حدائق الرئيس.. لوحة تراجيدية لتاريخ العراق
هيفي الملا
قادتني الرغبة في هذه الفترة إلى قراءة الأدب العراقي من خلال روائيين يؤرخون
لفترة هامة من التاريخ العراقي، من خلال الارتباط بالواقع العراقي وتاريخه
وأحداثه، مثل أعمال الكاتبة أنعام كجه جي، إلى أنطوان سنان، إلى أحمد السعداوي
وأخر رواية فرغت من قراءتها رواية-حدائق الرئيس- للكاتب محسن الرملي.
في الحقيقة هؤلاء الأدباء ساهموا في بناء رواية عراقية مميزة، حيث الأسلوب
السردي الشيق، وتسلسل الأحداث التاريخية، ونقل وجع الشارع والهم العراقي، ومتعة
الحوار الذي يعكس تقلبات الشخصيات المعاصرة لتلك الأحداث، واتباع ألية التنقل بين
الماضي والحاضر، وعكس خارطة الأزمات العراقية، والتمخضات الناجمة عنها، وخاصة
أحداث عام ٢٠٠٣ وما تبعته من تغييرات وتحولات في المشهد السياسي الذي تحول إلى
مادة دسمة، تناولها الأدباء كمادة وثيمة لرواياتهم، وبرز أكثر ما برز هنا موضوع
الهوية الضائعة وأزمة الانتماء، التي فرضتها تلك الظروف التي دفعت
بالعراقيين للهجرة، ومازالت تتنازعهم مشاعر الحب والشوق لمياه دجلة وأشجار النخيل.
ولا يخفى على مهتم بأن الرواية هي من أكثر الفنون الأدبية مباشرة، وقدرة على
الارتباط بالواقع، ونقل حيثياته بلغة يومية سهلة، وعكس النسيج الجديد الذي بات
عليه الشارع العراقي بعد التغييرات المتتالية التي عصفت به، وخاصة الاحتلال
الأمريكي وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وكأني بهذا الأدب مقاومة ثقافية وسبر
أحداث، وبانوراما ومراجعة للأحداث، وتوثيق للوجع والهم الإنساني الذي شغل محسن
الرملي، وهو الذي ركز على قيمة الإنسان ووجوده، واعتبار كل قتيل في العراق كتاب،
ليتحول العراق بمجمله إلى مكتبة يستحيل حتى فهرستها، رافضاً اعتبار الضحايا مجرد
أرقام كما تذكر الصحافة، بل كل قتيل هو عالم خاص قائم بذاته، لذلك كان إبراهيم
البارز في الرواية والذي كان يؤرشف كل الجثث المقبورة في حدائق الرئيس، باعتبارها
ليست أرقاماً بل قيمة بحد ذاتها.
دارت أحداث الرواية في تاريخ العراق الحديث من خلال ثلاثة مفاصل زمنية واضحة،
حيث الحرب العراقية الإيرانية وظروف الأسرى في إيران وما عانوه وخاصة في الفصل
الروائي المعنون بـ – ضيوف الجمهورية الإسلامية – حيث الظلم والتعذيب وغسيل للدماغ
وتغيير للايديولوجيات٠ ومن ثم الغزو العراقي للكويت وما خلفه من قتلى وحصار ودمار
والذي عاد سالما جسدياً فقد تشوه نفسياً، ثم يأتي الاحتلال الأمريكي، وسقوط بغداد
وما تبعه من جرائم وتغيير بالنسيج الاجتماعي والرؤى السياسية.
هذه الرواية الوجع هو بطلها، ولكن الحوارات الهادفة فيها تدور بين ثلاث شخصيات
رئيسية، حيث انعكست من خلال حواراتهم وسردياتهم وطباعهم وأفكارهم، طبيعة الذهنية
العراقية، وطبيعة المجتمع الحاضن لكل تلك الظروف.
وبرز وصف المكان في الرواية من خلال طبيعة القرية
الريفية النائية التي يعيش على أرضها الأبطال الثلاثة، وكذلك سرد مطول ومفصل لقصور
الرئيس الفخمة وحدائقه، تلك القصور التي أحاطت بها مظاهر الأبهة والفخامة، والأكثر
رعبا هو مظاهر التفنن بالقتل كأداة للضحك والتسلية ثم التصفية، القصر الذي تحولت
حدائقه إلى مقابر جماعية بجثث كانت تدفن بالعشرات ثم بالمئات، مظهرة الوجه المرعب
والبشع والمتخفي للدكتاتورية، تلك الحدائق المنسقة بانتظام والتي تعكس ترف العيش
ورغده، كانت مكانا للرعب والموت والتمثيل بالجثث.
من الطبيعي في ظل ظروف كهذه حيث الاستهتار بقيمة وحياة الإنسان أن يرجع مثلاً
بطل بلا قدم، ويرجع رأس بلا جسد في صندوق موز، ويدفن أخر كجثة مشوهة في حديقة
رئاسية، وأخر غارق بعبثية حياتية لا منتمية، حيث لا فائدة مرجوة من أي شيء.
استطاع الكاتب محسن الرملي بوعي ومعلومات مرتبة ومنظمة، وبقدرة أدبية ورؤية
مهنية في السرد، من توثيق الوجع العراقي، والتوغل بعمق في البيئة العراقية، وهو
ابن تلك البيئة، مخلفا سردية حزن، ولوحة تاريخية غنية بمشاعر شتى، وكما بدأت
الرواية بمشهد صناديق الموز التسعة التي احتوت رؤوس الأبناء الذاهبين لبغداد للبحث
عن الضحايا، فقد انتهت الرواية بنفس المشهد في حركة دائرية مغلقة، قد تزرع بعض
اليأس فينا وكأننا ندور في حلقة مفرغة مكررة، بحركات وخطوات متماثلة حيث الأحداث
تتشابه والأوجاع تتكرر.
أسلوب سردي جميل، ولغة جمعت بين الفكاهة حينا والحزن حينا آخر، لنتمثل المشهد
كما هو ونتخيله بتفاصيله، حتى قصر الرئيس الذي مورس فيه كل العنف والبطش، حملتنا
تقنية الوصف في الرواية، وكأننا إحدى تلك المرايا الصامتة المعلقة فيه والتي تعكس
تلك الممارسات المرعبة.
وما تلك النهاية المفتوحة عندما كانت قسمة
تمسح على رأس طفلها النائم في حضنها، متسائلة ترى من أي نطفة هو؟ ترى مثل من
سيكون؟ مثل أبيه؟ مثل الرئيس المخلوع، أم مثل طارق الذي يعتبر نموذجا للعراقي الذي
يحاول التمسك بتلابيب الحياة مع الاحتفاظ ببعض القيم، هذه التساؤلات تفضي وترمز
إلى ضبابية مستقبل الشباب العراقي، الذي امتزجت في مخيلته أطياف القتل والبطش
والدكتاتورية والطائفية، فإن قلبت عصا الساحر هذه اللوحة هل سيتوازن هذا الجيل،
ليعيش بسلام بعد كل ما اختمر في ذهنه من حكايا، وما ترسب في وجدانه من وجع، وما
تنازع فكره من قضايا، وما اعترى دماغه من عمليات غسل وسلخ.
صفوة القول الروائي محسن الرملي استطاع بتقنيات سرده وشاعريته، وامتدادات
شخصياته الروائية، تمكن من رسم خارطة ولوحة تراجيدية لتاريخ العراق السياسي، طوال
نصف قرن.
وهنا تكمن المسؤولية الملقاة على عاتق الأدب، أن يكون مرآة ناصعة للوجع وللفرح
أيضاً، بكل ما يمتلكه الأديب من أدوات إبداعية وهموم إنسانية.
------------------------------------
*نشرت في (ولاتي مه)
بتاريخ 9/8/2020م
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=7430#.XzEhUygzaUk
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق