إيزيس العراقية تأكل أشلاء أوزوريس
ثنائية
محسن الرملي ملحمة
روائية تبحث عن وطن
محمد سمير
ندا
في
الأسطورة الفرعونية، تسعى إيزيس إلى لملمة أشلاء زوجها أوزوريس، الذي قتل بيد
الشرير ست، وقُطّعت جثته إلى 42 قطعة، أما في ملحمة محسن الرملي البغدادية، فلا
يمكن حصر عدد الأشلاء التي تناثرت على ضفتي دجلة والفرات، ولكن إيزيس العراقية تفكر
في جمع شظايا الوطن التي لخصتها في جثمان أبيها المغدور، ولأن الوقائع حتمًا تختلف
عن الأساطير، فقد حملت خاتمة أسطورة إيزيس نهاية سعيدة، تعيد الحياة إلى الميت،
فينجب أوزوريس حورس من زوجته المثابرة إيزيس، ولأن السعادة في أوطان العرب قد
استوطنت الحكايات وموروثات الحكي الشفاهي منذ عقود، لم تحد حكاية الرملي عن قسوة
الواقع، فالميت -بكل بساطة- لا يعود، والصلوات مهما خشعت نبراتها وانحنت لها
الجباه؛ لا تَردُّ الحياة في أجساد الموتى، والنهايات السعيدة لا تعرف موقع العراق
فوق خرائط اليوم المموهة.
عازف الربابة
"جاءت
ثنائية الرملي في جزأين قوامهما يجاوز 600 صفحة، وبفارق زمني بين صدورهما بلغ 12
عامًا من الوجع والشتات، والمقصود هنا روايتيه حدائق الرئيس الصادرة في
2012 والواردة في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في 2013، ونالت
ترجمتها الإنكليزية جائزة القلم الدولي2016، وجائزة سيف غباش بانيبال 2018.
ثم رواية بنت دجلة الصادرة بالإنكليزية والعربية عام 2020"
تتميز
كتابات الرملي بقوة الاستهلال، فعلاوة على افتتاحيته المغناطيسية الصادمة في رواية
أبناء وأحذية (دار المدى – 2018)، استهل الكاتب رواية حدائق الرئيس بالعبارات
أدناه، ملقيًا بشلة خيط فارغة بين يدي القارئ، تاركًا طرف الخيط على مقربة من
ناظريه، مُوكلًا له مهمة لملمة الحكاية، هكذا تبتدئ الرواية، وهكذا ينخرط القارئ
في لملمة الفصول، مكونًا صورة جلية لمأساة العراق، وجرحًا لا يندمل في صدر الرملي.
"في
بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع
لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه قد تشوهت
تمامًا بفعل تعذيب سابق لقطعها أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح، فلم تعد ملامحها التي
عرفت بها، على مدى أعوام حياتها المنتهية، كافية للدلالة عليها"
ولطالما استوقفتني انسيابية السرد وتدفق التفاصيل لدى كُتّاب المهجر، وكأن الكاتب ينزف وجع الهجير فوق الورق وينزف ذكرياته المختزنة من ذاكرة الزمان والمكان بين دفقات الحبر، وحكايات الرملي طالما حملت هذا الطابع، فالحكايات تتوالد، والمرويات تتناسل، كل حكاية تخبئ في رحمها أجنة حكايات أُخر، والسطور عامرة بالتفاصيل والأماكن المشيدة على قمم الحروف، والواقع أن محسن الرملي حكّاء فريد من نوعه، إذ هو أقرب إلى عازف الربابة الجوال الذي عرفناه في قرى وصعيد مصر، وإن كانت معزوفاته الشجية مضفورة بالوجع، وحكاياته ومواويله حافلة بالخسارات والألم، لا تترك موضع قدم لأبطال السيرة الهلالية والحكايات الشعبية التي يعيش الناس على زهوها وفخرها الزائف.
تتمحور
حكاية الرملي في قسمها الأول حول ثلاثة شخوص عرفوا بأبناء شق الأرض، فقدمهم
كممثلين لوطن ممزق، وكأنهم نزف الأرض التي أنهكتها المعارك وكممها الحصار: عبد
الله كافكا، اللقيط مجهول الأصل، المأسور في جب روحه، المثقف والقارئ والعاشق
المرفوض من عائلة معشوقته، والأسير لمدة ٢٠ سنة في سجون الجمهورية الإسلامية. يعكس
الرملي من خلال هذه الشخصية حالة الانسحاب الطوعي من الحياة التي نالت من الكثيرين
عقب الحروب المتعاقبة، وعوارضها المتمثلة في فقدان الشغف وانطفاء لمعة الحياة
وتساوي الأمور كافة أمام منطق الحياة العبثي ووحشية الجنس البشري. امتصت حرب
الخليج الأولى ربيع شبابه، فعاد من الأسر جسدًا يوحي بالحياة، فيما ظلت روحه أسيرة
حرب لا تهدأ في عقله طبولها.
أما إبراهيم
قسمة، فهو الأقرب لتمثيل الوطن، عاش إبراهيم كما النرد في كف القدر، يقبل بكل
ما يفرض عليه، لا اختيارات له ولا تدخلات في مسار حياته، قرر لعب الدور الذي يُسمح
له به فوق رقعة شطرنج لا تعرف غير مربع واحد بلون الدم، فتحول من جندي امتصت الحرب
سنوات شبابه، وسرقت قدمه وجففت ماء خصوبته، إلى مزارع في حدائق الرئيس، حدائق
الرئيس التي اكتظت بالجثامين، الحدائق التي لا تروى بغير الدم، ولا يسمدها سوى
رفات المعارضين، كرمز مؤلم لعراق تحول إلى حديقة شاسعة للزعيم، قوام حرسها وخدمها
شعب بأكمله. يجد إبراهيم نفسه وقد تحورت وظيفته من مزارع إلى حفار قبور! فيقرر للمرة
الأولى في حياته أن يحدد مساره، بعدما فقد واقعيًا كل ما حرص على الحفاظ عليه،
فراح يسجل كشوف الموتى وضحايا النظام البائد بلغته الخاصة، حرصًا على إعاقة
النسيان من التسرب إلى قبورهم.
وأخيرًا
تكتمل أضلاع الحكاية بشخصية طارق المندهش، وهو الشخص الوحيد الذي كان قادرًا
على الاستمرار، والنموذج الوحيد للناجين من أتون الحرب وتبعياتها وتحولاتها، هو
الذي أتقن التلون والعزف على كل الأوتار، هو من برع في الخذلان وخيانة الأقربين
إثر شعور بالنقص ترعرع في وجدانه، وهو النفعي المولود لأب قاتل، تاجر دين وموت
ودمار، وهو البراغماتي الوصولي الذي تخلى عن جل ثوابته ومبادئه، فنجا من الانقراض
حتى نهاية الصفحات!
يضع
الرملي أساس حجر السرد، ويشيد عتبته الرئيسية على مشهد رأس إبراهيم المقطوع في
صندوق الموز، وينتهي في القسم الأول من مرويته بالوقوف على ذات الرأس مبتور الجسد،
وقد قررت قسمة، ابنة إبراهيم الوحيدة، أن تشرع في رحلة بحث عن بقية الجسد، تكريمًا
لأب/وطن أهملته كثيرًا وزهدت وصاله حتى تمزقت أوصاله، وتضاءلت أمنيتها بتكريمه بما
يستحق، حتى تلخصت التمنيات في جمع جثمانه في قبر واحد!
تتغير
مفاهيم قسمة بملامسة رأس أبيها، وتؤنب ذاتها وقد نفرت مبكرا من حياتها وأبويها
وقريتها ووطنها، مقررة أن ترتقي مُصعدًا وفق مفاهيم الشابة التي كانتها ومعطيات
الحكم السائد، اعتقدتْ ان الاقتران بالسلطة يختصر المسافات والأزمان ويعجل بملامسة
حلم الثراء، وظنت أن تغيير اسمها كفيل بتبديل قسمتها، حتى انهارت أحلامها الأولى بسقوط
بغداد ومصرع زوجها. تحاول قسمة أن تسترجع سيرة إيزيس التي لملمت جثمان أوزوريس في
برديات الفراعنة، بما يرمز إلى محاولة لملمة أشلاء الوطن الذي أنهكه التناحر
والصراع. ولكن إيزيس العراقية كانت مغايرة، فقد حملت في أحشائها بذرة الإله ست، أو
الزعيم القائد، وجرعت معصور الغضب والكراهية عبر مشاهد وشمت خلف جفنيها، لذلك تحيد
إيزيس العراقية عن جمع أشلاء الأب والوطن، وتنخرط في بناء دولتها الخاصة، أسوة بما
شاع في ربوع العراق عقب الاحتلال الأمريكي، بما جعل لكل عشيرة أو قرية أو جماعة
معطيات دولة صغيرة لها ممثلين وسفراء وميليشيات مسلحة تحمي قلاعها وحصونها. هكذا
تحول العراق إلى دولة يسودها الشخابيط، بلد قوامه جمهوريات ودويلات صغيرة نشأت على
صدفة، وستنتهي حتمًا إثر صدفة مماثلة ليأتي غيرها من مواليد الصدف وكهان الفرص. تفقد
قسمة بوصلتها، وتشعر بالجوع، الجوع بمعنى الاحتياج، والاحتياج هنا وإن حمل في
طياته انتقامًا عامًا من القدر، فقد كان احتياجًا إلى التفوق، والثراء، والعظمة،
وما قد تُسدله تلك العناصر من حجب الأمان.
شخصيات ومصائر
"بعدان
تقيأت نسمة في منتصف الطريق، وأحست بالجوع، قررت أن تأكل العراق"
هكذا
يستهل الرملي القسم الثاني من حكايته في (بنت دجلة)، وقد قررت إيزيس البغدادية أكل
أشلاء أوزوريس بدلاً من عناء لملمتها، بعدما وقر في قينها أن الحياة لن تعود
لجثمان الميت، حتى وإن كان الميت ظل الوطن، فقدت الرمز والدلالة والعزيمة، كما
فقدت العراق كلها مصباح ديوجين، فلا صوت حكيم يعلو فوق هدير الرصاص، ولا مصباح
يسطع في سماء يخنق شمسها رماد البارود، ولا دفاع يرد الغاصب سوى شخير النيام. تحولتْ
قسمة من القسمة بمدلولها القدري، إلى القسمة بمعناها الحسابي، فغدت نموذجًا آخر
لاستغلال الظرف الراهن والاستفادة من نزيف العراق، ضربت بالجسد الممزق عرض الحائط
حتى أسكنته الغياب، لتنخرط في البحث عن حصتها من القسمة، وتشييد دولتها الخاصة
رفقة زوجها الصوري ورفيق أبيها طارق المندهش، تؤسس الحزب وتجمع الحشود، وتطبع
الصحف، وتنجح في صنع التزاوج الآمن مع السلطة الجديدة.
في غضون
ذلك التحول، يعرض لنا الرملي عبر مشاهد تصويرية شديدة التميز، مسارات شخوص آخرين،
وأهمهم عبد الله كافكا، واستعادته التدريجية لرغبة الحياة إثر لقاء بمحبوبته تأخر
لما جاوز العقدين من الزمن، ومواجهته مع أبيه الحقيقي التي تأخرت خمسة عقود، هذان
المشهدان على وجه الخصوص، مثلا لي ما يعرف في لغة السينما بالـ (master scene).
قدم
الرملي في قسمي الرواية شخصيات ثانوية شديدة الثراء نظرًا لتأثيرها على مسارات
الحدث رغم قلة مساحات الظهور، فبعد ظهور مميز للمختار وظافر وزينب وزكية والراعي
إسماعيل في حدائق الرئيس يبدع الكاتب في رسم شخصيات جديدة في بنت دجلة، ومن أهمها براء
الشخابيطي، والقزم رهيب الشخابيطي، والشيخ طافر، وسميحة، علاوة على شخصية حميد
الشخار، وواقع الأمر أنني لا أعرف أين وجد الرملي هذه الشخصية بين أدراج ذاكرته؟
شخصيًا، وعلى مأساوية الحكاية، ضحكت حتى دمعت عينيّ أثناء قراءة حكاية الشخار، ثم
دمعت عيني مجددًا عقب انتهاء حكايته، وشتان الفارق ما بين الدمعتين!
تحمل
الأحداث التالية منعطفًا جديدًا يعيد ترتيب الحسابات في دواخل الشخوص، وتجنبًا
لكشف مسارات الحكاية الثرية بالتفاصيل، ينسحب طارق المندهش ويقرر العودة إلى الله،
ويستقر كافكا على قرار باسترداد حياته المنهوبة، ويظل رأس إبراهيم بلا جسد، حتى
يجاوره في النهاية رأس آخر لن أكشف عن هويته!
ملحمة روائية
استخدم
الرملي تقنية الراوية العليم في قسمي الرواية، فظل حريصًا على إطلالته في ثوب عازف
الربابة الرحال، وظني أن تغيير التكنيك لأي سبب، وبأي طريقة كتعدد الرواة مثلاً،
كان ليخل بانسيابية هذه الحكاية على وجه الخصوص، فالحكي هنا طاقة هائلة تتدفق
كشلال لا يبصر القارئ أوله ولا أخره. جاءت اللغة مميزة ومناسبة للحدث، تتماس في
مفرداتها مع حالة الوجع والنزف المستمر للعراق والعراقيين، واللافت أن الكاتب
يمتلك قدرة بارعة على إنبات الضحك من معين الألم، وتحويل وجه القارئ ما بين التبسم
والتأثر في لحظات، وكأنه ينقل للقارئ ذات الحالة النفسية التي اعتملت في دواخله
إبان الكتابة! الحوار بدوره كان بارعًا في عدة مشاهد، خصوصًا في المشاهد الثنائية
التي كان كافكا أحد طرفيها، كالمحاورة بين كافكا وسميحة، كافكا والشاعر براء
الشخابيطي، وكافكا وأبيه، إضافة إلى قصائد براء الشخابيطي.
ملحمة روائية
عن أبناء شق الأرض في الرافدين، عن نتح الأرض ومخاضها، عن الحب والصداقة والفقد
والفراق، عن ثمن الحرب، عن ظلم وفساد الحكام ووحشية الجنس البشري، عن الدكتاتورية
العمياء وتأليه البشر للبشر، عن جسد الوطن الذي تناوب على تمزيقه الغزاة وأبناء
البلد، وعن الأشلاء المنثورة التي لا تجد من يلملمها، وعن وطن جاوز في محنته حد
التحمل، وأقدار بخلت على العراقيين بالراحة، حتى في قبورهم!
"لو كان لكل قتيل كتاب، لصار العراق بمجمله مكتبة كبيرة يستحيل فهرسته"
عمل آخر
للرملي أصنفه بأنه page turner، لا
يمكنك التوقف كلما توغلت بين أوراق الحكاية، ولا مجال للعودة أو للهرب، فأنت مأسور
بين دفتي الحرب والألم، تتبع خيط واهن من دخان الحب والأمل، مشيًا أو ركضًا أو
قعودًا، المهم أنك لن تتوقف قبل كلمة النهاية.
تحية
لمحسن الرملي على هذه الملحمة الروائية الرائعة التي تحتمل المزيد من الأجزاء، ففي
قرارة نفسي، أتوقع قسمًا ثالثًا من الرواية، يكون بطله هو إبراهيم الصغير، ابن
قسمة، ولكن؛ هو ظن أقرب إلى التمني، لا أسانيد له.
----------------------------------------
*محمد
سمير ندا: كاتب مصري
**نشرت في
صحيفة (العرب) السنة 43 العدد 11784 بتاريخ9/8/2020 لندن.
https://i.alarab.co.uk/2020-08/11784_Page_12.pdf?nsA8J_4ftaVLgcAi9DAYmtaRqe6TM6gd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق