الجمعة، 14 مايو 2021

المضامين الفكرية والشكلية في رواية تمر الأصابع / أنفال كاظم

 

المضامين الفكرية والشكلية

في رواية تمر الأصابع للكاتب محسن الرملي

أنفال كاظم

"تمر الأصابع" من الحكايات التي تحمل بين متونها أحزان العراق والإبحار في عوالمه الداخلية المُعقدة والواقعية وصراعاته الدموية بين الماضي والحاضر، والشتات الروحي المتجلي بين الوطن والمهجر والتكيف مع ما لا يمكن أن يُنسى مهما مرت السنين والتغلب على العقبات التي تمتثل أمامنا مذكرة ايانا بما حدث واحتضان ذكريات ماضية لكنها حاضرة وبقوة بحلوها ومرها ،إنها رحلة جديدة تمس الفكر والحواس وتثير التساؤلات ،متفردة في التراجيديا والتحولات والتقلبات والصراعات والتناقضات والثنائيات، مشحونة بالعاطفة والحنان الذي يشذب القسوة من جهة ومن جهة أخرى بالانتقام والقسوة التي تطحن الحنان بلا رحمة. مع مطلع أول سطر للرواية وعلى لسان السارد (سليم أبن نوح أبن الشيخ مطلق) يقول؛ (ماكنتُ لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا تشجيع أبي وهو يحلق رأسي في مرقصه المدريدي قائلاً؛ أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث…هذا العالم جايف) ينطلق بنا الكاتب بالأحداث من خلال إثارة حدث صغير ألا وهو(تحرش ابن اخت سكرتير نائب الرئيس بـ استبرق ابنة نوح المريضة اثناء ذهابها معه إلى الطبيب وعلى أثر ذلك الشجار الذي نشب بينهم يُحتجز نوح في مركز شرطة تكريت) تتفرع منه أحداث كبيرة يترتب عليها سلسلة من غضب و ثأر و هجمات وهجرات وتقلبات تغير مسار قرية (آل مطلق) بزعامة الشيخ مطلق والد نوح بعد ان احتشدوا بأسلحتهم ثائرين امام مركز الشرطة مطالبين بأطلاق سراح نوح واشتباكهم معهم وعلى ضوء ذلك تم تغيير لقبهم من قبل الحكومة إلى(القشامر) فقرروا اخيراً مقاطعة كل شيء يخص الدولة وانتقلوا إلى مكان آخر جديد ينشدون هواء الحرية اطلقوا عليه (قرية القشامر) كي لا ينسوا الخزي الذي الحق بهم ولا ينسوا ثأرهم من الشاب الذي الحق العار بهم يوم تحرش بأبنتهم والذي اقسم نوح على اللحاق به حتى اقاصي الأرض للانتقام منه مهما كلف الأمر، ورد اعتبارهم من الحكومة التي لم تنصفهم بل منحتهم لقبا مشينا يتهامز ويتراشق به أطفال العشائر الأخرى.. تتوالى الأحداث والصراعات والنزاعات على كافة الأصعدة بين الشيخ مطلق الرجل الشجاع_المتسلط الذي يعمل جاهداً لترسيخ قيم ومبادئ الدين في قريته وابنه نوح البار بوالديه المطيع لأوامره احتراماً له وخوفاً منه من جهة وبين نوح الأب الذي نشأ على تناقضات نفسية بسبب تربيته التعسفية كأنه شخصان في جسد واحد وابنه سليم الذي تتذبذب شخصيته بين الميل للاستقرار والتمرد الموروث من جده ووالده من جهة أخرى. لعل الخوض في غمار هذه الأحداث التصاعدية وما ترتب عليها من موت عالية غرقاً_ ابنة عم سليم_ التي احبها حباً جارفاً ،جر أبناء القرية مرغمين إلى جبهات القتال اثناء الحرب الإيرانية بعد تغيير اسم قريتهم الى قرية الفارس كنوع من التهدئة والتعويض واستشهاد شبابهم وموقف الشيخ مطلق القاسي بالعزوف عن دفنهم لحين الثأر من الحكومة لتلك الأجساد التي تعفنت وانتشرت رائحتها في ارجاء القرية ومواجهة نوح لوالده في تلك الليلة المظلمة والوقوف بوجهه لأول مرة بقسوة وعنف واخيراً موت الشيخ الذي ترتب عليه قرار سليم بمغادرة القرية دون تردد او وداع ،ثم تلاه التحاق نوح بالدبلوماسي لتحقيق العهد الذي قطعه امام والده ،ليلتقي اخيراً سليم بوالده بعد عشر سنوات في أحدى نوادي المانيا ويحاول ان يتقرب منه ويثنيه عن قرار الانتقام بطريقة ودية، أجد ان الرواية مليئة بالمضامين الفكرية الجوهرية التي تستحق الوقوف عندها باعتبار ان المضمون الفكري يشمل المضمون الإنساني والأخلاقي والفلسفي ووجودها معاً بحالة اندماج تام وان نجاح العمل الأدبي يعتمد بالأساس على نجاح الكاتب بإيصال مضمونه إلـى القارئ واستيعابه وتذوقه والمرور بنفس التجربة السايكولوجية التي نسجها الكاتب بالاعتماد على أدوات فنية مثل الحوار والشخصيات والمواقف والحدث… وكما قال أرسطو(ان الفنان يحاكي الفكرة المجردة أي انه يحاكي الأصل خاصة فيما يتصل بالجوهر والفكرة)فهي بالنهاية الرسالة الإنسانية الفلسفية المُبتكرة من قبل الكاتب نفسه والتي تؤثر في ذهن القراء بل والنقاد ايضاً، ومنها؛ البحث عن الحرية الذي تجلى بالإيعاز الموجه من الشيخ لقريته بغض النظر عما ينطوي عليه من عزلة تتسم ربما بالتخلف الا انه اكثر موقف يعبر عن التوق اللامحدود للحرية والعيش في أحضان الطبيعة بلا قيود وبلوغ المدينة الفاضلة فبالرغم من ان الشيخ منفتح على الكثير من الثقافات لكنه حث أهالي قريته للهجرة وعدم التعامل مع وسائل الاتصال والاعلام ومقاطعة الدولة واوراقها وصدقاتها وكأنه بذلك ينشد الفضيلة ويحلم (بالمدينة الفاضلة) التي تسودها مبادئ الدين والقيم الأخلاقية وان الاصطدام بالحكومة كان بمثابة فرصة لتنفيذ الحلم ،رمزية العراق الواضحة فقد يشعر القارئ وهو يجوب احداث الرواية ان الهجرة كانت بمثابة الثورة ضد الأنظمة الدكتاتورية والتحرر من قيودها وظلمها وان سكان القرية كسكان العراق بمبادئهم وقيمهم وابراز دور الدين وتعزيز مفاهيم بر الوالدين والانصياع لأوامرهم سواء ان كانوا على خطأ ام صواب وهذا ما تربت عليه الأجيال في الماضي والذي تجسد بدور الجد القائد الشجاع والصارم في ترسيخ مبادئ الدين الإسلامي رغم سلبياته وقساوته كذلك ترسيخ مفهوم الخطيئة لدى الأبن ومخافة الله والنار وزبانية الجحيم وإيضاح فكرة الانتقام العشائري والثأر وسلبياته التي دمرت المجتمع في الماضي والحاضر فالغضب الذي تأجج في الشيخ مطلق وابنه نوح كان سببا في دمار وتهجير القرية والتلاعب في مصائر أهلها، من الجميل ان نمارس مبدأ التسامح لنحرر ارواحنا من قيود الثأر لحقن حمام الدماء والخراب الذي يحدث بسببه، صراع الهويات بين العرب والغرب الذي وضحه الكاتب من خلال رسم نقاط الاختلاف والتلاقي بين ثقافات الشرق المتخلف والغرب المتحضر وطرح مواضيع متعددة كالهجرة والاغتراب والحنين للوطن والحب بمستوياته المؤثرة، وربط مادة التمر كمرموز يتصل بالجنس إذ لاحظ سليم بأن والده يتبع نفس الأساليب التي يتبعها هو مع التمر من حيث وفرته في شقته وإصرار الجد في الماضي على توفره في بيت نوح بالقرية وتوظيف التمر بجلب المتعة الروحية ،ليس فقط بتقوية الفحولة لكن الإسهاب في عنصر الجنس كان مزعجاً نوعاً ما واخذ جزئية كبيرة بحيث يكاد يكون ضمن المواضيع الأساسية في الرواية،  الحديث عن المضامين الفكرية يجرنا إلى الحديث عن المضامين الشكلية بحكم استحالة الفصل بينهما فهما وجهان لعملة واحدة فالمضمون الشكلي(الشكل الفني والبنائي) للرواية يساهم بشكل كبير في إيصال الأفكار لأنه يعتمد على المفارقة او التوازي او المقارنة او التنويع او التوحيد او التكرار او المقابلة او أي شكل آخر يكسب العمل فرديته ومن هنا اشير إلى أن سر لذة هذه الرواية يكمن في تشكيلها المعماري في بناء شخصياتها الرئيسية التي تتبلور خلال السرد فتتطابق وتتقاطع مع بعض في ذات الوقت وفي بعض الأحيان بلوغها اقصى مديات التشابه بالأفكار والمعتقدات. بُنيت الشخصيات بتركيز وترتيب وصياغة عذبة دون ان تنفلت خيوط هذا النسيج المميز التي جسدت الصراع الفكري والروحي بين الأجيال المتمثلة بالثالوث الجد مطلق الستيني والابن نوح الثمانيني وابنه سليم الذي يمثل الجيل الحالي بحيث يسهل على القارئ فهمه. اعتمد الكاتب على تقنية الاختلاف والتشابه بين شخصياته مع ترك المجال مفتوحا لفهم ذلك، فسليم يميل الى الاستقرار وهدوء البال من خلال مناهضة قرار والده وجدة بالانتقام والهجوم على مركز الشرطة وقراره المفاجئ بالمغادرة، وهاتان الصفتان تتعارضان مع شخصيتهما المتهورة وبنفس الوقت يتشابه معهم في خلق أجواء التوتر والتمرد المتأصل في روحه مع سكان العمارة التي يقطن بها برفضه الاجتماعات وعدم دفع اجور رمي الأوساخ والعزوف عن قرار إصلاح الباب فتبقى شخصيته متذبذبة بين التخلف والتحضر، أما بالنسبة لعلاقة نوح بشخصية والده الشيخ مطلق فبالرغم من حديتها وسطوتها ورغم ان بعض الاحداث التي دارت حوله تجنح لغير صالحه إلا انها تجعل منه انساناً مغامراً وشجاعاً يتحلى بروح الاقدام والإصرار والتي تجنح لصالحه وهي صفات القروي الشجاع الذي يرسخ مبادئ الدين وبر الوالدين بقسوة وتعسفية جعلت من نوح بشخصيتين متناقضتين فيقول سليم؛ (أفكر بأن أبي في داخله اثنان هناك يخفي الذي يمارسه هنا وهنا يخفي الذي يمارسه هناك دون ان يتخلى عن احدهما نهائياً وأحياناً يطعم أحدهما بالآخر) فهو يشترك معه بالتمرد والشجاعة والتقرب إلى الله بالصوم والصلاة ويختلف عنه فيما يخص ما حرمه الله من خمر ونساء اما بالنسبة لابنه سليم فهو لا يكاد يشترك معه باي صفه ماعدا مغادرة القرية، هذا التناقض منح الشخصيات القوة والصلابة واكسبها قدرة عالية في التأثير بالمتلقي بعكس الشخصية التقليدية التي لا تأثير لها كما ويطرح سليم تساؤلات وهو محتار لمن يعطي الارجحية في علاقتهما من ناحية الاختلاف والتشابه(ترى هل ان ما يتشابه فينا اكثر مما يختلف؟ هل نحن حقاً ثلاثة مستقلون في كينونتنا عن بعضنا تماماً؟ وما هذا المناخ الخاص في علاقتنا الذي تختفي فيه رغبة كل واحد منا بتربية او إعادة تربية الآخر)

صدرت هذه الرواية بطبعتها الأولى عام٢٠٠٩عن دار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف في الجزائر وقد رشحت للبوكر سنة٢٠١٠

----------------------------

*نشرت في صحيفة (الحقيقة)، العدد (١٩٥٦) الأربعاء ٢٠٢١/٥/١٢ بغداد

https://drive.google.com/file/d/12-pSEzgdXX65zhnezBH1FeTJ06INLQcc/view

ونشرت في كتاب (سرديات الفضاء النصي)، دار الإبداع، 2022 العراق

أنفال كاظم: كاتبة عراقية، من أعمالها: دعوة إلى القمر، سرديات الفضاء النصي، وللصمت إيقاع

http://www.alhakikanews.com/

ليست هناك تعليقات: