أربع قصص
قصيرة، فيها الرملي
بقلم: حسين
الجيزاني
عِفريت
مُرتَد
مهداة إلى
أُستاذي د. محسن الرملي
كان مستلقياً على الأرض
ومخالب الظلام منقضة عليه في زنزانة السجن الكبير. كل نوافذ الأمل متداعية أمامه
ولا يتوقع غير الموت، إما التراجع أو الموت... هكذا كان يرى حاله. لا أحد يستطع أن
يثنيه؛ دهشة الحقيقة متلبسة في رأسه ونافذة نور مفتوحة في قلبه... سمع نَقر على
الباب، وصوت أحب أصدقائه إليه، قائلاً: جئِتك مسرعاً وليس هناك متسعٌ من وقت.
عندما رآه.. فزّ ونهض،
سال الدمع من عينيه، واستقبله بالأحضان. ربت على ظهره، وقال: صديقي الأقرب،
الأوحد.. الذي لا شريك له في قلبي، كيف حالك؟
جاء صديقه لوسيفر
لزيارته في السجن الانفرادي، وجده مرمياً خلف جدرانٍ سميكة معتمة، وهو منير
باعتقاده الجديد: يعز عليّ أن أراك في هذا السجن القذر، السجن ليس مكانك، أنت
شيطان مجتهد واستثنائي، لماذا هذا التمرد على الملك إبليس!
- لأنه بصق في وجهي، ولم
يجبني على أسئلة تجول في رأسي يا لوسيفر.
صحوت، ونهض عن فراش الشر
والخطيئة: أنا لا أحب التمرد، أُنفّذ ما يطلبه مني بدقة، وبلا أيّة مخالفة... وفي
المهمة الأخيرة، نجحتُ نجاحاً باهراً، فأثنى عليّ ووعدني بجارية سمراء لها عين
واحدة في المنتصف، سنشرب النبيذ الأحمر ونرقص معها على أنغام الطرب الأخاذ.
- إلى متى يا صديقي
سنواصل تسللنا إلى أعماق الناس مثل حيّة تنساب بين الحشائش، نوسوس لهم، نحث صفاتهم
السلبيّة ونوقظ قوى الشر المدفونة في أنفسهم، نجعلهم متشائمين على الدوام، مولعين
بالظلام واليأس والحزن.. نجعل منهم شياطيناً يختبئون خلف وجوه ملائكية، يتخيلون كل
الذين أمامهم عراة، غارقين في ملذات حيوانية شهوانية. لا يغادر حياتَهم نكد إلا
إلى نكد آخر، نسبب لهم الاكتئاب والضيق الاجتماعي حتى يكونوا أكثر عرضة لارتكاب
الجرائم، نجعلهم يشعرون بأقل تقدير لذواتهم، غرقى ولا يفهموا الجزء المظلم من
شخصياتهم.. نُنمي النرجسية المتضخمة والكبرياء والأنانية والقسوة، وعدم الشعور
بالآخر، والتلاعب واستغلال الآخرين. لا مكان للأخلاق، والتأنيب لا يطرق أبواب
الضمير.. هكذا نحن الشياطين؛ نوسوس ونشيع ثقافة لا جدوى منها.. سوى لنرضِ غرور
الملك وتحدياته الفارغة!
وقع كلماته يدب في رأسي
وهي تزلزل كل ما تربيت عليه كشيطان، كان محسن الرملي نقطة تحول في حياتي، حفر
صورته وروحه في نفسي بما لم يفعل أحد غيره. لا تمل مجالسته حتى لو طال الأمر
لساعات. مرحه، ثقافته، ذوقه، تواضعه، فلسفته في الحياة. نعم، فلسفته في الحياة،
اكتشفت أني أعاني من تصحّر فكري، أضجر من أي حديث عن المحبة والضوء والجمال
والنفوس الصافية. لا أملك أدنى لياقات التفكير الإيجابي. أعيش على الهامش وأُمارس
رغبات الملك التي تُملى عليّ، يثقفنا على الطاعة، طاعته أولاً وأخيراً، لا
اجتهادات مقابل قناعاته. يردد دائمًا على مسامعنا: أنتم ظل لرغباتي واشباح بلا
ملامح.
هذا ما جعلني أتساءل: ما
الجدوى من وجود هذا التافه في حياتي. أدركت أن كل هذا الإرباك والجهل والرغبات
الفجة والسخيفة سببها الملك. مسخت ما في راسي وبدأت طفولة جديدة، حياة أكثر عمقاً،
تتسم بالمعرفة والطموح والأمل. تحوّلتُ من وسواس خناس إلى طالب يجلس في حضرة أستاذ
استثنائي. قيل في الأثر، من ليس له شيخٌ فشيخه الشيطان. في الحقيقة كان هو شيخي.
ربما أنا الوحيد من بين الشياطين الذي حظي بهكذا إنسان. أنا الآن ملاك متفائل مولع
بالضوء، بصيرتي ترى نوراً، يا لوسيفر، أنا شكَّلت حياتي من جديد.
- ذلك الرملي لن ينفعك
في شيء، صدقني.. إنه سحابة صيف تمر سريعاً، نفخَ في اوداجك وألّب فكرك حتى تصورت
أنك دينصوراً... اِفهم؛ أنت شيطان. سأمزق خيال الرملي بمخالبي وأجعله يطوف شوارع
مدريد وهو يكلّم أحجار الحيطان المتراصة.
جاء السجانون وصاحوا:
هيا يا لوسيفر، أُخرج، انتهت المقابلة. الملك طلب منا جلب هذا الشيطان المرتد، هيا
خُذوه.
جلبوه مقيداً ورموه بين
أقدام الملك إبليس، رمقه بوابل من نظرات الغضب، ثم اتكأ على الكرسي المرصع بالعقد
النفسية والنرجسية الجوفاء. أخذ نفساً عميقاً، وقال: هل راجعت نفسك؟ أريدك أن تعود
إلى رشدك، وتكمل مسيرك الحافلة بالإنجازات، أنت شيطان محترم وذكي ولك صولات وجولات
في ميدان الغواية. كيف تفكر بالتمرد عليّ يا صغيري! أنا أعاملك كإبني، هيا فكّوا
الاصفاد من معصميه ليعود إلى ميدان الغواية من جديد.
- أيها الملك، منذ الآن،
أوجت لنفسي حياة خاصة، وليس لأحد دخل فيها. أنت عرفت بكل ما يجول في داخلي من
تفكير وتمرد على السائد. لم تحترم تطلعاتي. لم تحاول تفهم إشكالاتي المنطقية، ولا
حتى تجيب عليها، إجابتك كانت بصاق غطى كل وجهي فقط، ثم رميتني خلف القضبان.
فرد عليه الملك
بغضب: أنا من جعلتك كائناً بائناً للعيان، بعدما كنتَ مجرد شبحاً من الجهل، صغت
قالبك الفكري على مزاجي وجعلتك شيطاناً محترماً بين اقرانك.
اِستل السيف اللمّاع
المتوهج من غمده، وقال: أيها الحقير، أنسيت أنك شيطان وليس ملاكاً، ربما نهايتك
قريبة إذا لم تتب وتراجع نفسك.
فرد عليه الشيطان
المتمرد: كفى يا إبليس، انفض رغباتك المتعجرفة. الله نور الحياة، فإذا عرفت أنك
مجبول من النور، سوف تعود إلى النور...
بعد هذه الكلمات، تدحرج
رأس الشيطان المرتد على الأرض، مثل كرة، والابتسامة على محياه.
XXXXXXXXXXXXXXXX
الرملي
في مَرمى السعير
ونحن نجلس على طاولة
مستديرة في أحد المطاعم، أشرت بكلتا يديّ أن يُقرّبا من حولي آذانهم، بعد رشفة من
كوب الشاي الحار، وقلت جازما: لن أدَع الرملي يعود سليما إلى مدريد.
تقربت منه أكثر لأظفر
بمآربي السوداء، وأغتنم لحظة مناسبة، للفتك به.
البارحة سرت خلفه كشبحٍ
على أثر حقد ساد أحلامي في ليلٍ مضطرب، وأنفاس مرتجفة كسعفة في صدري.
أخذتُ موضعاً مناسباً
خلف أحد الأبواب، ألف على رأسي بلفافٍ بنيّ اللون، أقتل ابتسامتي المطمئنة، وأقامر
بكل ما أملك وما تبقى من أيام حياتي.
قبضتُ بكل قوة على مقبض
خنجري الأسود، حين لمحته بوجه مكفهر، يتوجه نحوي، مطأطئ الرأس، يحشر كفه في جيبه
ليستخرج ولّاعة لإشعال سيجارته التي بين شفتيه.
في الحظة المناسبة؛ أخرجتُ
الخنجر لأنحره.... لكن، حدثت مفاجأة... اِكتشفتُ أني أُمسك الولاعة، فمددتها بلا
وعي، وقلت: ولّاعتي حاضرة يا دكتور محسن.
أخذتُ نفساً عميقاً، على
طريقة أحد رؤساء العصابات، وأكملتُ: أول جريمة فشلت بها في حياتي، كانت في فترة المراهقة.
في إحدى الليالي، اِشتقت
إلى صديقتي التي يقع بيتهم بالقرب منا. وثبتُ إلى حديقة منزلهم عندما تلاشت كثافة
جموع السابلة بجواره. وثبت في لحظة إشارة من اظفر أصبعها الملطخ بلون أحمر وشفتان
بلون وردي.
لاهث الأنفاس منتصباً،
في حديقة بيتهم الكبير، مختبئاً خلف تمثال النافورة. أمشط بعينيّ الحارقتين، بهدوء
حذر، ما يدور حولي... سرعان ما تسلل إلى مسامعي صوت أبيها الخارج من باب المطبخ،
يردد كلمات أحد القديسين: "لا يُعالج الخطأ بخطأ أعظم. إن الغضب خطأ خطير. لا
ندافع عن الحق بالغضب".
فاغر الفاه في لحظة رهبة،
ورغبة جامحة تجثم على شفتيّ، واحتميا بالصبر من زوبعة الإيمان الطافح في جوفي.. ثم
لملمتُ ما تبقى من هدوء، وسرت أمزق بأصابعي كل زهرة حمراء في طريقي. خرجت من بوابتهم
الواسعة بخطى متمهلة، لم أحظَ بقُبلة!
هزت رأسها زينة جاسم،
تحرك ضفيرتها المتدلية على ظهرها، وقالت هامسة: أملك الكثير من الشجاعة والخبث.
ستحملني قدماي كريح صرصر
في ليلٍ مدلهم. سأقترب منه، وأفرغ رصاصات مسدسي الكاتم
في صدره، وأقول بعدها
هامسة في أُذنيه، وهو في النفس الأخير: المقامر يقامر بكل ما يملك.
بلا مقدمات، اِستدارت
سماهر، أرادت أن تصرخ بكل ما تملك من شجاعة "هؤلاء مجرمون..."
لكن زينة استشعرت
كلماتها قبل أن تُنطَق.
انقضت تصم فمها بكلتا يديها،
وقالت بنظرات لبوة: لن ينفعك كرشك المنتفخ وطفلك المنتظر!
XXXXXXXXXXXXXXXX
الحارس
الشخصي
عندما خرجتُ مسرعا من
بيتي متجها إلى معرض العراق الدولي للكتاب، غاب عن بالي أن أتناول برشامة مهدئة
قبل الخروج. حين دخلت إلى المعرض، بدأ
الجد بالطواف وفي جعبتي حكايات
وأشواق معطلة تسري في عروقي.
أجس نبض اللاهثين وأطوي
بخطواتي بلاطات المعرض المتراصة. دخلت لاهثاً لرؤية الروائي
الدكتور محسن الرملي. دخلت من الباب الكبير باحثاً عن (المدى)...... وجدت في الأخير
الدكتور جالسا على كرسي كملك، ضائعا بين زحمة المحبين والمتلهفين، يوقع لجمهور كبير.
كان يقف فوق رأسه حارسه الشخصي، مفتول العضلات، عريض المنكبين، طويل الوجه بقسمات متوحشة. فضممت يدي إلى صدري حين
انهارت سدة أمواج الأوهام في مخيلتي وفاضت!
فالتفتُ إليّ حارسه
وأشار بعصاه السوداء، دون أن ينطق كلمة بعدم الاقتراب، بأي شكل من الاشكال إلى الدكتور. فوقفت متجهم التقاطيع، أنحر
كلمات المحبة التي نسجتها. حاولت تكسير ملامحه بابتسامة
عريضة وترحاب، لكنه بقي مصراً على عدم اقترابي دون الحاضرين. فتغيرت فجأة ملامحه
بشكل أكثر بشاعة، أخرس بقايا جماحي.
فشتمته وشتمت الرملي في سري!
فمد الرملي رأسه وناداني
بابتسامة، قال ضاحكاً: لماذا تشتمني يا صديقي!
فأيقنت لحظتها أن الرملي
سيد الأوهام!
XXXXXXXXXXXXXXXX
بين
الرملي وأناييس
ونحن نقف على خشبة (دار
المدى)، في معرض العراق الدولي للكتاب، باغتتنا نسمه هواء شتائية تسللت من الباب
الكبير، مما دعت دكتور محسن لرفع أصبعه على طريقة هتلر، قائلا بوجهٍ متجهم: لن أسمح
للأستاذة أناييس بوليكيه بتغيير مكان الندوة أو أي تفصيل آخر، سواء أكان صغيراً أم
كبير.... أنزل أصبعه وهدّأ من لكنته، وأكمل بصوت خفيض وهو يحك بطرف أصبعه على
جبهته: حلمتُ بها البارحة، كانت تطوف الأزقة ذابلة بساقٍ عرجاء، تصيح مستغيثةً
بالسراب: "لا تستوعبي الحانات ولا الكنائس، يدب بي الخوف فأشرب ماء البحر
كثور أضَل طريقه".
رفعَت زينة حاجبيها ومطت
شفتيها، وقالت ململمة رأيا من شتات الأفكار: أتظن أننا لعبةٌ بيديها!
شهقت بكل سطرٍ وبكل
الكلمات المطيرة، مرحبةً بالعابرات من الأفكار.. فقاطعتها مستدركاً، وأنا أمسّد
لحيتي: هواجسي تسفك دمائي، تائها في المنعطفات، أعصر ما تبقى من أمل، وأنسج آخر
التعاويذ!
لفتَت نظرنا سماهر، حين
رفعت أصابعها مغمضة العين، تضغط في الهواء على ازرار آلة الحاسبة..... وأخيراً؛ فتحت
عينيها، وقالت بثقة: اِطمئنوا؛ لن يُلغى شيء.
إن ألغت أناييس بوليكيه
الندوة، ستموت في عتمة القلق منزوع العقل، تلتهم أصابعها كامرأة لها جيش من العشاق
ولا يتقدم لخطبتها أحد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حسين
الجيزاني: كاتب من العراق.