الاثنين، 15 أبريل 2024

حوار مع محسن الرملي /أجراه: محمد عليوة، مجلة: البيان

 

الروائي العراقي محسن الرملي

كتبت "الفتيت المُبعثَر" ونشرتها في زمن الطاغية

غامرت بتعريض حياتي وأهلي للخطر بسببها

 

حوار: محمد حسني عليوة

الحوار مع الروائي والشاعر والأكاديمي العراقي محسن الرملي، يعني الالتقاء بطفولته وترحاله وتجربته المتشعبة بين الذكريات الأولى، مروراً بزمن الدكتاتور الذي دوّنه ونشره بروايته في زمنه نفسه، متحدياً عواقب الملاحقات، وعبر تجربة الهجرة التي عرّفته بآداب أخرى اشتغل فيها ترجمة وعملاً أكاديمياً أثرى به المشهد الثقافي العربي والعالمي، ولكن يظل سحر عوالمه الروائية مبعثاً للأسئلة التي تحاول استكشاف بذرتها الأولى ومراحل بناء شخوصها وأحداثها، وهذا ما ركزنا عليه في حوارنا التالي:

*في كثير من كتاباتك القصصية والروائية نجد أجزاءً من سيرتك الذاتية. كما لو أنك تسعى دائمًا لتوثيق تجربتك الشخصية، ولترسيخ بناء معرفي شامل لكل الأحداث التي عشتها. ألا يزعجك أن يكون ذلك انعكاسًا، ضمنيًا، على شخصيات أعمالك ذاتها؟

ـــ نعم، أنا من الكُتاب الذين لا يخلو أي عمل لهم من جانب من سيرته الشخصية، والأمر لا يتعلق بقضية التوثيق بقدر تعلقه بالصِدق، الصدق مع النفس ومع الآخر وفي الاشتغال الفني، فأنا ممن يؤمنون بأن على الكاتب أن يكتب عما يعرفه، ويتجنب الافتعال والاختلاق والتكلف، وبالطبع، فإن أكثر ما عرفته ورافقته وحاورته في حياتي، هو ذاتي نفسها، وقد تعرضَت وعاشَت هذه الذات تجارب كثيرة، أعتقد بأنها تستحق أن أتأملها وأتمثلها في الكتابة، وأطرح من خلالها رؤيتي الخاصة للعالم. وبالطبع لا يزعجني انعكاس ذاتي على الشخصيات أو فيها، بل، على العكس، يزيدني معرفة ومحبة لها كلما وجدتها أقرب إلى نفسي، ففي نهاية الأمر، كل الشخصيات تتغذى من ذات الكاتب، وفلوبير، رائد الرواية الواقعية الحديثة، كان يقول: "مدام بوفاري هي أنا". وحتى على صعيد القراءة، فمنذ البدايات، كنتُ أميل وأتأثر بالروايات التي تنطوي على جانب كبير من السيرة الذاتية.  

-*-*-

 

*لا يمكن العيش دون ثنائية الخير والشر، الحب والكره، الحرية والقيد. هذه التناظرية الوجودية في حياة البشر كيف صغتها في رسم مصائر شخوص روايتك "أبناء وأحذية"؟

ـ الثنائيات موجودة في كل شيء، وخاصة فيما يتعلق بكل ما هو إنساني، وبمجرد تأمل وتفحص لشؤون الإنسان سيتم الانتباه إلى ذلك، بل إن جوهر الحِراك قائم على هذه الثنائيات، وهذا أيضاً ما عكسته السرديات الكبرى والروايات الخالدة، منذ (كلكامش) مروراً بـ(الإلياذة) و(ألف ليلة وليلة)، وصولاً إلى (دون كيخوته) وما تلاها من الروايات الحديثة… في رواية (أبناء وأحذية) انطلقتُ من فكرة إعادة طرح الأسئلة الأساسية، وخاصة ما يتعلق بمفاهيم الخير والشر، الجمال والقبح، العدل والظلم، المعنى واللا معنى، وبشكل أكثر تحديداً، الدعوة إلى إعادة تأمل وتعريف ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، لأن عصرنا اليوم يعاني من ضبابية وتشويش بل ومتاهة للتمييز بينهما والاتفاق بشأنهما. إننا في عصر تشوّهت وتشوشت فيه مفاهيم الأخلاق وتاهت علينا.

-*-*-

 

*في هذه الرواية مساحات جغرافية، وثيمة فنية مختلفة، ابتعدت فيها عن أجواء الحرب ومحطات الصراعات وسلطوية القبضة الحديدية التي تناولتها في أعمالك السابقة. كيف ذلك؟

ـ نعم، لأنني أردت الحديث فيها عن معاني أخرى تتعلق بالوجود الإنساني والعلاقات بين الثقافات والناس والطبيعة، بعيداً عن القضايا التي سبق وأن تناولتها في أغلب أعمالي، ذات الأبعاد السياسية والجغرافية والتاريخية وما يتعلق بالشهادة عليها عبر التدوين والتوثيق للذاكرة، ففي هذا العمل، شهادة لجانب آخر، وربما أعمق، لشؤون إنسانية بحتة، ولرؤى متباينة في عصرنا، ومنها، كما أسلفت، موضوعة الأخلاق، على الرغم من أن البعض، ممن نظر إلى هذا العمل سطحياً، ينتقد فيه مشاهداً (غير أخلاقية)، دون أن ينتبه إلى أن ذلك في جوهر عملية إعادة طرح السؤال عما هو أخلاقي وغير أخلاقي.

-*-*-

 

*حظيت أعمالك باهتمام القراء والنقاد، شرقًا وغربًا، وتُرجمت إلى عدة لغات، وقد فازت الترجمة الإنجليزية لروايتك "الفتيت المُبعثر" بجائزة أركنساس 2002. حدثنا عن هذه الرواية.

ـــ إنها أولى رواياتي المنشورة، وأعتز بها كثيراً، كونها مكثفة وقصيرة وفيها الكثير من بذور قضايا توسعتُ بها لاحقاً في أعمالي التالية، وخاصة ما يتعلق بالشأن العراقي اجتماعياً وثقافياً وقضية أو مفهوم الوطن، كما انها من الروايات المبكرة التي تناولَت موضوع الدكتاتورية، كتبتها ونشرتها واشتهَرت في زمن الدكتاتور نفسه، وهذه مغامرة لا أدري كيف قمتُ بها وتجرأت عليها، غامرتُ بتعريض حياتي وأهلي للخطر. كما أن فيها تجريباً فنياً ولغوياً، وقد بذلَت المترجمة ياسمين حنوش جهداً كبيراً في نقلها، مما أهلها للحصول على جائزة الترجمة باستحقاق.

-*-*-

 

*في إهداء روايتك "تمر الأصابع" كان جليًّا تشظي قطارك برحلات شتات لانهائية، إلا أن محطة العراق، وهي مهد طفولتك الأول، أمسكت بزمام الحنين. أين أنت الآن من العراق، وأين العراق منك؟

ــ أنا والعراق الآن بعيدين عن بعضنا مكانياً وزمانياً، لكننا مرتبطين ببعضنا ارتباطاً لا فكاك منه إلى الأبد، الأمر يشبه تماماً علاقة الابن بأمه، فمهما ابتعد وتشكلت حياته بعيداً عن أحضانها وكوّن عائلة جديدة، تبقى الأم هي مرجعيته العاطفية وحاضنة ذاكرته ويبقى قلقه عليها والتزامه الذاتي تجاهها يومياً وبلا انتهاء، لذا أرى تعبير (الوطن الأم) تعبيراً دقيقاً، وما من إنسان أو كائن إلا وكان لأمه دوراً أساسياً في تكوينه، والعراق أمي، بلدي التي كنت ومازلت وسأبقى، مهما حدث، محباً ووفياً لها وحالماً وعاملاً لسلامها وخيرها ورِفعة مكانتها واسمها.

-*-*-

 

*بالعودة إلى "تمر الأصابع" والتي صدرت بالإسبانية أولًا، ثم ترشحت طبعتها العربية ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2010. لماذا كان صدورها أولًا في مدريد؟ وكيف جاءت فكرة خلاص الشخصيات من وطأة المعاناة والتوتر في سجنهم الكبير؟

ــ صدرت في مدريد أولاً لأسباب عديدة، منها أنني كتبتها في مدريد وتدور أحداثها الحاضرة فيها، وفي مسودتها الأولى كانت مكتوبة بخليط من اللغتين العربية والإسبانية. كانت انعكاساً لحالي بشكل كبير، وهي أول عمل لي تدخل فيه السيرة الذاتية بشكل كبير. نشرتها أيضاً لأنني كنت أريد أن أكون فاعلاً ومتفاعلاً في الساحة الثقافية التي أنا فيها، وليس مجرد مهاجر معزول عن محيطه.

أما عن خلاص الشخصيات، ففي الحقيقة، هي كانت خلاص لي أولاً، ففي هذه الرواية أعدتُ التعرّف على نفسي بين عالمين، شرقي وغربي، حرية ودكتاتورية، حداثة وتقاليد، وقد بينت فيها هذه الثنائيات التي كنت أعيشها فعلاً، لذا بعد الانتهاء من كتابتها شعرت بمصالحة مريحة مع نفسي، حيث أدركت ما هو راسخ في داخلي وأود الاحتفاظ به، وبين ما هو جديد أتقبله أو أرفضه. إنها تتناول شخصيات من ثلاثة أجيال من عائلتي ومجتمعي، عرفتها على مدى حياتي، ولكل جيل حصته من التأثير في ذاتي، وهذا ما بينته الرواية بوضوح. فهم كل ذلك كان فيه الخلاص من الدوران بين سجن الاغتراب، سواء الاغتراب في الموطن الأول أو في الموطن الجديد.

-*-*-

 

*عبر سيرة ذاتية ممتدة من "سديرة" إلى "عمّان" مرورًا بإسبانيا وانتهاءً بطريق عمّان - بغداد، جاءت "ذئبة الحُب والكُتب" بتقنية سردية مختلفة عن "حَدائق الرئيس"، "تَمْر الأصابع" و"الفتيت المُبعثر"، في بحث شاق عن الحب النقي؛ لتتقصى أمل الإنسانية المهدر وسط عذابات الأوجاع وعبثية الخراب؛ كي تمنح صوتهم لآذان العالم عسى أن تنصت إليهم. كيف صنعت ثيمة الحب تلك خلاص الشخصيات؟

ـــ شكراً لك على هذا الوصف الجميل لهذا العمل، فأنا يسعدني أي قول أو رأي لصالحه، لأنني أحبه بشكل خاص، فقد حلمت بكتابته طويلاً، وبسبب الأحداث والتقلبات العاصفة ببلدي وبحياتي وبمعارفي، كنت أؤجل الكتابة عن الحب، الذي هو أسمى مشاعر الإنسان وأكثر ما يجعله يشعر بأن لحياته معنى، فكرست له هذا العمل، لأقول فيه أغلب ما أردت قوله عن الحب، واستخدمت فيه مختلف طرائق السرد ووظفتُ فيه العديد من الأجناس الكتابية، وضمنته الكثير من الآراء والتجارب والسيرة، بحيث أميل في أغلب الأحيان إلى تسميته (كتاب) أكثر من تسميته (رواية). هذا العمل، هو فعلاً؛ دعوة للحب.. بحب. أحث فيه على عدم السكون بانتظار الحب وإنما أن نسعى إليه. هذا العالم المُتعَب والمُتعِب بحاجة إلى مزيد من الحب.

-*-*-

 

*كتابك "الأدب الاسباني في عصره الذهبي": رصدتَ فيه التحولات التي طرأت على الفكر والأدب الإسباني في القرنين السادس والسابع عشر ضمن المناخات السياسية والثقافية التي كانت سائدة وقتها. حدثنا عن تلك التجربة.

ـــ بدأت الفكرة عندما كنت أُحضر لأطروحتي للدكتوراه، حيث انغمست حينها كثيراً بالقراءة والبحث في أدب القرون الوسطى الإسباني، أو ما يطلقون عليه أيضاً بالعصر الذهبي، فوجدته ذهبياً حقاً، كونه مفصلياً في التحول والتأسيس الثقافي الذي تم البناء عليه لاحقاً لهوية الثقافة الإسبانية، ومن ثم ثقافة كل البلدان الناطقة بالإسبانية، إلى يومنا هذا، وفكرت أن هذه التجربة ستكون نافعة لثقافتنا أيضاً، لأنها تعيد طرح الأسئلة الجوهرية وإعادة صياغة المفاهيم، فقمت بترجمة دراسات عن آداب تلك الحقبة وقضاياها من حيث الأشكال والمضامين، إضافة إلى ترجمة خمسين قصة قصيرة وأكثر من مئة قصيدة وعدة مسرحيات قصيرة.

-*-*-

 

*في منتصف التسعينيات أشرت، بإحدى مقالاتك، إلى أن القارئ الإسباني بات "يتجه إلى شراء الكتاب المرئي والمسموع والكتاب الالكتروني بعد كتاب الجيب"، كيف كانت رؤيتك وقتها، وماذا بعد كل هذه السنوات؟

ـــ لا أنكر أنني كنت قلقاً في أعماقي حينها، بل وخائفاً من أن يقود ذلك إلى اختفاء الكتاب الورقي الذي صاحبته وصاحبني وعشقته وأدمنته طوال حياتي، بالطبع أحترم الجديد والتجديد والتطور، ولكنني لم أكن أتخيل، ومازلت لا أريد أن أتخيل، بأن يكون العالم خالياً من الكتب الورقية، فمجرد رؤيتها تبهجني وتجعلني أشعر بالطمأنينة والمؤانسة، ولم أقِم في حياتي أبداً في أي مكان، بما في ذلك في الخنادق أيام خدمتي العسكرية، إلا وجعلتُ فيه مكاناً للكتب أمام ناظري… أما وبعد مرور كل هذه السنوات، وأصبح الكتاب الإلكتروني موجوداً، دون أن يتمكن من طرد الكتاب الورقي، فقد صرت أرى فيه أمراً عادياً بل وضرورياً للكثيرين، وإن كنت أنا مازلت لا أحبذه حتى اليوم ولا أطيق القراءة من الشاشة طويلاً، عدا ان ما أقرأه من الشاشة ارتبط عندي بأنه عابر وآيل إلى النسيان، مثل الذي نقرأه في وسائل التواصل أو مواقع الأخبار وغيرها، فيما يبقى الذي نقرأه في كتاب ورقي أطول عمراً في الذاكرة، وحتى تعامُلنا معه أكثر جدية، وبشكل عام توصلتُ إلى خلاصة مفادها: إن أدوات الكتابة وحفظ الكتابة تتغير وتنتهي، لكن الكتابة لن تنتهي أبداً طالما وِجد الإنسان؛ بدأنا بألواح الطين ثم ورق البردي ثم الورق ثم الشاشات وقد نكتب غداً على الهواء.. وهكذا، لكن الإنسان سيبقى يكتب.

-*-*-

 

*من خلال دراساتك وأبحاثك على مدى أعوام، كنت حريصًا على كشف أثر الثقافة العربية والإسلامية في رواية "الفارس المجنون الذي يحارب طواحين الهواء الـ "دون كيشوت" للأديب الإسباني "ميغيل دي ثربانتس"، حدثنا عن ذلك.

ـــ بدأ ذلك مع عملي على أطروحة الدكتوراه أيضاً، أردتُ البحث ودراسة أهم عمل أدبي كُتِب بالإسبانية عبر العصور وما مدى مساهمة ثقافتنا فيه، فكان حتماً هو الكتاب الذي يُعد أُم الروايات الحديثة في العالم، رواية (دون كيخوته)، لصاحبها ميغيل دي ثربانتس، والذي، بفضل هذا العمل، صارت اللغة الإسبانية تُسمى باسمه (لغة ثربانتس)، كما تُسمى اللغة الإنكليزية (لغة شكسبير) والألمانية (لغة غوته) والفرنسية (لغة موليير). وبالفعل توصلتُ إلى نتائج واستنتاجات عديدة وبعضها جديدة، بشهادة مختصين كبار في الدراسات الثربانتيسية، ونُشرتُ بعض تلك الاستنتاجات بالإسبانية والفرنسية والعربية. أعتقد بأن ثربانتس لو لم يتأثر بثقافتنا لما استطاع كتابة هذا العمل الخالد. من ناحية أخرى، إن اهتمامي بهذا العمل يأتي من كوني أكتب الرواية أيضاً، وكل مُعلمينا من كبار كُتاب لرواية في العالم، أشاروا إلى أنهم قرأوا وتأثروا بكتابين أساسيين في هذا الميدان، وهما: (دون كيخوته) و(ألف ليلة وليلة)، وقد تعلمت الكثير من هذا العمل، لذا أحث دائماً زملائي الكُتاب وعموم القراء المهتمين بالروايات على الاطلاع عليه.

-*-*-

 

*الرواية، بموقعها الراهن، ذاكرة جريحة في جسد السرد. كيف ترى الأصوات الروائية فـــي العراق- بما يعتري المشهد العراقي من إشكالية الأفق الضبابي سياسيًا واقتصاديًا؟

ـــ أرى بأن الرواية العراقية اليوم في أفضل مراحلها، من حيث الانتاج كماً ونوعاً، فلم يسبق لها أن كانت بهذا الازدهار والانتشار، مواكِبة لحركة الرواية في العالم العربي والعالم، ولا تقل عنها شيئاً، بحيث انها زاحمت وتقدمت على بقية الفنون حضوراً، بما في ذلك فن الشِعر الذي عُرف بتصدره في العراق عبر العصور. إنك لا تجد اليوم مكتبة عربية تخلو من رواية عراقية، كما يمكنك أن تجد ترجمات لنماذج منها في أكثر من ثلاثين لغة، وهذه أمور ما كانت موجودة قبل عشرين سنة. كل ذلك بفضل جهود الكُتاب الفردية ودون أي تبني أو رعاية أو دعم أو اهتمام من مؤسسات الدولة، ورغم أن البلد يمر بصعوبات وفوضى سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية متواصلة منذ عقود وحتى اليوم. وما زال لدى العراقيين الكثير مما سيقدمونه في ميدان الرواية.

-*-*-

 

*جرّاء التحولات السياسية والأزمات المتوالية في المجتمع العراقي، تعرضت شخصيات أدبية والتي أثارت أعمالها الروائية الكثير من التساؤلات حول الهوية وإشكالية الانتماء، أنت ذُقتَ تلك المرارات لذلك كانت إسبانيا محل لجوء آمن لك. أيكون ذلك هروبًا من نوع ما؟

ــــ نعم، إنه هروب للنجاة أولاً ومن أجل عنصرين أساسيين بالنسبة لي، وهما: الأمان والحرية. فحرية وحياة المبدع في العراق مهدَّدة في هذا الزمن، بل وفي كل أزمنته، وقائمة أسماء المبدعين الذين تم اعتقالهم أو تعذيبهم أو طردهم أو إخفائهم أو إعدامهم أو اغتيالهم طويلة، أطول من قائمة المبدعين المقتولين في أي بلد آخر، وأنا شخصياً فقدتُ أخي والعديد من أصدقائي المبدعين، في زمن النظام البائد وفي هذا الزمن الذي تلاه.

-*-*-

 

*الرواية تضع الكاتب في مأزقٍ عالقٍ بين الحياةِ والموت، بين البناء والهدم، بين الوطن والشتات. ماذا تعني لك الرواية؟

ــ الرواية، بالنسبة لي، هي أفضل الفنون وأشملها لفهم الإنسان، فهم ذاتي وفهم الآخرين. إنها قادرة على احتواء مختلف الفنون من حيث الشكل، وعلى احتواء مختلف المواضيع من حيث المتن، بما فيها المتضادات التي ذكرتها، وهي على هذا النحو تشبه الإنسان، تشبه الحياة، ولهذا يصح وصفها بأنها مَقطَع من الحياة. الروايات هي أكثر الكتب التي أقرأها وأكتبها، معها أشعر بالأُنس والتفاهم.. مثل صديق حميم.

-*-*-

 

*حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل 1988جاء من خلال ترجمة أعماله. لذلك زاد الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى عدة لغات، وهناك جهود حثيثة من مؤسسات ثقافية كبرى تبذل في هذا الشأن.  من ناحيتك، كيف ترى حركة الترجمة الآن؟

ـــ إنها أكثر من السابق لكنها أقل مما يجب. فالأدب العربي لا يقل شأناً عن أي من آداب الأمم الأخرى، لكن لسوق الكتاب العالمي والترجمة اشتراطات ليست متعلقة بالقيمة الأدبية دائماً، وثمة عوامل أخرى كثيرة تدخل من خارج جودة العمل الأدبي، كالجوائز المعروفة وتحويل رواية إلى فلم وحدوث ضجة إعلامية لسبب ما، إلى جانب إيجاد دار نشر مهمة ووجود آلة إعلامية مؤثرة للترويج، فالترجمة وحدها أحياناً غير كافية لإيصال العمل إلى مساحات واسعة من القراء، لذا فإن الكثير من الترجمات، التي تفتقر إلى هذه العوامل المساعدة، سرعان ما تؤول إلى المخازن والنسيان.

-*-*-

 

*المشهد الثقافي العربي جزء لا يتجزأ من الواقع الذي يعيش صراعاته المتلاحقة، الروائي والشاعر والأكاديمي محسن الرملي. ما مدى انعكاس ذلك عليك وعلى كتاباتك؟

ـــ تأثيره كبير بالطبع، لأنني ابن هذا المشهد وأحد المتفاعلين معه، فأنا في نهاية الأمر: كاتب عربي، لغتي وذهنيتي ومواضيعي وهمومي واهتماماتي جلها تنطلق من البيئة العربية وتتجه إليها. وما زال حرصي على التواجد والفعل والمشاركة وعلى الوصول إلى القارئ العربي هو هدفي الأول، بحيث كففتُ عن كتابة النصوص الإبداعية بالإسبانية، إلا ما نَدر، وبالنسبة لي؛ فإن المشهد الثقافي العربي، رغم كل إشكالياته، فهو في نمو وتحسن، بل ربما يكون هو أفضل من بقية الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها، فهو في حراك دائم ومواكبة للجديد في العالم ومنتج لأعمال لا تقل جودة وقيمة عن الأعمال التي تنتجها ثقافات أخرى أكثر استقراراً.

-*-*-


*بمناسبة عملك كمحرر ثقافي في الصحافة منذ العام 1985، وإتقانك الكتابة باللغتين العربية والإسبانية، هل من حاجة مُلحّة لدى دور النشر العربية لمهنة المحرر الثقافي؟

ـــ نعم، إنها حاجة ملحة وضرورية جداً، وآن لها أن تدخل صناعة النشر العربية بحِرفيّة، وخاصة بعد هذا النمو الكبير والمتسارع في الكتابة والنشر. ما عاد لنا ككُتاب أن نكتفي باستشارة بعض الأصدقاء، الذين غالباً يجاملوننا أو يتعاملون معنا من باب التشجيع والمحبة، وإنما نحتاج إلى مراجعات ومناقشات محررين محترفين؛ إذا أردنا لأعمالنا أن تكون أكثر جدية وجودة. وشخصياً حظيت بهذه التجربة مرة واحدة، عند كتابة رواية (بنت دجلة) التي رافقني في مراجعتها، محرر إنكليزي مُحترِف، فأدركت أكثر مدى ضرورة هذا الدور والتخصص، وتعلمت منه الكثير.

-*-*-

 

*بالحديث عن لجان تحكيم الجوائز والمسابقات الأدبية، وورش الكتابة.. كنت ضمن تلك اللجان، كما أدرت وِرشًا للكتابة الإبداعية في بلدان مختلفة. فهل تعتبر تلك الورش مجالًا صحيًّا لإنعاش المشهد الأدبي والثقافي في العالم العربي، وما تقييمك لتك المسابقات؟

ــ نعم، كلاهما إيجابيان وضروريان، كضرورة وجود المحرر الأدبي، التي ذكرناها سابقاً، وذلك من شروط مسيرتنا نحو خلق صناعة نشر وسوق كتاب وقطاع ثقافي حيوي، قوي، فاعل ومؤثر. الأدب ليس ترفاً، أو مجرد هواية لشغل أوقات الفراغ، كما يتصوره البعض، إنما هو هوية ومرآة الإنسان، كأفراد وجماعات، وبما أن أحوال الإنسان متغيّرة على الدوام فلابد أن ترافقها تغيّرات في عمليات إنتاج الثقافة والأدب، ومما يحسّن ويقوي هذه المواكبة، ضرورة دخول عناصر من صلب تشكيلها، كورشات الكتابة الإبداعية والجوائز المحفزة، وتقييمي لحالنا فيها الآن، هي انها جيدة، واستطاعت، في وقت قصير، أن تساهم كثيراً في تحريك المشهد الثقافي والأدبي، ونحن بحاجة إلى المزيد منها والتحسين من معايير وآليات ما هو موجود، وأخذها على محمل الجدية بشكل أكبر.

-*-*-

 

*ما الذي تعمل عليه الآن من مشاريعك الإبداعية؟

ـــ لدي رواية، أعمل عليها منذ وقت طويل، ولكنها لا تنتهي، ربما انها أصعب رواية أكتبها حتى الآن، وتختلف عن رواياتي السابقة، لأنها تتضمن فنتازيا، بينما رواياتي الأخرى واقعية. وهذه الفنتازيا التي أشتغل عليها، ليست مختَرَعة، وإنما مستمدة من الحكايات الشعبية التي سمعتها من أهلي في طفولتي، وتأثرتُ بها، فأصبحَت جزءاً من ذاكرتي وتكوني، وحتى من تجربتي ورؤيتي الشخصية، وأريد الحفاظ عليها وفي الوقت نفسه إعادة إحيائها بطريقتي، توظيفها وصياغتها وتأملها، وهذا مما يزيد من صعوبة كتابة هذا العمل.

-*-*-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في مجلة (البيان) التي تصدر عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 645 أبريل 2024م

http://alrabeta.com/Uploades/Magazines/45397.5323476389.pdf

 

قصة محسن الرملي /قراءة: كمال الرياحي

البَقَـرَة الوُجُـوديَّـة 

https://www.youtube.com/watch?v=zeQaqEfzSpA

قراءة الكاتب والناقد والإعلامي التونسي: كمال الرياحي

 فيديو في يوتوب 

قصة: محسن الرملي

رأيتُ بَقرةً هنا، في غُربتي، في هذه الأرض البعيدة، فاستحضرتُ كل الأبقار التي توالَت على التواجد في بيتنا وأرضَعَنَني.. اِقتربتُ منها.. كأنها إحداهُن.. كأنها كُلهن.. شعرتُ بحنين وشُكر، حَدّ الرغبة بتقبيلها.. ولأن أمي كانت تُسمي أبقارها، سألتُ هذه البقرة عن اسمها، فقالت: بُووووووع.

 ولأن أمي كانت تُجيد التحدث مع الأبقار، جرَّبتُ الكلام مع هذه البقرة، فتحدثتُ طويلاً عن نهاية التاريخ والعولَمة وقرارات مجلس الأمن ومشاكل الفايروسات في الانترنيت ومصير الهويات و.. فأدركتُ بأن هذه الأشياء لا تعني البقرة على الإطلاق.. لأن هويتها هي ذاتها، مُجسَّدَة كما هي. تأكُل وتُعطي الحليب وتتكاثر، ولا تشغلها مسألة المصير أبداً.. فكل بقرة هي هوية لكل الأبقار.. تَطابقٌ في الحِس المَعيشي والرؤية الصامتة، الثابتة، الواحدة للوجود ـ أو اللا رُؤية ـ وإيقاف العَقل عن التَعب، لأن النتيجة واحدة... تُبادِل السلوكيات بمثلها، في آنِها، وكَفى... طَيِّبةٌ مع المُتعامِلين معها بِطيبة، رافِسةٌ للمتعاملين معها بالرفس.. لا يُوجعها إلا لحمها هي وصغيرها حتى يَكبر.. البقرة هي هي، منذ بداية وجودها كجنس حي، وحتى تَنقرِض.. لم تتغير، ولهذا؛ فإن أيّة بقرة في أيّ مكان، هي أيّة بقرة في أيّ مكان آخر. تَكفي معرفة واحدة لمعرفة الجميع، لذلك؛ فلا قلق على هويتها.. وكأنها لا تموت.. فرغم التاريخ الطويل من الذبح فيها، واستغلالها تَحميلاً وحَرثاً ورُكوباً وتَقطيعاً.. ما زالت كما هي؛ تجسيداً لهويتها، وثباتها في موقفها ورُؤيتها وسُلوكها.. كأنها فَهِمَت كل شيء، وارتَضَت الصمت، أو أنها لم تفهم شيئاً، ولجأتْ إلى الصمت.. والإصرار على تكرار السلوك الحياتي المُستجيب لها، هو حاصل في لحظته..

 البقرةُ التي رأيتها هنا في هذه الأرض البعيدة، جعَلتني أستحضرُ كل الأبقار التي توالَت على التواجُد في بيتنا وأرضعَنَني... اقتربتُ منها.. كأنها إحداهن.. كأنها كُلهن.. شعرتُ بحنين وشكر، حَدّ الرغبة بتقبيلها.. وحين سألتها عن فهمها لهذا العالَم، قالت: بُووووووع.

_____________________

*من كتاب (تحفة السهران)، قصص محسن الرملي، دار المدى 2017م

فحوصات عن أزمة الشعر، محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

هل الشِعر في أزمة حقاً؟

بقلم: الدكتور محسن الرملي

الغالبية، إن لم نقل الجميع، في كل العالم، يتحدثون عما يسمونه (أزمة الشِعر)، حتى صار الأمر وكأنه مُسلّمة مُتَّفق عليها.. بل وقال البعض بموته. لذا سأحاول هنا، في هذه الوقفة القصيرة، أن أنظر إلى الأمر بشكل مغاير، القيام بفحص عام، أو النظر إلى نصف الكأس المُمتلئ.

أعتقد بأن الذي أطلَق وأشاع وكرّس هذا التصور (أزمة الشِعر)، ورَفع مقابله لافتات ازدهار الرواية و(زمن الرواية)، هو سُوق الكِتاب، الناشرون وأصحاب المكتبات ومجمل العاملين في تجارة الكتُب، وصَدقَّهم الجميع، بما في ذلك الشُعراء أنفسهم، وفاتهم أن سوق الكتاب ليس لديه معايير نقدية أو أدبية أو فكرية أو جمالية، أو أهداف معنوية تتعلق بالارتقاء بالحس الإنساني والذائقة الفنية والإثراء اللغوي والوعي الاجتماعي والهم الوجودي وما إلى ذلك، وإنما لديه معيار أساسي واحد، ألا وهو نسبة المبيعات والأرباح، وهو وفق معياره هذا، صادق في إطلاق حكمه وشعاره، لأن دواوين الشِعر لم تعُد تحقق مبيعات جيدة فعلاً، وحتى شعراء غربيين كبار، تنشُر لهم دور نشر كبيرة، صاروا لا يطبعون سوى خمسمئة نسخة من أي ديوان، وإذا تم بيعها يقومون بطبعة ثانية من خمسمئة نسخة وهكذا، وهذا إجراء احترازي براغماتي عَملي مادي مُبرَّر ويمكن تفهمه، لأن هناك أزمة في بيع الشِعر... كيف يَحدث هذا ونحن الذين نستهلك الشِعر دائماً بالملايين؟ شُعراء وقراء ومستمعون ودارسون ومُغنون وعشاق وحزانى وفِرحون وسهارى ومستأنسون وغاوون وعاطلون!

ببساطة، ومن منطق السوق نفسه: لماذا نشتري بضاعة متوفرة بكثرة ومجاناً، بمختلف أصنافها وفي كل الأوقات؟ بإمكاننا قراءة أية قصيدة ينشرها أي شاعر، من على صفحاته في وسائل التواصل، أو من مختلف مواقع الإنترنيت المقروءة والمرئية والمسموعة، سواء للصحف والمجلات والمهرجانات والقنوات والمسابقات والأمسيات وغيرها.

كل ما يتعلق بالشِعر هو في ازدياد، إلا بيعه في كُتب، عدد الشعراء في ازدياد، مهرجانات الشعر وجوائزه وترجماته ومناسباته وأماسيه ومسابقاته وبرامجه وقراءاته وإصداراته وتوظيفاته وعلاقاته ودراساته ونقده والحديث عن عنه، وابتكار سُبل مختلفة ومتجددة لإيصاله والحث على اقتنائه، ومنها إصدار الدواوين المخطوطة باليد مع رسومات لفنانين معروفين، إرفاق النصوص بأقراص فيديو وموسيقى، ذهاب الشعراء بأنفسهم للبحث عن القراء، عبر الإكثار من أمسيات التقديم في المكتبات والمدارس والمقاهي والساحات والأسواق، القراءات المصحوبة بالمشاهد المسرحية، النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، مضاعفة عدد المهرجانات الشعرية في الدول والمدن والقرى الصغيرة، والترجمة إلى كل اللغات الممكنة.. بينما جل هذا غير مُتاح، أو غير مناسب لأجناس أدبية وكتابية أخرى كالرواية والقصة والنقد والمُذكرات والدراسات والسِير الذاتية وغيرها، حيث مازالت أفضل وسائط إيصالها وقراءتها هي الكِتاب.

وفي رأيي، أن أزمة بيع الشِعر هي لصالحه، لأنها تُحرِّره من اشتراطات السوق وضغوط المتاجرة التي تتعرض لها بقية الأجناس بشكل لا هوادة فيه ولا فكاك منه. ولهذا نجد أيضاً، بأن الشِعر الذي يخضع لتلك الشروط هو أضعفها وأكثرها افتعالاً، وإن كان أعلاها صراخاً، ومنه قصائد المناسبات وبرامج المسابقات وما شابهها.

إن الشِعر هو رفيق الإنسان في كل زمان ومكان، والفن القادر على التكيّف مع أي لغة ولهجة وظرف وتجريب وتغريب، وإذا كان الأدب هو حُسن انتقاء وتنظيم اللغة بجمال، فإن الشِعر هو روح الأدب وأجمل أجناسه.

خلاصة: هي أزمة بَيع دواوين الشِعر، وليست أزمة الشِعر نفسه، فالشِعر لا يموت.

*كاتب وأكاديمي عراقي إسباني يقيم في مدريد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي)، العدد 66 ابريل 2024 الشارقة.

https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_6b8bf016612b41aa89b782222a30e1.pdf