مبروك الحذاء
الجديد!!
بلال خاركوفيسكي
بعد فترة
من القراءات المتنوعة في الأدب العراقي، الرواية على وجه الخصوص، في نصف السنة
الاخير جاءت النتاجات بمستويات متفاوتة.. إلا أن معظمها لم يكن ملبياَ لطموح
القارئ الإنتقائي حتى إن بعض الروايات وجدتها تسبب جفاف الريق!! الى أن صادفني
منشور للكاتب محسن الرملي ينوه فيه الى الافراج عن روايته الجديدة (أبناء
وأحذية) من المطابع، وما إن اقتنيتها لم أنتظر طويلا، حيث سافرنا معا - أنا والرواية-
من مطار بغداد الدولي وصولا إلى مطار أسنوفا في خاركوف الأوكرانية ونحن نتجاوز
الحدود، أنا بجواز سفر ورقي والرواية بجواز سفر أصدره محسن الرملي على مسؤوليته
وذوقه الخاص.. لتجيء الرواية بعد جفاف الريق كالشاي العراقي الضابط للايقاع
اليومي.
تستحق هذه
الرواية أن توصف بأنها "جديدة" ليس فقط كونها آخر أعمال الرملي، بل نظرا
للزوايا التي إختارها لطرح تساؤلات رغم أزليتها تبدو وكأنها تطرح للمرة الاولى،
تختلف هذه الرواية عن سابقاتها -عند الرملي- فهي تبحث المصير الفردي للأنسان عبر
جغرافيا واسعة لا تنحصر على العراق فقط . كأن الرملي قد عثر على نافذة سرية تطل
على الفناء الخلفي للتساؤلات لينظر من خلالها الى (الاخلاق، القدر، المصير، الخير،
الشر، الظلم، الموت ومفاهيم أخرى)
بنظرة مخالفة لما هو سائد ومُتَبَنّى ساعده في ذلك طريقته الفعالة في السرد التي
أخذت بالتسلق من متنٍ الى آخر بالترتيب فالقارئ الجيد سيجد إيذانات، ليست مفتوحة
بل إن هنالك مردود لكل إيذان فلا صدفة في السرد. أما "جغرافيا الانسان"
في (أبناء وأحذية) فجاءت غير خالية من الشجن محملة بأوصاف دللها الرملي وإعتنى بها
كإعتنائه بالجميلات المثيرات اللاتي شَكّلّنَ محورا مهما "التحاماً"
بالمحاور الاخرى هذا غير إن جغرافية الرواية العامة ممتدة لتستعرض أعماقا إنسانية
تختلف تبعا لاختلافات ثقافية وتتشابه في كونها إنسانية ليُبقي الرملي على كلمة
(إنسان) غير قابلة لتجزئة الفهم وبعيدة كل البعد عن الذيول الي تُلصق بها. يستمر
الإتقان ليتجلى واضحا في بناء الشخصيات، فالشخصيات لم تستيقظ لتجد نفسها داخل متن
غريب بل إنها خُلقت قبل زمن الرواية وعاشت حياة إستكملتها داخل الرواية بأريحية
تامة فلا شخصيات مفروضة على الحكاية ولا شخصيات مستغربة وجودها أو أخطأت العنوان
حتى إن دقة بناء الشخصيات ومقاربتها داخل المتن أقرب للأسلوب السينمائي (مدرسة
الفعل الحركي) الذي يتم عن طريق بناء (هيستوري) كامل فتعيش الشخصية خارج الفيلم
(الرواية) قدر ما تعيشه داخل الفيلم(الرواية) أقل أو أكثر بقليل. كقارئ فأنا مستعد
للرهان على ان فكرة الرواية – رغم غرابتها وحداثتها- وأحداث الرواية هي أقرب لأكثر
من واقع منفصل زمنيا وجغرافيا عاشه الرملي سابقا، ربما ليس بكل هذا الصخب ولا بكل
تلك الدقة فاحداث الرواية ليست منسوخة بدقة من الواقع ولا مفتعلة ولا خيالية بحتة بل هي – كما تبدو لي – أشبه
بنتاج علاقة حميمة بين واقع الكاتب وخياله، حتى إن بعض المواضع داخل النص بدت لي
وكأن خيال الكاتب إلتحم بواقعه بعنف مرغوب ومقدر من قبل الواقع لينتج عن ذلك
الإلتحام مواقف أثرت النص وأكملت إنسيابه. عين العاشق المقدر للمرأة تبدو واضحة
جلية، فالرملي لا يكتب المرأة ولا يصفها بل يتجلى ليخلقها في عالم الرواية حيث
يُقَّدر للقارئ المنتشي بالجمال أن يشاهد نساء رواية الرملي يجلسن حوله أثناء
القراءة بكل ذلك الدلال الذي دللهن به الرملي بين سطوره المثيرة. الكاتب الشاعر،
فالوصف بأحسن حالاته يتخلل السرد أنيقا ويحسب إختيار بعض مرادفات الكلمات على حساب
الكلمات الأصلية إنتصارا لموسيقى السرد , فالموسيقى جاءت بمنتهى السلاسة فلا توقف
اثناء القراءة ولا نتوءات كلامية تعرقل الإنسياب وهذا يعود للغة الشعرية العالية
في الرواية وتحقيق المعادلة الصعبة بين الفكرة نفسها و الوعاء او القالب الذي تطرح
به تلك الفكرة دون أن نجد فكرة عرجاء أو مفردة أُدخلت رغم حروفها!. موقع الراوي
وانتقال الحكي داخل النص جاء بقدر جيد من السلاسة، والبناء العمودي ربما جاء
مغايرا لما يدل عليه هذا المصطلح إلا إنه بطريقة أو اخرى قد حقق مفهوم المصطلح،
فشخصيات مختلفة تكرر سرد حدث واحد، وشخصية واحدة تكرر
سرد أحداث متعددة بوجهات نظر متفقة أحيانا ومختلفة اغلب المرات إختلافا صحيا ناتج
عن أعماق مختلفة للشخصيات، كون أغلب هذه الشخصيات جاءت مختلفة عن بعضها البعض إلا
أنها تشترك بالأهم ألا وهو العمق الأنساني، حيث يحسب للرملي بناء شخصياته على
المستويات الثلاثة، الخارجي، النفسي والتفاعلي.. فكأن الرملي يسير دافعا عربة
التسوق في أزقة البناء البشري يقتني مهنة من هنا، ملامح من هناك، عمق نفسي وخيال
من على رفوف تبدو عالية بالنسبة للآخرين، فكل شخصية تختلف كليا عن الاخرى ولكل
شخصية ميزة أو أكثر تجعلها غير معرضة للنسيان أو الاهمال متجاوزا بذلك النظرة
المطلقة النمطية للشخصيات, فالمطلق الوحيد عند الرملي هو كون الإنسان أنسانا! فلا
شر مطلق ولا خير مطلق، إنما هي شخصيات تراكمية متفاعلة مع الحدث ومع الشخصيات
الأخرى بعيدة كل البعد عن النمطية وخارجة على المطلق. الرواية قابلة للتخيل و
إستحضار المشاهدة الآنية فهذا الكتاب ينتمي الى مجموعة الكتب القليلة التي من
الممكن إقتباسها للسينما أو الدراما بعد معالجة بسيطة فهي رواية غنية بالشخصيات
المختلفة باعماق متفاوتة وأحداث مطلية بعنصر التشويق وتمتد على جغرافيا واسعة بوصف
دقيق يضمن المتعة البصرية سينمائيا أو دراميا. ختام الرواية جاء – على مزاجي
كقارئ- تصرفا ربما لم يكن منتظرا من البطل إلا إنه قرار منطقي جدا ومناسب جدا
لدرجة النضح التي وصل إليها البطل في حافة السرد الاخرى بعد تراكمات وتجارب غنية، أما الجملة التي قَدَّمتُ بها مراجعتي هذه (مبروك الحذاء
الجديد) فهي تمثل - لي على الأقل – نقطة إنطلاق الحكاية بشكل لا يقل عن إيذان
الحدث الرئيسي وإعلانه الانطلاق الفعلي.
..السرد
العراقي بخير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (كتابات) بتاريخ 10/11/2018
https://kitabat.com/cultural/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A3%D8%AD%D8%B0%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B0%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A/?fbclid=IwAR02byOJY_nW2bAsiciIuJZcyKjhl8XPhUuBcUIfOBwBzI6myVz25aEtj5I
* بلال خاركوفيسكي: كاتب عراقي يقيم في
أوكرانيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق