الأربعاء، 1 أكتوبر 2025

فحوصات ثقافية: عن السينما والرواية/ محسن الرملي

فُحوصات ثقافية

جَفوة السينما والرواية 

بقلم: الدكتور محسن الرملي

الرواية والسينما هما أبرز فنون عصرنا وأكثرهما رواجاً واستهلاكاً وتأثيرا، وكان لتعاونهما الحيوي، في منتصف القرن الماضي، دوراً في هذا الرواج والتأثير، إلا أننا ومنذ نهايات القرن؛ لاحظنا تراجعاً في التعاون بينهما، وصرنا نشهد فورة في إنتاج الأفلام، ولكن القليل منها مقتبس عن روايات، وبالمقابل؛ شهدنا، وما زلنا، فورة في كتابة الروايات الناجحة، دون أن تنتبه أو تكترث بها السينما. وفي رأيي؛ إن أحد أبرز أسباب ذلك، قد بدأ مع ظهور ما يُسمى بالسينما المستقلة، ثم البديلة، ثم الذاتية أو الفردية، التي يتفرد فيها المخرج باختيار وتقرير الفكرة وكتابة السيناريو والإخراج، وأحياناً حتى التمثيل والإنتاج.. والتحكم في كل شيء، ومن أمثلتها: وودي آلن أمريكياً وبيدرو المودوبر إسبانياً ويوسف شاهين عربياً، وإذا كانت بعض هذه التجارب قد نجحت، فهذا لا يعني أن السينما بمجملها ستنجح إذا سارت في هذا المنحى، لأن السينما في الأصل، هي فن وعمل جماعي وتلقيها يكون جماعياً. أحد أصدقائي السينمائيين الإسبان، أسس شركة إنتاج ونجح في فلمين، أنتجهما بالصيغ التقليدية، أي العمل الجماعي، فكرتها لها كاتبها، ثم سيناريست متخصص، ثم مخرج وممثلين مناسبين، لكن موجة السينما الذاتية أغرته، فقرر أن ينتج فلماً عن طفولته الشخصية، وخاصة بعد نجاح فلم (أسرار القلب) سنة 1997 لزميله آرمينداريث، فكانت النتيجة فشلاً ذريعاً وخسارة كاملة أخرجته من العمل السينمائي تماماً.

إن التعاون بين السينمائي والأديب سيُكسِب أحدهما جمهور الآخر، وكلنا شهد ازدهار الجنسين عربياً عندما كان يتم تحويل روايات وقصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهم، إلى أفلام، وما زالت تلك الأعمال راسخة في الذاكرة، ورقياً وضوئياً، نعود إليها باستمرار. إن الفلم الناجح يقود المشاهِد، غير القارئ، إلى البحث عن الرواية الأصل لكي يقرأها، والرواية الناجحة تدفع قارئها إلى مشاهدة الفلم المستوحى منها؛ ليرى كيف تم تجسيدها، وهكذا تتسع دائرة التلقي والفاعلية لمصلحة الطرفين، ولصالح الحراك الثقافي والاجتماعي عموماً.

الرواية والسينما يتشابهان من حيث قدرتهما اللامتناهية على استيعاب مختلف أشكال الفنون الأخرى، ولا يوجد أي فنان معاصر لم يتأثر بتقنياتهما ورؤاهما وطروحاتهما. استفادت السينما من المتن الدرامي للرواية، واستفادت الرواية من التقنيات السينمائية. إنهما جنسان متصلان منفصلان. يقوي أحدهما الآخر إذا اتصلا. يتميز الروائي بقدرته على التقاط الثيمات والأحداث الجوهرية وعلى إعادة صياغتها في بناء درامي مُقنِع، ويهتم كثيراً في البناء النفسي لشخصياته ووصف محيطها الاجتماعي والزماني والمكاني وتأثيراته عليها، يعيش أجواء عمله بكل حواسه ويتقمص شخصياتها، فيما يكون السيناريست منفصلاً إلى حد ما، فهو يتصور المشاهد أكثر من عيشها، ويقوم بإلباس الشخصيات لآخرين، ممثلين، ولا بتقمصها هو نفسه. إنه يفكر ويرى بعين الكاميرا دائماً، محصوراً ضمن إطار الشاشة وحدود مساحة المَشاهَد. في الكتابة، يمكن القول بأن الروائي قد ينجح كسيناريست، ولكن من النادر أن ينجح السيناريست كروائي.

للأسف، إن أغلب السينمائيين قد كفوا عن قراءة الروايات منذ شبابهم وبواكير انغماسهم بالعمل السينمائي، وهذه دعوة لهم؛ للعودة إلى قراءة الروايات، وأنا على يقين من أنهم سيجدون في أنفسهم الرغبة والقناعة والحماس لتحويل بعضها إلى أفلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب) العدد 84، اكتوبر 2025م

https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_a361bbad7a9949319fc8d75fe31a80.pdf

السبت، 27 سبتمبر 2025

عن رواية ذئبة الحُب والكتب / رياض العلي

 

"ذئبة الحُب والكتب".. لحظة مفصلية 

رياض العلي

حينما وقعت بين يدي رواية "ذئبة الحب والكتب" للمرة الأولى، كانت صدمة جمالية وفكرية هزّت علاقتي بالكتب والكتابة معًا. لقد وجدت نفسي أمام نصّ مختلف، نصّ قادر على أن يفتح نوافذ جديدة داخل ذاكرتي القرائية، وأن يوقظ رغبة عميقة في التجريب والخلق. عندها قررت أن أكتب رواية، وكتبتها بالفعل، لكنّي اكتشفت لاحقًا أنّها كانت سيئة، هشة، تفتقر إلى النَفَس الذي يميز الأدب الحقيقي. ومع ذلك، لم يكن فشلها سوى بداية ضرورية، خطوة أولى في درب طويل، إذ إنّ النصوص العظيمة كثيرًا ما تزرع فينا الرغبة في محاكاتها، حتى وإن كان حصادنا الأول مرتبكًا.

كانت "ذئبة الحب والكتب" بالنسبة إليّ لحظة مفصلية، نقطة انعطاف غيرت مفهوم القراءة ذاته عندي. لم أعد أنظر إلى الكتاب كوسيلة ترفيه أو معرفة عابرة، لكن كمرآة للذات، وكفضاء موازٍ للواقع، يمكن للقارئ أن يعيش فيه حياة إضافية. لقد تذكرت جيدًا كيف وجدت نفسي بعد الانتهاء منها عاجزًا عن فتح أي كتاب آخر، وكأنني بقيت مسحورًا، مأخوذًا بالكامل داخل عالمها. أسبوع كامل مرّ عليّ بلا قراءة، وهو أمر لم يحدث لي من قبل؛ كنت كمن فقد البوصلة، غير قادر على الانفكاك من سحرها، وكأنها علّقتني في منطقة بين الحياة والخيال، بين الواقع واللغة.

ومن هنا بدأت رحلتي الحقيقية: أدركت أنّ الكتابة هي تجربة وجودية، تتشكل من مزيج الوعي بالذات والوعي باللغة، وأنّ كل نصّ عظيم يخلخل يقينك، ويدفعك لتعيد التفكير في علاقتك بالعالم، بالآخرين، وبذاتك أيضًا. إن "ذئبة الحب والكتب" كانت بداية لتكوين قارئ جديد، وربما، لكاتب جديد في داخلي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رياض العلي: كاتب وناقد عراقي، من أعماله: بسامير و هلوسات.

https://www.facebook.com/riadhalalibasra

عن رواية حدائق الرئيس / محمد هيثم

 

حدائق الرئيس:

كيف تُزهر الورود فوق المقابر… وتصفّق لها الشعوب

محمد هيثم

تبدأ الرواية بمشهدٍ يكاد يُخنق القارئ من شدّته: "في بلدٍ لا يُزرع فيه الموز، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كلٍّ منها رأسٌ مقطوع". بهذا المشهد الافتتاحي/الختامي دائرة تغلق على وجع العراق، فالذي يبدأ هنا ينتهي كذلك.. إبراهيم قسمة، عبدالله كافكا، وطارق. تربّوا معًا في قرية ريفية، تخلّلت طفولتهم الألعاب البريئة، الفقر، والجغرافيا المؤلمة للعراق. عبر حيواتهم يُفكّك محسن الرملي عقود العقود التي مر بها العراق. - الحرب العراقية-الإيرانية، الأسر القاسي في إيران، وغسيل الدماغ في المعتقلات. غزو الكويت، الحصار الطويل، وفوضى الاحتلال الأمريكي التي استُبدل فيها الدم العراقي "الجسدي" بنسخته المفقودة، فالحياة تاهت بين قصور الرئيس ومقابر بلا هُوية.

هل كان "الرئيس" الذي قلب حدائقه إلى مقابر جماعية، يدرك أن القصص المؤرّخة تفضحه أكثر من رصاصات "ثلاث طلقات"؟ أو أن شموع الإنسانية لن تُطفئها أقفاله؟ هل كان يظنّ أنّ اسم رواية تبدو زهرية قادرٌ على تطييب صورته؟ لكن حين تتحوّل الحدائق إلى مقابر بلا قبور، يُصبح "الرئيس" في أعيننا أشبه بالسياف الذي لا يرى إلا رقمًا، فقط لأن الضحية ظنّت نفسها نبتة ورد. وكم غسلت السلطة عقل الشعب، فأمسى يرى نفسها زهرة في حدائق، بينما هي نُبتة نحّتها فوهة البندقية.

ونحن نتحدث عمن غيّر حدائق العراق إلى جحيم مرصود، يبدو أن "الرئيس" -وتعلمون من هو الرئيس- قد انتهى به المطاف أن يكون بيروقراطيًا متقنًا لابتسامة الرعب، فأيّ مساحات خضراء دكتاتورية يُسدس فيها، فلتتحوّل عبر الأجيال إلى رواية تروي جرائمه بشفافيةٍ وإزعاج. "الرئيس" الذي اجتهد في غسل أدمغة الشعب، حتى كادت الصحف والمجلات تُطبع صوره كما لو أنه شاعر وطني وليس جلّادًا، لم يكن يعلم أنّ الرواية -الأدب- سيكون كاشفًا مهينًا له: أن الثورة الثقافية قد تبدأ حين يكتب الضحايا، وكل منهم "كتابٌ قائم بذاته". وأظنّ أن المتنكّرين لمآثره سيذوبون سخريةً إن قرأوا: "حدائق الرئيس" واجبًا سياسيًا لتدريس "الرئيس"… كدرسٍ في كيف يُجنّد الديكتاتور كل شيء حتى الموت، بينما الرواية تُعيد لكل رأسٍ قصة، لكل ميت حياة، ولكل قاتل مراية بلا إنكار.

حدائق تزرع الموت وتحصد الصمت:

الرواية تقول لك، بوقار المآتم: في بلادٍ كان من المفترض أن تثمر فيها الحقول قمحًا وياسمينًا، قرر "الرئيس" أن يزرع أشجارًا خاصة… أشجارٌ تروى بالدم، وتثمر جماجم، وتظلّلها اللافتة الوطنية الكبيرة: "من أجل الشعب". والشعب، كما في كل مسرحيات السلطة، صفق بحرارة. فمن يعترض على مشروع بيئي "عظيم" يحوّل الأراضي الزراعية إلى مقابر منظمة؟ على الأقل، التنظيم كان ممتازًا. الرؤوس في صناديق، والأجساد في حفر، والموسيقى الوطنية تعزف.

إبراهيم "قسمة" كان يؤمن أن الحظ سيبتسم له، حتى أدرك أن ابتسامة الرئيس تبتلع الحظ نفسه. عبدالله "كافكا" عاش فلسفة العبث، لكنه لم يتوقع أن عبثية بغداد ستتفوق على عبث براغ. أما طارق "المندهش"، فقد ظل يندهش حتى آخر رأس وُضع في آخر صندوق موز، قبل أن يتبخر اندهاشه مع أول رصاصة طائشة. كلهم كانوا أبناء هذا التراب، لكن التراب في زمن "الحدائق" كان محجوزًا للموتى أولًا، وللشعارات ثانيًا، وللمساكين… إذا تبقى شيء من المساحة.

من "حدائق الرئيس" إلى حدائق هذا العصر:

الديكتاتور لا يرحل حقًا، حتى لو دفنوه. يترك خلفه شبكة معقدة من القوانين الغبية، الاتفاقيات الكارثية، والمشاريع نصف المنجزة التي لا يمكن إلغاؤها إلا بخسائر فادحة. وهكذا تظل الشعوب رهينة حاكم رحل جسدًا وبقي أثره مثل عطر سيئ في غرفة مغلقة. من العراق الأمس إلى دول اليوم، الحكاية واحدة: حاكم يعتبر نفسه فوق النقد، يتخذ قرارات بوزن القهوة الصباحية، ثم يترك للأجيال القادمة مهمة دفع الثمن. أحيانًا الثمن يكون أموالاً، وأحيانًا يكون شبابًا في حروب لا معنى لها، وأحيانًا يكون كرامة وطن كاملة.

لكن المدهش أن الشعوب –رغم التجارب المتكررة– ما زالت تسلم رقابها بنفس الحماس، وتفرش السجادة الحمراء للقائد الجديد الذي يعدهم بـ"نهضة كبرى" تبدأ غالبًا بزيادة صورته على الجدران.

وهكذا، وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من «حدائق الرئيس»، شعرت وكأنني أغلقت بابًا على مقبرة ما زالت تصرخ من الداخل. "محسن الرملي" كتب هذه الرواية ليرينا وجوهنا ونحن نصفق للطغاة، ونُدفن تحت عشب الحدائق التي باركنا افتتاحها. جعلني أضحك على المأساة وأبكي على النكتة، وهو مزيج نادر لا يقدر عليه إلا كاتب يعرف أن السخرية سلاح، وأن الحزن قوة.

وبلا مبالغة، يمكنني أن أقول إن هذه الرواية هي أعظم ما قرأت في هذه السنة. لأنها جرّدتني من وهم الحياد، وأجبرتني أن أرى الخراب بوضوح، وأن أسمع صوت الضحايا وهم يروون حكاياتهم من تحت تراب الحدائق.

https://shotarthur.blogspot.com/2025/08/blog-post_8.html

الأربعاء، 24 سبتمبر 2025

حوار عن الترجمة مع د. محسن الرملي / حسين مايع

 الدكتور محسن الرملي

الترجمة هي اللغة المشتركة بين جميع البشر

 

حاوره: حسين مايع

د.محسن الرملي: كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي ــ إسباني، ولد في شمال العراق عام 1967 ويقيم في إسبانيا منذ 1995. دبلوم لغة إسبانية وترجمة من معهد بوكس في مدريد 1988. بكالوريوس لغة وأدب إسباني، جامعة بغداد، كلية اللغات، سنة 1989. دكتوراه، بتقدير ممتاز مع درجة الشرف، من جامعة مدريد (أوتونوما)، كلية الفلسفة والآداب، قسم اللغة والآداب الإسبانية، سنة 2003. أستاذ في جامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد منذ 2004م.

يكتب باللغتين العربية والإسبانية، عمل في الصحافة كاتباً ومحرراً ثقافياً منذ 1985 وله عشرات المواد المنشورة في الصحافة العربية والإسبانية والأمريكولاتينية. تَرجَم العديد من الأعمال الأدبية بين اللغتين العربية والإسبانية، وله أكثر من ثلاثين إصداراً تنوعت بين القصة والشعر والمسرحية والرواية والترجمة. تُرجمت أغلب أعماله لأكثر من لغة، وشارك في الكثير من المهرجانات والمؤتمرات الدولية. عضو جمعية المترجمين العراقيين، عضو جمعية الكُتاب والمترجمين الإسبان المحترفين، عضو هيئة تحرير مجلة (آركيترابا) الكولومبية المتخصصة بالشعر، وعضو الهيئة الوطنية لتنظيم مهرجان طليطلة الدولي للشِعر.

*ما هو مفهوم الترجمة؟

ـــ الترجمة هي اللغة المشتركة بين جميع البشر، مهما اختلفت وتعددت لغاتهم. ولولا الترجمة لأصبحا طرشاناً في زفة العالم، قبائل منعزلة يسئ بعضها فهم بعض ويحاربه.

*كيف دخلت إلى عالم الترجمة؟

ـــــ بدأتُ بالترجمة عندما كنتُ طالبًا في المرحلة الثانية أو الثالثة من دراستي للغة الاسبانية في جامعة بغداد، حيث عثرتُ على لقاء مع رافائيل ألبرتي في نشرة لمعهد ثربانتس في بغداد، والذي كنت أتردد عليه وعلى مكتبته كثيرًا، ففرحتُ لأنني فهمته كله عند قراءته، ولذا سارعت إلى ترجمته، وبعثته إلى إحدى الصحف الرئيسية آنذاك، ففاجأتني سرعتهم في نشره ومطالبتي بالمزيد من الترجمات، ومن يومها لم أتوقف عن الترجمة ممارسةً ودراسة وتدريساً.

*ما اللغة التي تترجم منها؟

ـــ أُترجم من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية ومن اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية.

*ما هي الأدوات التي يستعين بها المترجم في عملية الترجمة؟

ـــ القواميس والمعاجم، واستشارة أصحاب الاختصاص، ومؤلف النص إن كان حيّاً.

*ما هي المهارات التي يجب أن يمتلكها المترجم ليمارس هذا النوع من الأعمال؟

ـــ معرفة جيدة باللغتين اللتين يترجم بينهما، معرفة جيدة بثقافتيهما، قدرة أدبية على إعادة الصياغة والتحرير.
*هل كل من يتقن لغة أجنبية يمكن أن يصبح مترجمًا؟

ـــ لا، لأن الترجمة معرفة وثقافة وفن إنساني في أغلبها، لذا لم تستطع التكنولوجيا التعويض عن الإنسان على الرغم من انها تحفظ قواميس كل اللغات.

*ما هي آليات الترجمة وأساليبها؟

ـــ يختلف الأمر من موضوع إلى آخر، ومن نص إلى آخر، فترجمة النصوص القانونية والعلمية ليست كترجمة النصوص الأدبية أو ترجمة النصوص الدينية، وحتى ضمن كل ميدان يختلف الأمر من أسلوب إلى آخر ومن نص إلى آخر، وأحياناً حتى من مقطع إلى آخر. أما تقليدياً فيمكن تصنيفها إلى ترجمة حَرفية وأخرى بتصرف.

*كيف تبدأ ترجمة الكتاب؟ هل تقرأ النص كاملاً قبل الترجمة، أم تبدأ مباشرة؟

ـــ بالتأكيد أقرأ النصوص أولاً، وأن تعجبني وأُحبها وأتفاعل معها وأقتنع بفائدتها أو بجمالها، بحيث أشعر بأن فيها شيئاً يمثلني من حيث الرأي أو الأسلوب، لذا ستكون ترجمتي لها بحب وانسجام معها، وكأنني أعيد كتابتها بأسلوبي.

*هل تبحث عن سيرة المؤلف وأعماله قبل الشروع في الترجمة؟ ولماذا؟

ـــ بالتأكيد، فلابد من معرفة كل ما يتعلق بالكتاب وكاتبه، لكيلا يكون المترجم كحاطب ليل، لا يدري أين هو ومن أين جاء النص، فكما يقال "هذه الثمرة من هذه الشجرة"، فالنص هو ثمرة الكاتب.
*متى يتدخل المترجم في النص الأصلي؟

ـــ المترجم هو عامل لغوي، اختصاصه اللغة، يعني يحق له التدخل في اللغة من حيث اختيار المفردات وإعادة صياغة العبارات وما إلى ذلك، ولكن لا يحق له التدخل في الموضوع والأفكار وفي كيفية بناء النص.

يملك المترجم سلطة على النص الذي ينقله فيتدخل ويغير أحياناً ويخطئ ويصيب.. وما إلى ذلك، فلا يوجد شيء اسمه ترجمة مضبوطة مائة بالمائة وخاصة فيما يتعلق بالنصوص الأدبية، ومهما حاول البعض الحديث عن الترجمة على أنها عِلم، فأنا شخصياً سأبقى أنظر إليها على أنها فن، ومن مواصفات الفن النسبية والإبداع، وليس المطلق والجمود.

*هل ترجمة الكتاب بأسلوب المترجم مسألة طبيعية أم تُعد تحريفًا للنص؟

ـــ نعم، مسألة طبيعية، ولهذا لكل مترجم أسلوبه، وعلى ضوء ذلك، نحن كقراء، قد نحب أو نفضل ترجمة النص نفسه لمترجم معين ولا نحبها بأسلوب مترجم آخر.

*ما هي أكثر التحديات التي تواجهك أثناء الترجمة؟

ـــ عدم وجود كلمة مقابلة في اللغة التي أُترجِم إليها لكلمة في اللغة التي أُترجم منها، فمثلاً؛ اللغة العربية أكبر وأغنى من حيث عدد الكلمات، ففيها أكثر من عشرة ملايين كلمة، بينما الإسبانية لا تتجاوز المئتا ألف كلمة، وهذا يعني أن هناك ملايين الكلمات العربية التي ليس لها مقابل بالإسبانية، وربما لهذا كان عدد الأعمال التي ترجمتها إلى العربية من الإسبانية هو ضعف ما ترجمته من العربية إلى الإسبانية، هذا عدا كون العربية هي لغتي الأم والأحب، أما عندما أُترجِم من الإسبانية إلى العربية، أجد بأنني أفقد الكثير من شِعرية الإسبانية ودلالاتها الثقافية الخاصة المختلفة عما في القواميس، وهنا على المترجم أن يكون عارفاً جيداً بثقافة اللغتين، ومعايشاً لهما أو فيهما، وليس عارفاً باللغتين فقط، والصعوبة الأخرى، هي صيغ المجاز الشعرية والأمثال الشعبية وغيرها، مما هو خاص جداً في اللغة الأصلية وثقافتها. ومن التحديات أيضاً؛ سؤال المترجم الدائم لنفسه: هل يحافظ على دقة ترجمة النص حرفياً أم يقوم بتطويع أسلوبه لصالح اللغة التي ينقُل إليها؟ وفي كل هذه الحالات المذكورة، تقع المسؤولية على كل مترجم أن يقرر كيفية التصرف، حسب رؤيته.

*ما هو العمل المترجم الذي تمنيت لو قمت بترجمته؟

ـــ كثيرة جداً، تقريباً كل الأعمال التي قرأتها بالعربية أو بالإسبانية وأعجبتني، تمنيت لو أن لدي الوقت الكافي والظروف المناسبة لترجمتها. ومنها الأعمال الكاملة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو الذي أحبه، و(الدون كيخوته) لأنني أعرفه جيداً بحكم تخصصي الأكاديمي فيه.

*بم تشعر عند ترجمة كتاب ما؟ وما أكثر كتاب استمتعت بترجمته؟

ـــ أشعر بالتعب والمتعة معاً أثناء الترجمة، وبالراحة عند إكمال الترجمة، وبشيء من الرضا لشعوري أنني قدمتُ شيئاً قد ينفع آخرين، وأكثر كتاب استمتعتُ بإعداده وترجمته هو (لهذا نكتُب الروايات).
*ما هو أصعب كتاب ترجمته؟ ولماذا؟

ـــ مسرحية (طالب سالامنكا) لأنها مسرحية شعرية ومكتوبة بلغة كلاسيكية.

*ما الفرق بين ترجمة كتب العلوم الإنسانية وترجمة العلوم الصرفة؟

ـــ ترجمة العلوم الإنسانية تشبه ترجمة الأدب لذا فهي ترجمة يدخل فيها الفن والإبداع بشكل كبير وليس بالضرورة أن يكون مترجمها متخصصاً فيها، أما ترجمة العلوم الصرفة فهي علم أيضاً وعلى مترجمها أن يكون مختصاً أو عارفاً جيداً بالعلم الذي يترجم فيه.

*ما رأيك بترجمة الشِعر؟

ـــ ترجمة الشعر صعبة جداً، لكنها الأجمل من حيث ما تنطوي عليه من تحدي وحتى خيال وابتكار.

*ألا يوقعك ذلك في مأزق تدخل ذائقتك في النص المترجم؟ أم أنها نقطة إيجابية؟

ـــ بالنسبة لي إنها نقطة إيجابية، كون الأديب أكثر تحسساً وتذوقاً ومعرفة بلغة الأدب، مثلما أن الطبيب أكثر معرفة بلغة الطب. وما أكثر الترجمات التي قام بها شعراء ومبدعين فنفضلها على ترجمات غيرهم من المحترفين، حتى بغض النظر عن دقتها أحياناً، ولدينا على سبيل المثال الترجمات التي قام بها مبدعون أمثال حسب الشيخ جعفر، جبرا إبراهيم جبرا، سعدي يوسف، صلاح نيازي، سركون بولص، كاظم جهاد وغيرهم، فمن حسن الحظ أن غالبية مترجمي الآداب عندنا هم أدباء أصلاً.

وأمر تفضيل ترجمة الشاعر للشعر والأديب للأدب لا يقتصر علينا فقط، وإنما هو سائد في الثقافات واللغات الأخرى، فوجدت مثلاً أن المثقفين الإسبان يفضلون ترجمة أعمال ريلكه (غير المضبوطة!) التي قام بها شاعر وفق أسلوبه، على ترجمة (مضبوطة!) قام بها مترجم محترف.

*ما المعايير التي تعتمدها عند اختيار كتاب لترجمته؟

ـــ أن يعجبني وأعتقد بأهميته وبكونه نافعاً لقراء اللغة الأخرى، وبالطبع هناك معايير أخرى خارجية تتعلق بسوق الكتاب نفسه وما يطلبه القراء والناشرون أكثر من غيره.

*هناك أعمال تُرجمت أكثر من مرة، متى تكون إعادة الترجمة أمرًا لابد منه؟

ـــ دائماً الترجمة وإعادة الترجمات مهمة وتشكل إثراءً للمتلقي، وهناك بعض الأعمال الكلاسيكية والخالدة، أنا مع إعادة ترجمتها كل أربعين أو خمسين سنة، لأن لغة العصور والمراحل والأزمنة نفسها تتغير. وهكذا بإعادة ترجمتها إلى لغة وأسلوب اليوم ستستفيد منها الأجيال الجديدة كما استفادت منها الأجيال السابقة.
كما أن لكل مترجم أسلوبه وله قُراء ومتلقين يفضلونه ويثقون به أكثر من غيره، وهذا أمر غالباً ما يحدث مع ترجمة الأعمال الكبيرة إلى مختلف لغات العالم، فقد حدث مع أعمال شكسبير في الإسبانية، و(الدون كيخوته) تمت ترجمته إلى الإنكليزية والفرنسية قرابة مئة مرة، وسوف يُترجم مستقبلاً مرات أخرى.. وهكذا.

*كيف ترى علاقة المترجم مع الناشر؟

ـــ يجب أن تكون قائمة على: تفاهم وثقة وعمل ومصلحة مشتركة، لكل منهم هدفه، إضافة إلى الهدف المشترك وهو تقديم عمل جيد ونافع للمتلقي.

وشخصياً؛ علاقتي مع كل الناشرين الذين تعاملت معهم جيدة، ولم أواجه أية مشاكل معهم في كل ما ترجمته، ربما أن هذا راجع لمعرفتنا الشخصية ببعضنا والثقة المتبادلة، وخاصة ثقتهم هم بي ومدى معرفتي بالمادة التي أريد ترجمتها، بل أن أغلبهم يستشيرني أحيانًا حول عناوين يطرحها عليهم مترجمين آخرين.

*ما فائدة تواصل المترجم مع المؤلف؟

ـــ بما أن الأسلوب هو الإنسان، كما يقال، فمثلما معرفة الأسلوب تعرفك بالإنسان فإن معرفة الإنسان تعرفك بأسلوبه أكثر وبأفكاره ومقاصده، لذا يسعى المترجم إلى معرفة المؤلف قدر الإمكان، حتى وإن كان ميتاً منذ قرون، فطبيعي أن تكون معرفته الشخصية وهو حي ستُثري معرفة المترجم بالكتاب، وكذلك توفر له سنداً واطمئناً للاستفسار عما قد يصعب عليه.

*لماذا يُفضل القارئ العربي غالبًا الكتب المترجمة؟

ـــ ربما لأن الكتاب صناعة متكاملة الأركان في الغرب، فخلفه فريق من العاملين ولا يعتمد على الجهد الفردي للمؤلف فقط، لذا تكون جودته أفضل من حيث البناء والتقديم والأسلوب والمواضيع وكيفية تناولها، يضاف إلى ذلك، رغبة القارئ بالتعرف على ما هو أبعد من محيطه، ومتابعة الجديد في الثقافات الأخرى.

*لماذا تُترجم الكتب الأجنبية إلى العربية أكثر مما تُترجم الكتب العربية إلى اللغات الأجنبية؟

ـــ لأن الجديد والجيد يظهر عندهم، هم أمم متقدمة علينا في هذا الزمن، بينما كان الأمر معكوساً في أزمنة سابقة، فكانوا يترجمون أعمالنا، هذا أمر طبيعي لمتابعة التقدم، وفي كل الأحوال فإن ترجمتنا لأعمالهم أكثر من ترجمتهم لأعمالنا، هو لصالحنا، وهو الأمر المنطقي والصحيح، وسبق لي أن كتبت وتحدثت عن هذا الأمر في أكثر من مقال ولقاء.

*ما الأعمال التي يجب أن تُراجع بعد ترجمتها، سواء لغويًّا أو علميًّا؟

ـــ كل الأعمال يجب مراجعتها، وكل مراجعة إضافية هي لصالح الجودة.

*ما رأيكم في إشكالية المصطلح في العالم العربي؟ وكيف السبيل إلى حلها؟

ـ إشكالية المصطلح لا يقتصر وجودها على العالم العربي فحسب وإنما هي إشكالية موجودة في كل العالم بنسب متفاوتة، وهي إحدى الإشكاليات التي نبهت إليها الفلسفة مبكراً وأكد عليها برغسون معزياً إلى الاختلاف في فهم المدلولات لكل مصطلح؛ الكثير من الاختلافات الفكرية والثقافية، لذا لا أعتقد بأن لها حلاً حاسماً، وخاصة كونها نتاجاً لغوياً وثقافياً، ومن طبيعة نتاج من هذا النوع هو استحالة إخضاعه الكامل للتصنيف العلمي المادي وتفصيل زيّ موحد للدلالات ومداليلها، بل على العكس أرى في تباين فهمها هذا؛ جزء من ثرائها وهو من صلب تركيبة مكوناتها أصلاً.

*هل يُعدّ توضيح المصطلحات الغامضة مسؤولية المترجم، أم يُترك ذلك للقارئ؟

ـــ نعم، هي من مسؤولية المترجم، وخاصة المصطلحات الجديدة، أو تلك التي ليست شائعة لدى عموم القراء.

*ما أهمية الهوامش في الكتب المترجمة؟

ـــ أنا لست مع الإكثار من وضع الهوامش إلا للضرورة، بل إن بعضها يمكن تعويضها بشكل فني داخل النص نفسه، بتصرف وأسلوب ذكي.

*ما أسباب تحريف النصوص لدى بعض المترجمين؟ وكيف يمكن معالجة هذه الظاهرة؟ وما دور الناشر في ذلك؟

ـــ هناك عدة أسباب لذلك، فمنها ما يتعلق بالرقابة، ومنها ما يتعلق بعدم توافق رأي المترجم مع المطروح، ومنها ما يتعلق بعدم فهم المترجم للنص أو لبعض منه، ومسؤولية ذلك تقع على المترجم في كل الأحوال، أكثر من الناشر.

*إلامَ تُعزى أسباب قلة المترجمين المتخصصين في الكتب رغم تخرج آلاف الطلبة من أقسام اللغات؟

ـــ لا توجد قلة بالمترجمين، بل على العكس؛ نحن أكثر أمة لديها أناس يجيدون لغات أخرى، لكن الترجمة لكي تتحول إلى مهنة، تحتاج إلى شغف وحب وقناعة بأهميتها، إضافة إلى ضرورة أن تكون مصدراً جيداً لكسب العيش، فلو توفر هاتان الشرطين لرأيت أضعاف ما لدينا اليوم من مترجمين، على الرغم من أنهم كثر لحسن الحظ.

*ماذا أضافت جوائز الترجمة للمترجمين؟ وهل يمكن أن تكون دافعًا لتحقيق مستوى أعلى في مجال الترجمة؟

ـــ الجوائز دائماً مهمة، في كل المجالات، لإنها تزيد من تسليط الضوء على الإنجازات والاهتمام بها، وتشكل تكريماً للميدان ومحترفيه، وهي بالفعل تساهم برفع مستوى الإنجاز كمّاً ونوعاً، ورفع مستوى التنافس، مما يقود إلى تجويد الأعمال أكثر.

*انتشرت في الآونة الأخيرة الترجمة باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي، لكنها غالبًا ما تكون غير دقيقة. ما الحل للحد من انتشار الترجمات الرديئة؟

ـــ الترجمة حالها حال كل النتاجات الثقافية الأخرى، سيغربل التلقي والزمن؛ الجيد منها والرديء، لذا لا خطر كبير من ذلك، فالقارئ لن يكرر اقتناء كتاب آخر للمترجم أو الناشر السيء نفسه مرة أخرى، ولا يصح إلا الصحيح في نهاية الأمر والبقاء للأفضل، وبالطبع لا بأس من استفادة المترجم لبرامج الذكاء الاصطناعي، كاستفادته من أي قاموس، لكن يبقى الجهد الإنساني الخاص بالمترجم هو الأهم والمعيار في نهاية الأمر.

بشكل عام؛ ليست لدي أية مخاوف من الذكاء الاصطناعي، وأنا مبدئياً، مع كل اكتشاف جديد وتطور، وأُدرِك بأنه من الطبيعي أن تكون هناك جوانب واستخدامات إيجابية وأخرى سلبية لأية وسيلة أو أداة جديدة يكتشفها أو يخترعها الإنسان، منذ أن اكتشَف العَجلة وإلى أن تقوم الساعة، ويبقى الأمر في كيفية استخدامنا لهذه الوسائل، لذا عادة ما ننتهي إلى وضع قوانين معينة للاستخدام، وبالنسبة للذكاء الاصطناعي، على صعيد الأدب والكتابة والترجمة وغيرها، فله فوائد ومنافع كثيرة، ويُسهل ويُوفر على المشتغلين في هذه الميادين الكثير من الوقت والجهد والترويج وما إلى ذلك. ومما لا يدعونني للخوف منه، هو ثقتي بأن الإنسان لا يمكن أن تعوضه أية وسيلة أو أداة أخرى، هي من اختراعه في الأصل، فتركيبة الإنسان عظيمة، والشخص ذاته هو ليس نفسه بين يوم وآخر وموقف وآخر ومكان وآخر وزمان وآخر، أما الآلة فهي ذاتها، كما صممها الإنسان وبرمجها، كما لا يمكن تعويض أو استبدال الأحاسيس والمشاعر والتأملات والعواطف واللمسة الإنسانية أبداً، مهما حاولت الآلة تقليدها وتمت برمَجتها عليها.

*من هم أهم المترجمين الذين قرأت لهم؟ ولماذا؟

ـــ قرأت للكثيرين جداً، والمعيار أنهم كانوا رائعين في عملهم وبمعرفتهم بالثقافتين وبإجادتهم للغتين وأساليبهم البديعة في الصياغة، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر: جبرا إبراهيم جبرا، سامي الدروبي، عبد الرحمن بدوي، حسب الشيخ جعفر، صالح علماني، فؤاد رفقة، عبدالمسيح ثروت، جورج طرابيشي، محمد علي اليوسفي، خالد الجبيلي، سامي الجندي، رفعت عطفة، أحمد عبد اللطيف، أحمد الشافعي، معاوية عبد المجيد.. وغيرهم كثر.

*هل سبق أن صادفت كلمة أو جملة تُرجمت بطريقة غريبة أو طريفة؟

ـــ نعم، كثير، ولكن هذا لا يزعجني بقدر ما يجعلني أبتسم، وهذا وجدته عند الكثير من المترجمين الإسبان أكثر من العرب. وأنا أتفهم ذلك، وأعذر المترجمين في الكثير من هفواتهم، فأنا منهم، وأدعوا إلى تفهمهم وعذرهم.

*لقد قمتَ بترجمة أعمالاً من وإلى اللغة الإسبانية، خصوصية اللغة العربية ألا تعترضك كمشكلة حين تقوم بنقل نص ما؟

*نعم، وبشكل خاص حين تكون الترجمة من العربية إلى الإسبانية، إلى الحد الذي اعتذرت فيه لأكثر من مرة عن الترجمة حين أجد بأن القيام بترجمة معقولة أو مقبولة يكاد يكون مستحيلاً ما لم يتم تشويه النص وتقويله غير الذي يقوله، بحيث يبدو وكأنه نص آخر تماماً، وخاصة فيما يتعلق بالنصوص الأدبية التي تشكل اللغة روحها ولحمها، أما الترجمة من الإسبانية إلى العربية فهي أسهل بالنسبة لي كون العربية أغنى وأوسع، ولأنها لغتي الأصلية التي أعرفها أكثر من سواها.

*في ظل القراءات الكثيرة الجديدة لمصداقية الترجمة العربية، كيف ترى مستقبل هذه الترجمة التي ارتكبت في أحيان كثيرة جرائم بل ومقابر جماعية أحياناً؟

ـــ أنا شخصياً مع الإكثار من الترجمة، أي مع المزيد من الكم أولاً ثم النوعية بالمقام الثاني، ذلك أن هناك الكثير جداً مما يجب علينا ترجمته، وكل يوم هناك مئات العناوين الجديدة والجيدة في العالم في شتى المعارف والفنون، والترجمات مهما تكن مستوياتها من حيث الدقة والأمانة والجودة فهي أفضل من لا شيء، أي أن تكون لدينا الأعمال مترجمة إلى العربية بشكل ضعيف أو حتى سيئ، فهي أفضل من ألا تكون مترجمة أبداً ولا نعرف عنها أي شيء.

*يقال إن المترجم بطبعه إنسان غير اجتماعي ولذا لا ترى روح الفريق الواحد تشيع بين المترجمين الذين يعملون في إدارات وهيئات ومنظمات كبير، ما السبب وراء ذلك؟

ـ هذا قول نسبي، فكون إنساناً اجتماعياً أو غير اجتماعي إنما يعود في الأصل لطبيعة كل شخصية منفردة على حدا وليس للمهنة، ولا أتفق مع وصم المترجمين بشكل عام بكونهم غير اجتماعيين، فيما هم يتعاملون ويتعايشون مع ثقافتين ومجتمعين مختلفين أو أكثر وغالباً ما ينجحون في ذلك ويكونون جسوراً بينها، أما عن كونهم يفضلون العمل الفردي على الجماعي أثناء ممارسة عملية الترجمة ذاتها فهو في رأيي عائد لكون الترجمة في جانب كبير منها فن وإبداع، لكل فيها أسلوبه وخصوصيته في طبيعة العمل مما يجعل المترجم يشعر بالعبء وعدم الانسجام عندما تتداخل الأساليب وطرق العمل والمفاهيم على نص واحد.

*وما هي مشاكل المترجم الغربي؟

ـ هم لهم مشاكلهم أيضاً ولكنها لا تُقاس بحجم وطبيعة مشاكلنا، فبعض أصدقائي من المترجمين الغربيين يعيشون بشكل جيد من خلال عملهم في الترجمة فقط، ومع ذلك فهم يطالبون كل يوم بالمزيد من الحقوق التي صارت في بعض الأحيان تكاد تشابه حقوق المؤلف الأصلي، ومن ذلك مثلاً نسبة في واردات البيع ونسبة من الـ 10% المُستحصَلَة سنوياً كضريبة عن الاستنساخ وغيرها، بعضهم يشكوا أيضاً بأنه لا يجد دار نشر تتبنى ما يختاره هو وفق ذائقته الخاصة، وإنما تأتيه الأعمال مقررة من قبل دور النشر. وفي محاضرتي التي ألقيتها في معرض الكتاب في مدريد بدعوة من رابطة المترجمين والكتاب الإسبان، أثارتهم الشواهد التي عرضتها عليهم في كون المترجم العربي، وعلى الرغم من أنه مهضوم الحق مادياً، إلا أنه يحظى بتقدير معنوي كبير فيحوز شهرة ويوضع اسمه على غلاف الكتاب أسوة بالمؤلف، أما هم فالمعتاد لديهم هو أن يوضع اسم المترجم داخل الكتاب ضمن قائمة المعلومات الخاصة بالنشر وبخط صغير، وقد أثار هذا الأمر جدلاً واسعاً بينهم وأدرجوه ضمن الحقوق التي سيسعون للمطالبة بها.. وأعرف شخصياً منهم من صار يصر على وضع هذا الأمر كشرط في عقوده مع الناشرين ونجح في ذلك.

*لماذا يُقال أن في الترجمة الأدبية إعادة كتابة أو إعادة خلق أكثر من كونها ترجمة وذلك لأن المترجم يعيد كتابة النص الأدبي كل بطريقته أو أسلوبه الخاص؟

ـ لأن العمل الأدبي يختلف عن العمل العلمي أو الوثائقي ـ في كون اللغة هي بدنه وروحه ومادة نسيجه الفني وتكوينه الأساسية، وكما يقول بورخيس إن أصل مفهوم الترجمة الحرفية ليس أدبياً. وغابريل غارثيا ماركيز يُبدي إعجابه بمترجمين رواياته فيقول:" أعتقد بأن أعمالي قد أُعيد إبداعها بالإنكليزية تماماً، فهناك أجزاء يصعب نقلها حرفياً. لدي انطباع بأن المترجم قد قرأ الكتاب كله ثم أعاد كتابته بالاعتماد على ذاكرته؛ لهذا فأنا معجب بالمترجمين، إنهم حدسيون أكثر منهم عقلانيين وليس المؤسف في أن الناشرين يدفعون لهم قليلاً فحسب، بل إنهم لا يعتبرون عملهم كإبداع أدبي!". إذاً فالترجمة الأدبية هي إبداع أيضاً، لذا فأنا أتفق تماماً مع ما قاله محمود درويش، هنا في مدريد عند تقديم أحد أعماله المترجمة إلى الإسبانية، قال: أشكر المترجم الذي هو شريكي بتأليف هذا الكتاب باللغة الإسبانية.

*كيف ترى دور الترجمة في الحوار بين الحضارات؟

ـ لا شك أن دور الترجمة عظيم في خدمة البشرية جمعاء وكل حضاراتها، وليس هناك أي وجود لحضارة تستحق أن تسمى (حضارة) ما لم تستفد من الحضارات الأخرى ومن الترجمة عنها وإليها. إن أهمية الترجمة لا تقل أبداً عن أهمية وظيفة اللغة الخاصة التي نتحدث بها لنتفاهم مع القريبين منا، فهي بمثابة اللغة التي نتفاهم بها مع البعيدين وكلما زادت الترجمات بين اللغات والثقافات كلما زاد واغتنى الحوار وبالتالي الفهم والتفاهم بينها، وأنا عادة ما أحلم وأدعو لإيجاد وزارات للترجمة أسوة بوزارات مثل الخارجية والتربية والمواصلات والاقتصاد وسواها.

*ما الهدف من التقديم للكتاب المترجَم؟ وماذا يجب أن تحتوي هذه المقدمة؟

ـــ شخصياً أرى بأن مقدمات المترجمين ضرورية ومهمة، لأنها مفتاح التعارف والتعريف بالعمل وصاحبه، إنها تضيء لك الطريق قبل السير فيه. الأمر يشبه تقديم الأشخاص في محاضرة، أن نعرف شيئاً عن المُتحدِّث وعن موضوعه قبل الاستماع إلى حديثه، سيجعل التفاعل والمتعة والفائدة أكثر.

*هل تنصح المترجم بالتخصص في مجال معين أم أنه من الأفضل أن يترجم في جميع المجالات؟

ـــ لا شك أن التخصص هو الأفضل في كل المجالات، فليس هناك أفضل من الشاعر لترجمة الشعر، والسارد لترجمة السرد، والقانوني لترجمة القانون، والاقتصادي لترجمة الاقتصاد.. وهكذا.

*هل لديك نصائح تود توجيهها للمترجمين الجدد؟

ـــ أنصحهم بألا يتوقفوا عن القراءة باللغتين، ومتابعة الجديد فيهما دائماً، من حيث الحِراك الثقافي وسوق الكتب ومزاج القراء وأخبار الأنشطة والجوائز وما إلى ذلك. أن يتعايشون مع الثقافتين، وعدم الاكتفاء بالتمكّن من اللغة، لأن معرفة الثقافة توازي معرفة اللغة، هما جناحان لطائر واحد. الأمر الآخر هو أن يحبوا عملهم، ويقتنعون بأنهم يقدمون خدمة مهمة جداً للآخرين، وبأن الترجمة بحد ذاتها، عمل مهم ونبيل ونافع وشريف وممتع وجميل، يستحق الامتهان وتكريس العمر له، ثم يسعون لجعل الترجمة حرفتهم، فليس هناك ما هو أفضل وأجمل من أن يعيش الإنسان من عمل يحبه. عندها سوف يبدع فيه حتماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في كتاب (الوجه الآخر للتأويل، حوارات في الترجمة)، حسين مايع، دار قناديل، بغداد 2025م. 

الاثنين، 8 سبتمبر 2025

عن محسن الرملي / د. عبدالكريم خليفة

 محسن الرملي ليس مجرد أديب عراقي

(روائي وقاص وشاعر ومترجم)

 

الدكتور عبدالكريم خليفة

اشكالية صورة المرأة متمثلة بالأم، وصورة الوطن متمثلة بالأخ الشهيد حسن مطلك.. هذا ما اكتشفته وحللته.

اليوم صباحا وأنا استمع لإذاعة (مونت كارلو الدولية) ولقاء مميز مع ابن الشرقاط الأديب محسن الرملي، اكتشفت ايضا انه مفكر كبير وباحث اجتماعي من الطراز الأول، وله رؤية خاصة وثاقبة بعدد من المواضيع الاجتماعية، وايضا لاحظت انه يعيش بمحنة رفض النظام السابق والصور الظلامية التي اختزنت بذاكرته، وايضا اشكالية النظام الحالي، ويعيش ايضا بين الغربة وحنينه لوطن تغيرت ملامحه وقيمه، وبالرغم من هذه الاشكاليات لكنه بقي اسمه يتردد كهمس في ذاكرة الأدب العراقي المعاصر، لا لأنه مجرد روائي أو شاعر أو مترجم، بل لأنه صار صوتًا للمنفى والوجع والحلم المؤجل، وصار نصه كالوطن البديل، يلمّ شتات العراقيين ودار النشر الذي يديره اسرة تجتمع على مائدة الثقافة ويمنحهم مرآة يرون فيها وجوههم المرهقة.

وُلد الرملي في أرض الشرگاط، أرض النخيل المائل على ضفاف دجلة، حيث يولد الأطفال وهم يحملون في عيونهم صدى التاريخ ورائحة الطين هذه الارض التي تورق في كل جمعة اديب او شاعر او باحث او عالم لكن هذا المولود، الذي شبّ وسط الطقوس الشعبية والأساطير المنقوشة على ذاكرة الريف، كان قدره أن يحمل العراق كله على كتفيه، وأن يرحل بعيدًا، مجبرا متعلق بأهداب وطن الذكريات ليكتب عنه من مكان آخر. المنفى بالنسبة له لم يكن مجرد إقامة في بلاد بعيدة، بل كان قدرًا يوسّع مساحة النظر، فيجعله يرى العراق كما لا يراه أحد، يراه كحلم يتسرب من بين الأصابع، وكأرض مشتهاة لكنها بعيدة، يراه كجرح يظل مفتوحًا مهما طال الزمن، تجاوز الثالوث الممنوع عن الادباء وهو السياسة والدين والجنس فمنح لقلمه ان يتجاوز هذه الخطوط.

في رواياته، يختلط الواقع بالأسطورة، ويذوب الحاضر في الماضي. نقرأ (حدائق الرئيس) فنشعر أن الشخوص الذين يسيرون في ظلال الدكتاتور ليسوا إلا انعكاسًا لجماعة بشرية كاملة عاشت في سجن مفتوح اسمه الوطن. نقرأ (تمر الأصابع) فنلمح بين السطور تلك اليد العراقية التي تريد أن تلمس الحياة، لكن الحرب تقطع أصابعها واحدًا تلو الآخر. نقرأ (ذئبة الحب والكتب) فنجد أن المعرفة والحب صارا شبيهين بذئب يتربص بالروح، لا يتركها تنام ولا يمنحها الطمأنينة. كل نص عند الرملي هو محاولة لالتقاط معنى العراقي: الإنسان الذي يحيا في الحروب كما يحيا في الغربة، الذي يحمل على كتفيه ذاكرة الموت لكنه لا يكف عن الحلم بالحب.

إنه يكتب بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، بين الحكاية الشعبية التي تختزن بذاكرته كشلال جارف والنَفَس الفلسفي. شخصياته ليست بطولية بالمعنى التقليدي، لكنها مقاومة بطريقتها الخاصة وكل شخصياته محركها الاساسي انثى، وان كان للرجل حضور رجل يزرع نخلة رغم القصف، امرأة تنتظر ابنها الأسير رغم استحالة عودته، شاعر يواصل الغناء رغم أن أحدًا لا يصغي. كل هؤلاء يتحركون في فضاء رمليّ يختلط فيه الغياب بالحضور، وكأنهم يصرخون في صمت نحن هنا، رغم كل شيء.

الغربة عنده ليست نزهة أدبية، بل امتحان للروح. هو يكتب بالإسبانية كما يكتب بالعربية، وكأن لغتين لا تكفيان كي تحملا كل ما في داخله من حنين، فهو سفير الانتقال الادبي بين العربية والاسبانية، يترجم ما يشعر انها تزيد من ثقافة ووعي ابناء جلدته، وفي كل نص، هناك ظل الأم، ظل الطفولة، ظل البيت الطيني، كأنها جميعًا أبواب يحاول أن يعود منها، لكنه كلما اقترب وجدها مغلقة بوجهه. المنفى يتحول عنده إلى قدر صوفي، إلى ابتلاء يعلّم الروح كيف ترى ما وراء المرئي.

محسن الرملي هو أيضًا شاعر، حتى حين يكتب الرواية فيكتب المسرح بلغة شعر وعنه النص قصة قصيرة يكتب الرواية بنفس شعري جُمله مشبعة بالإيقاع، كأنها مقاطع من نشيد قديم. وهو متصوف، حتى حين يتحدث عن الموت والسياسة، إذ ينسج من الخراب أفقًا من النور، ويجعل من الدم النازف مدادًا لكتابة جديدة. إن نصوصه ليست مجرد قراءة في التاريخ العراقي الحديث، بل هي محاولة لالتقاط جوهر الوجود الإنساني وهو يواجه العدم.

في زمن صار فيه الأدب مرآة للخذلان، يقدّم الرملي أدبًا يصرّ على أن يظل شهادة، شهادة على أن العراق لم يمت رغم الجراح، وأن المنفي يمكن أن يكون أكثر وطنية من المقيم، وأن الكلمة تستطيع أن تهزم الموت إذا كُتبت بصدق.

إنه يكتب العراق لا كما هو، بل كما ينبغي أن يكون: أرضًا تحيا في الذاكرة والخيال، أرضًا تستعصي على المحو، أرضًا تظلّ، مهما تهشمت، قادرة على أن تنبت من بين أنقاضها وردة برية، أو قصيدة، أو رواية جديدة.

بهذا المعنى، محسن الرملي ليس مجرد أديب عراقي، بل هو أحد حرّاس الذاكرة العراقية في زمن النسيان، وأحد الذين جعلوا من الأدب وطنًا بديلًا، ومن الكتابة صلاةً طويلة لا تنقطع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. عبدالكريم خليفة: كاتب وأكاديمي عراقي.

https://www.facebook.com/d.bd.alkrym.khlyft

الأحد، 7 سبتمبر 2025

محسن الرملي في إذاعة مونت كارلو الدولية

 برنامج/ كافيه شو

محسن الرملي: الفرح لا يصلح موضوعاً لرواية 

إعداد: باسم سلوم وغادة الخليل

نشرت في: 07/09/2025

استضفنا في برنامج كافيه شو الكاتب العراقي محسن الرملي للحديث عن أعماله الأدبية ومسيرته الممتدة بين العراق وإسبانيا، وعن مجموعته القصصية الجديدة "آخر القرويين" الصادرة حديثا عن دار المدى.

هذه المجموعة تمثل امتدادا لتجربته السردية في التقاط تفاصيل الحياة العراقية، ولا سيما في الريف الشمالي، حيث يمزج الرملي بين الواقعية والأسطورة في رسم تحولات الناس تحت ثقل السياسة والتاريخ.

محسن الرملي يعد من أبرز الأصوات العراقية المعاصرة، غادر العراق منتصف التسعينيات ليستقر في مدريد.

ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، وحظيت رواياته مثل الفتيت المبعثر وتمر الأصابع وحدائق الرئيس وبنت دجلة باهتمام نقدي وجماهيري واسع، كما وصلت إلى قوائم الجوائز العربية والدولية الكبرى.

وفي كتاباته، تحضر السخرية والمرارة جنبا إلى جنب مع الحس الإنساني العميق، لتشكل شهادة على ما عاشه العراقيون من حروب ومنفى وأحلام مؤجلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في: 07/09/2025 

الرابط

https://www.mc-doualiya.com/%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%AC/%D9%83%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%87-%D8%B4%D9%88/20250907-%D9%85%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AD-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D8%B5%D9%84%D8%AD-%D9%85%D9%88%D8%B6%D9%88%D8%B9%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9