائفة كلٌ يغني على ليلاه تاركاً الوجع يجوب مسافرا بلا تأشيرة في داخل الروح العراقية
إبراهيم الذي يعد المفتاح الأول للرواية يُعاد إلى أهله رأس بلا جسد كأن العراق فيه تجسد
طفولة بسيطة، شباب مرهق، سرقت الحرب فرحة الشباب وزهوه بآهاتها، ساق وحيدة يستند بخطواته على طرف صناعية، زوجة تصارع المرض وينتصر عليها، بنت وحيدة بعيدة كل البعد عنه....
عمل مع ساق واحدة وطرف صناعي لم يختره يوماً، أجبر عليه ليكون كاتم سر يحاول عبثاً أن يتعايش مع ذلك الوضع ويتجرع مرارته...

رواية تحكي وتسرد وجع شعب.. الحب والحرب له متلازمان، كأنهما خلقا من رحمٍ واحدة. قسوة وجبروت النظام الحاكم، حنان وطيبة تملأ أبناء ذلك البلد. فقر مدقع، حصار، قهر، مرض وجوع وموت يحيط الشعب من جوانب الحياة جميعا، يقابل ذلك ترف يعيشه الرئيس الذي لا يحب إلا نفسه... وفي ذروة تلك المعاناة هنالك، خلف قضبان السجون وظلمة وقسوة التعذيب، تجد من يقلد الأمم المتحدة سلاما لأرض العراق، لأرضٍ ما عرفت يوما معنى السلام وما رأت يوما سلام...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


بنت دجلة.. في بلد يأكل أبنائه

قرَّرَتْ أن تأكل العراق الذي يأكل أبناءه، أكل والدها وزوجها وطفولتها ومستقبلها، أكل كل أحلامها. بحثت عن طريقة حين أجادت البحث نالت طريق شائك محفوف بالمخاطر، غامرت ولم تخش تجربته، لكنها لم تكن على يقين بأن الأحلام كلها رهن الاعتقال والتلاشي، في بلد يأكل أبنائه أيصعب عليه أن يأكل أحلام وطموحات زائفة ؟!!!!

لم تدرِ أن ذاك الهوس الذي اجتاح روحها عند رؤية رأس أبيها في صندوق الموز، في بلد لا تُنبت أرضه موزا، وهو أن تتخذ من وطنٍ علَفا لحلم جديد تصاعد الحلم وبلغ منتهاه، وهي ترى عشرات الجثث المغدورة في مشوار بحثها عن جثة أبيها مقطوعة الساق، تلك الجثة التي سرقت الحرب ساقها، ليأتي الغدر ويسرق منها رأسها، فالعراق في أبراهيم تجسد... كلُّ يأتي ليقطع منه ما يرغب ويشتهي،
وها هي قسمة حاولت ساعية أن تنال بعضٌ من انتقامها من أجل روحها المنكسرة ولوالدها الذي أرتضى بكل ما جرى بقوله (قسمة ونصيب).

حملت روح المجازفة، وكانت على يقين أن النوارس ستبكي يوما على ضفاف شواطئ دجلة، وضحك للمقابر التي يقطنها العشرات من الأشخاص يوميا لمعلومي الهوية، وأخرى لا يُعرف من أين جاءت ولمن تعود؟

كانت تستشعر في كل لحظة ذاك الخطر الخفي الذي يتربص بالجميع، كظلٍ لا يزول، ليأتي صباح على قرية، فيكون صباحها مشرقا وهي ضاحكة ًوأخرى باكية، وكلاها على نهر دجلة، ليسجل كل شيء في بلدي، ويقيد بحق مجهول لا أكثر.

وها هي بنت دجلة (قسمة)، كأمها بغداد، صارعت لتبقى، لكن الأنجاس تأبى بقاءها، لتبقى الخرافات مع اختفاء الأحلام هي الشيء الوحيد الذي يُصدق ويُقدس، حيث لا يُحسب حساب إلا للأكاذيب، ولا يقدس سوى الحيلة، أما الدم العراقي فهو الشيء الأكثر بخسا، لا يساوي إلا بضع دراهم معدودة...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

تمر الأصابع.. روح تنشطر

تناقضٌ خطير.. روح تنشطرُ إلى نصفين كلاهما نقيض للآخر، وآهات شظاياها عالقة في الأذهان تأبى الزوال. شطران للروح يتصارعان.. أحدهما تواقٌ للسلام والآخر يبحث بين أكوام الأصفاد عن بريق للحرية، لنيل ما تبقى من كلمة الحرية، من أجل قَسم، لا تبرح تلك الروح حتى تفي به،
بعد ذاك الهروب المحتوم من قدر غريب وواقع مشؤوم، بعد أن عجز سليم عن التنفس واستنشاق هواء ملوث، بعد تعفن جثث أقاربه داخل القرية... هروب يترك خلفه أحلام طفولته التي جعلت منه شاعراً، بعد أن غرق في حب عميق، امتدت جذوره بعيداً، حيث تلك العيون الصغيرة انغرس بريقها عميقاً في جوف الفؤاد... وما كان للحلم الطفولي بقية، حيث كان النهر أكثر قربا، نهر يفيض خيرا، يصير في لحظة؛ السارق الأكبر لجميل الأمنيات... سفر بعيد وليل غربة تطول ساعاته
لتبزغ في فجر إحدى لياليه... لقاء غير متوقع، تنجرف الروح مع ذاك اللقاء، لتوضيح عقدة ان يتحول الشخص إلى فاعل ما لا يطيق ولا يرغب، فيترك الخلاف فجوة بين الأيادي التي لوَّحت مرارا وتكرار لبعضها؛ حباً وشوقاً، فإذا بلحظة، حجب غضبها نور العيون، لترسل إحدى تلك الأيادي صفعة، تكون بمثابة تلويحة وداع أخيرة...

هل هنالك زوال للهموم أو واقع يعيشه العراقي، وإن كان صاحب حق، ليجعل من حياته وبعض بقايا الأمل كابوساً فضيعاً، ينتظر زواله أو يتقبل ان الحياة ما هي إلا عذاب قبر.. يخوف بها الأجداد احفادهم... وتبقى تلك الطريدة التي نسعى خلفها جميعاً.. تلك الطريدة الرعناء المحصورة بين الحاء والتاء.. ما هي الا أكذوبة كبرى...

https://www.facebook.com/profile.php?id=100081055906077


الأربعاء، 15 يناير 2025

عن رواية حدائق الرئيس لمحسن الرملي/ بشاير المحيميد

 

رواية حدائق الرئيس للدكتور محسن الرملي

بارِعة، مُذهِلة في رسم الشخصيات والأحداث 

بشاير المحيميد

انطباعي عن الرواية:

رواية أذهلتني، هزّتني، أبكتني، آلمتني، فجّرت في داخلي براكين الأسى، ثم أفرحتني لثوانٍ، ثم خطفت الفرحة لساعات، وتركتني في همي وحزني.

ليست رواية عن حال الحرب فقط، بل أيضاً عن سيرة الأبرياء البسطاء، الباحثين عن المعنى الحقيقي في الحياة، الراجين للسلام والخلاص، الناشدين لأبسط صور السعادة، لا ذهب ولا جاه ولا مال، بل يد دافئة، ويوم هانئ، وضحكات قلوب غالية.

في هذه الرواية بكيت عن كل المساكين، عن سمحيه وحبها الأول والأخير، زكيه البريئة التي لا تريد من الدنيا الا رؤية قمرها، عن زينب وهي تفقد وتفقد ولا لها حول ولا قوة، عن أحمد المفقود، سعد الفتى الساذج، ثم عبدالله كافكا وهويته ورغبته بالحياة، وأخيراً عن إبراهيم! سيد المساكين، مَن حاول أن يجد شتى المعاني في القسمة والنصيب، وها هي الحرب تسلب منه كل قسمته ونصيبه!

نقدي التحليلي (المتواضع):

بشكل عام

الرواية بالنسبة لي.. فاقت أي منتج في الأدب أو السينما أو التلفزيون. استطاعت أن تخترق الأحاسيس وتوصل حال الحروب، وما تخلفّه من معاناة، بأسلوب شيق ورشيق لا نراه في كثير من الروايات.

بشكل تفصيلي:

١.الأفكار

أرى أن الأفكار يتم استيعابها بسهولة ووضوح، ولا تحمل غموضاً قد يتوه معه القارئ.

١.١.الفكرة الرئيسية هي حال الحياة مع الحروب...

الرواية تجسد وضع أي بلد في حالة حرب، وأجد أن كفاءة ومعرفة الراوي، استطاعت تجسيد ذلك بلا أي مبالغة أو محدودية، فأخذنا بما يحدث في نفوس الناس الأبرياء من خوف وفجيعه، وترقب، وآمال ممتدة قد لا ترى النور ابداً!

وكذلك نفوس المحاربين، ففيها الضياع، والرعب، والقهر، وفي حالات، الدناءة والانحطاط وموت الإنسانية والضمير، وكيف تستطيع الحرب أن تكشف الوجه الأكثر حزنًا وألماً للإنسان، وفي اللحظة ذاتها، الوجه الأكثر بشاعة وحقارة، بما لا يمكن للحياة الطبيعية أن تُظهره.

٢.١.الأفكار الثانوية:

-الطبقية وأثر السلطة؛ كحال الرئيس والرفاه الذي يعيشه، في حين تتم تصفية الشعب، وكذلك حال من له قرابة بالرئيس أو له منصب، فيستطيع أن يعيش حياة هانئة ولا يعكره نظام أو التزام كحال بقية الناس.

-سخرية الحياة وأنها ليست دائماً عادله؛ كقصة جلال المغتصِب الذي أصبح من الشخصيات المهمة في البلاد! وزكيه المسكينة والبريئة التي تُرجَم وتُعدم بلا محاكمة عادلة ودون أي شهود!

٢.الشخصيات

تتميز الشخصيات هنا بأنها تعكس طبائع البشر واستجاباتهم في الحياة عامة والحروب خاصة،

فهناك من يُسلّم، ويراها قسمة ونصيب، كإبراهيم، وهناك من يعترض، ويراها فوضى وحال ينعدم فيه المعنى وتتماهى فيه الغايات كعبدالله كافكا، وهناك من ينتهز الفرص ويقدم نفسه ورغباتها قبل كل شي، كحال طارق.

وأرى أن الكاتب استطاع أخذنا مع كل شخصية وحالها، منذ البداية حتى النهاية، بمهارة فريدة وبما لا يتعارض مع جودة تصويره للمشهد أو براعة الوصف والسرد، فها نحن نتعاطف أشد التعاطف مع إبراهيم المغلوب على أمره، ونغضب ونأسى لحال عبدالله كافكا اليتيم والمهضوم حقه في الحياة السعيدة، ونشمئز ونستهجن تصرفات طارق، وطريقة تفكيره الطفولية أحياناً، والانتهازية أو اللامبالية في أحيان أخرى.

٣.الاحداث

أجد أن الكتاب استطاع نقل الأحداث والتغيرات في مواضع مختلفة بذكاء وفهم عميق ودقيق لكل موضوع، مما يدل على خلفيته المعرفية الواسعة وتعمقه.

١.٣.القرية

جسد لنا الكاتب ثقافة القرية؛ فالعلاقات قريبه، متلاحمه، وحميميه أكثر من المدن، ففي المدن نادراً ما سنجد "أبناء شق الأرض" ونسمع هذا الشعار مُخلداً من الجميع، العائلة، الجيران، والأصدقاء، وأيضاً بساطة القرية، فالأولوية بأن تصبح فلاحاً على أن تكون طالباً متعلماً، ومن جهة أخرى؛ ما يحدث في القرية من مشكلات، كمشكلة بعض القيم المتطرفة، كالعار، الذي قد يجعل أب ينفي ابنه ويقتل إنسانه ظلماً، لأجل اسمه وشرفه!

٢.٣.السجون

جسد الكاتب ما يحدث في الأسرِ والسجن من فوضى، تمحي الضمير ومعالم الإنسانية من النفوس، فهناك التعذيب، والإذلال وغسيل الدماغ.. حتى يصبح الموت رحمة يتمناها الإنسان وينشدها للخلاص!

٣.٣.السلطة

وأخيرًا، وفي "حدائق الرئيس" يُسلّط الضوء على جانب مظلم آخر من الحرب. يظهر الرئيس، قائد هذه الحروب ورمز العدالة وحامل قيم الإنسانية النبيلة، وقد أصبح أحقر شخص في البلاد؛ إذ يعيش في منتهى النعيم، بينما هناك من يُسحق ويعدم بسبب قراراته، أو حتى بيديه، كما حدث مع الموسيقي المسكين "نبيل". ليجسد أقسى معاني الطغيان والجبروت، مُظهراً الوجه الأشد ظلامًا وانحطاطًا للإنسان!

أجد أن الكاتب، أكثر من بارع، إنما خارق، أسطوري أو خرافي، إذ استطاع خلق كل هذه المشاعر المتضاربة، والأحداث المتعددة والثقيلة جداً، والشخصيات المتناقضة والعميقة، التي تتطلب ساعات من الذهول، وأيام من الأسى.. وكرتون مناديل لدموع لا تنتهي... وكل هذا في ٢٧٠ صفحه فقط!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قُرأت هذه المداخلة في (نادي حروف) في (مكتبة صوفيا) في الرياض، ضمن جلسة مخصصة لمناقشة رواية (حدائق الرئيس)، بتاريخ 12/12/2024م

*بشاير المحيميد، فنانة وكاتبة سعودية.

https://www.instagram.com/bashsart_?hl=es