الأربعاء، 8 يناير 2025

فحوصات: عن أدب السجون / محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

سُجون أدب السُجون

بقلم: الدكتور محسن الرملي

هل أصبح لدينا، في أدبنا العربي، ما يمكننا أن نُطلق عليه (ظاهرة) أدب السجون؟ شخصياً، لا أرى ذلك، فما كُتِب حتى الآن، وخاصة في مجال الرواية، هو قليل، بل وقليل جداً، قياساً إلى ما كُتب في آداب ثقافات أُخرى، وقياساً إلى عدد السجون في عالمنا العربي وكثرة الذين سُجِنوا، وتنوُّع تجاربهم وقضاياهم، وأنواع التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرضوا له، وهذا الكم القليل من الروايات، الناضجة فنيّاً، المكتوبة – تحديداً - عن السجون، رغم جودته، قد بدأ متأخراً، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، برواية (شرق المتوسط) لعبدالرحمن منيف، والتي لم يُسمِ فيها البلَد والمكان صراحة، وتبعتها أعمال أخرى لفاضل العزاوي وصُنع الله إبراهيم وعبدالرحمن الربيعي وربيع جابر ومصطفى خليفة وأيمن العتوم وغيرهم، لم يستطع أن يُشكل سمات وملامح فنية رئيسة مُميزة، بحيث يمكننا القياس عليها والتصنيف، ووضع إجراءات نقدية خاصة بما يمكن تسميته (أدب السجون)، بينما نجدها في الغرب قد بدأت منذ مطلع القرن السابع عشر، مع أول عمل أسس للرواية الحديثة، ألا وهو (دون كيخوته) لثربانتس. وبالمقابل؛ فإن ما كُتب من مذكرات ويوميات وسِيَر ذاتية وسِيَر غَيريّة وتوثيقات ومواد صحفية؛ يفوق ما كُتب من أعمال أدبية إبداعية، وربما تعود قِلة الكتابة الروائية إلى أسباب عديدة، سأسميها قيوداً، أو: سُجون أدب السُجون، منها مثلاً: محدودية هذه الموضوعة نفسها، لأنها أولاً وأخيراً؛ ستدور في مكان ضيق وتصف تفاصيلاً مكرَّرة من معاناة مُتوَقَّعة، عدم رغبة غالبية القراء بالاطلاع على هذا النوع من الأعمال، قلة الأدباء الذين تعرضوا لهذه التجربة وأرادوا الكتابة عنها، وهناك من يُفضل تجاوزها ونسيانها، وضيق هامش الحرية في ظروف ومراحل معينة، كما أن جل أعمالنا تركز، أو تكتفي بالشكوى والنواح والوصف الطويل للمعاناة، دون أن تنطوي على رؤية واضحة وعميقة ومشاهد وأفكار وأحداث تنبض بالحياة ولصالحها، تشحذ متلقيها بقوة الأمل الإنساني، وتكشف مكامن طاقاته الروحية والنفسية، كما في روايات عالمية، تحوّلت لاحقاً إلى أفلام، كرواية (الفراشة) لهنري شاربير و(ذكريات من بيت الأموات) لدوستويفسكي وغيرها.

أما عن ذِكر السجن وتجاربه، عَرضياً، كجزء من أعمال أدبية، وتوظيفه داخل بنائها ولصالحه، وليس كموضوعة رئيسية، فهذا موجود في الكثير من الأعمال الروائية العربية، فحتى أنا الذي لم أتعرض للسجن في حياتي سوى ثلاثة أيام، كعقوبة روتينية خلال أدائي للخدمة العسكرية الإلزامية، قد ورد السجن بأشكال مختلفة في بعض رواياتي وقصصي.

وكخلاصة؛ أرى بأننا لم نفِ هذه القضية تناولاً في رواياتنا حتى الآن، بحيث تشكل ظاهرة لافته، كجدارية كبيرة تُذكرنا والأجيال القادمة بفداحتها، من أجل التوعية الحقيقية بها وتجنُب تكرارها، فما فعلناه، لا يتعدى تماثيلاً متفرقة أقمناها هنا وهناك، وفي كل الأحوال؛ أتوقع لأدب السجون أن يتراجع مع مرور الوقت، لأن أشكال وأسباب وكيفيات السجون نفسها، صارت تتغير وتتراجع في العالم، مع تزايد الرقابة والحريات ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها، فيما ستبقى الأنواع الأخرى من سجون الإنسان الذاتية والاجتماعية والتكنولوجية، شاغلاً للأدب طالما بقي الإنسان وبقي الأدب، ومنها تلك التي أشار إليها المعري في أبياته الشهيرة:

" أراني في الثلاثة من سجونِ           فلا تـسأل عن الخبر النـبيثِ

فـقدي ناظري ولزوم بـيتي          وكون النفس في الجسد الخبيثِ"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 75 يناير 2025م

https://www.sibf.com/ar/pwhardcover