ذئبة الحب والكتب..
بين الرمز.. وتعدد الأصوات في الشخصية
المحورية
صباح هرمز
لا تتشابه هذه الرواية مع الروايات السابقة لمحسن
الرملي. وإذا كانت أصابع التمر والفتيت المبعثر وأبناء وأحذية وحدائق الرئيس، تفيض
بتقنيتي التناص والإيحاء، فإن هذه الرواية تكاد تخلو من الثانية، وتنعدم من
الأولى، مستعينة بدلا منهما بالرمز وتعدد
الأصوات في شخصية هيام، وتناول التفاصيل غير المهمة أكثر من الأحداث المهمة، فضلا عن
المونتاج القاطع، وسرد الأحداث من جانبين، أحدهما من جانب مؤلف الرواية الحقيقي محسن الرملي، والثاني من
جانب بطلتها (هيام)، تجاوزا لرواياته الأربع الأخرى، من خلال قلب عملية السرد،
بعكس ما هو متعارف عليه، بجعل هيام هي الراوية والمؤلف هو السارد الضمني، بقصدية
إظهار هذه الرواية على أنها أقرب الى السيرة الذاتية منها الى الرواية الفنية، أتساقاً
مع الوثيقة الموظفة في استهلال الرواية، وتوكيدا لمصداقية وحقيقة وقوع أحداثها.
إن هذا النمط من السرد الموظف من قبل السارد الضمني
المتمثل في إقرار تأليف هذه الرواية من قبل الشخصية المحورية للرواية، وليس من
تأليفه، إنما هو بهدف تدوين نص سردي آخر داخل نصه الروائي، أو كما يقول الناقد فاضل
ثامر:(وهذا اللون الجديد من التجريب الروائي يعتمد بشكل أساسي على انشغال ذاتي من
قبل المؤلف بهموم وآليات الكتابة السردية. إذ نجد الروائي أو القاص منهمكا بشكل
واع وقصدي بكتابة مخطوطة أو سيرة أو نص سردي آخر داخل نصه الروائي أو القصصي. .)1.
مذكرا إيانا هذا اللون من التجريب بمسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف لكاتبها
بيرانديلو المعروفة باشتغالها على تقنية:(تمثيل داخل تمثيل). وعلى غرار روايتنا
هذه رواية داخل رواية.
وإذا كان السارد الضمني قد وظف هذا النمط من السرد في
بداية الرواية، فإنه في نهايتها يعتمد على متلقي الرواية للعثور على منفذ يخرجها
من مأزقها، بهدف إيجاد الحل الناجع لمتنها الحكائي. ويضرب فاضل ثامر إحدى روايات
مؤنس الرزاز كنموذج لهذا النمط في تدخل أبطالها في سياق السرد، معلقا عليه على
الوجه التالي:( هذا اللون من التجريب الذي وجد طريقه الى فضاء البنية السردية في
أدبنا القصصي والروائي، والذي أثار الكثير من الاعتراضات والتحفظات. . . يمكن أن
نطلق عليه مصطلح ما وراء الرواية أو (ما وراء السرد)، وهو أيضا وافد حديث في
الرواية العالمية خلال ستينات القرن الماضي وبشكل خاص في الرواية الأمريكية...)2.
مثلما أستخدم يوسف زيدان وعلي بدر في استهلال روايتيهما
(عزازيل، وتل المطران) تقنية الوثيقة، في سعي منهما لإقناع المتلقي بحقيقة وقوع
أحداثهما، وذلك من خلال لجوء الأول الى المقدمة التي كتبها باسم المترجم على أن
رواية عزازيل، رواية سريانية، يعود زمن كتابتها الى عام 431م، والثاني عبر المقدمة
التي كتبها بوصف مدينة تل المطران، مدينة تابعة لسهل نينوى، هذه المدينة التي لا
وجود لها على أرض الواقع سوى في مخيلة المؤلف، كذلك فقد عمد الرملي الى الطريقة
نفسها، ولكن باستخدام شاشة الكومبيوتر، وعثوره على الرسائل التي كتبتها هيام من خلال
فتحه الإيميل الخاص بمدونة شقيقه حسن المطلك الذي أعدمه الطاغية، ليجد غير
الذي يعرفه، (دابادا) 18 (وهي رواية حسن)، بدلا من دابادا 81، حيث تتزاحم في
البريد عشرات الرسائل غير المقروءة، مرسلة من هذا الإيميل ذاته، وليس فيه رسالة
أخرى من أي بريد سواه: (ترددت فكرت بإغلاقه وإعادة لكنني فتحت الأخيرة فوجدتها من
امرأة تقول: وداعا يا حبيبي.... رحت أقرأ في الشاشة الرسالة التي بعدها والتي
تليها... ثم انتقلت الى قراءة الأقدم، ابتداء من الرسالة الأولى).
يفهم المتلقي من خلال هذا الاستطراد، أن الرسائل التي
يقرأها المؤلف من بداية الرواية الى نهايتها، إنما هي رسائل مكتوبة سلفا الى شخص
مجهول. أي قبل أن يفتح الرملي الإيميل، إلآ أنه عندما يقرأها، تبدو له وكأنها قد
كتبت للتو، بما فيها الرسائل التي يكتبها المؤلف الحقيقي (السارد الضمني) ردا على
رسائلها، وهذه الرسائل في الحقيقة ليست ردا، بقدر ما هي تنفيث هموم رجل عانى من
الفوضى السائدة في بلاده، نتيجة الحروب التي لا نهاية لها على يد الطاغية، وصعوبة
تأقلمه مع غربة وقساوة الهجرة. في هذا الجانب غير المرئي تحديدا، تكمن الحيلة الفنية
التي يلعبها المؤلف على المتلقي لتمويهه، أن هذا الكتاب هو ليس تأليفه، بل هو من
تأليف (هيام).
(أنا محسن مطلك الرملي، مؤلف كل الكتب التي تحمل أسمي باستثناء
هذا. ولو لم أكن شقيقا لحسن المطلك لكتبت ضعف ما نشرته حتى الآن أو لما كتبت أيا
منها اصلا ولا حتى اهتممتُ بهذا الكتاب الذي وجدته صدفة حين كنت في الأردن، فغير
حياتي كلها وجئت الى اسبانيا بحثا عن المرأة التي كتبته إنها امرأةً تبحث عن الحب
وانا أبحث عنه). ما معناه، بتأويل مفردة الحب الى حب الوطن. أنها تبحث عن الوطن،
وهو يبحث عنها، وبالنتيجة، كلاهما يبحثان عن الوطن.
ليس بوسع كل إنسان أن يتعامل مع الحشرات بالصيغة التي
تتعامل معها هيام، وهي تقول: أنا صديقة النمل وحشرات الحديقة، كنت أطعمها وأؤنسها
أيام القصف كي لا يصيبها الذعر وتشعر بالهجران).، إن لم يكن شفافا ويمتلك حسا مفرطا
من الحب تجاه الكائنات قاطبة، البشرية منها وغير البشرية. وهيام واحدة من الخلق
التي تتحلى بهذه الصفات. أنها لا تصادق الإنسان فحسب، بل حتى الحشرات. هذا هو
التفسير التقليدي لشخصية هيام من حيث تعاملها مع الحشرات. أما من حيث تأويله، فإن
هذا القول وإن كان موجها للحشرات، إلآ أنه تمرير يهدف الإنسان. ذلك أن الحشرات لا
تهاجر خوفا من القصف، وإنما التي يخيفها القصف هي الطيور والحيوانات فضلا عن
البشر. ولكي تتحلى الرواية بوحدة الموضوع، فليس من الحكمة، في الوقت الذي يقرن فيه
السارد صداقته بالحشرات والطيور والحيوانات أن ينسى مصادقة الإنسان، وجل ثيمة
الرواية عنه، عن الإنسان، وإن كلا الساردين، الرملي وهيام قد هاجرا بلديهما، هي
الى اسبانيا، وهو الى الأردن. لذلك فإن المقصود من هذه الجملة هو الصداقة مع
الإنسان، دون أي كائن آخر. ولعل هذا القصد يتضح أكثر في الجملة التي تليها:(أنا
التي بكيت على نعل أنقطع. الناس والكائنات من يبكيها... فمن للنعل؟ هذا الذي ارتبطت
معه بعلاقة طويلة وذكريات، حملني وحمى قدمي من حرارة الأرض وبرودتها وأشواكها
وفضلات البشر، دفنته بعد ذلك في الحديقة بتكريم خاص، وتلوت قصيدة لوداعه بشكر
فائق، ثم زرعت على قبره زهرة عباد شمس.).
وهنا يطرح هذا السؤال: ترى هل من عاقل يبكي على نعل
أنقطع؟!
نعم هناك من يبكي، شريطة أن يكون هذا النعل قد لعب دورا
مهما في لحظة من لحظات حياته، كما في حياة هيام التي ارتبطت معه بعلاقة طويلة،
نتيجة حمايته لقدميها من حرارة الأرض وبرودتها وأشواكها وفضلات البشر.
ولعل هذه الإجابة تقودنا هي الأخرى بدورها الى سؤال آخر:
ترى كم من مسافة سارت هيام على قدميها وأين كانت وجهتها لحين انقطاع نعلها؟ يبدو
أنها كانت تسير في البراري، وفي ظل ظروف قاسية، وفترة طويلة امتدت الى فصلين
متتاليين من فصول السنة الأربعة، صيفا وشتاء، الى أن بلغت مبتغاها.
ليس المهم كيف وصلت الى اسبانيا. المهم أنها عانت
الأمرين في هذه الرحلة، أو هذا ما تريد أن تقوله، وبالطريقة التي عبرت عنها هي
بنفسها عن معاناتها هذه، وبأسلوبها الخاص. والأهم من كيفية وصولها، هو فهم وإدراك
معالم وأبعاد شخصيتها بوصفها أنثى غير طبيعية، ومتشبعة لعدة أصوات. أي أنها ليست
الصوت الوحيد التي تبدي رأيها بما عانته في هجرتها، وإنما هناك أصوات أخرى تعبر عن
نفس وجهة نظرها، وهي أصوات غير مرئية، ولكن هيام هي الناطقة باسمها، سواء كانوا
ذكورا أم إناثا وتمثلها باعتبارها رمزا للوطن. وهذا يعني أنها ليست وحدها غادرت
العراق بفعل الحرب، وعانت ما عانته من صعوبة الهجرة، وإنما كل من سنحت له الفرصة
من الشعب العراقي، أختار هذا الطريق الصعب.
كما أن جملة:(أمنحك ثمرة من بطني)، تدل على المعنى ذاته،
لأنها ترغب أن تحبل من الشخص الذي تحبه كي يسود السلم بدلا من الحرب، وينجبا
أطفالا صالحين، كونها الأم الرامز الى الوطن. ومثلها جملة:( ورثت حب الوطن عن
أجدادها) من خلال عبارة:(مارس الحب ولا تمارس الحرب).
تفيض الرواية بالجمل التي تدل على أن شخصية هيام ترمز
للوطن، ولهذا سأحاول فقط بالإشارة اليها:
إن العلاج الوحيد للعراق والعالم من كل خرابه هو الحب
نتشابه أنا وجدي بأنه كان مثلي يبحث عن شيء غير مرئي، أو
ربما كان يبحث عن الحب، ولهذا تنقل طوال عمره بين النساء.
أنا لم أخن الوطن.
خلف موريس اغتصبني أثناء اجتياح القوات الامريكية بغداد:
(أي أن الوطن قد أغتصب من قبل الأمريكان).
لا أريد هذا الرجل: (لأنه من أزلام الطاغية المؤيد
للحرب)، وأريد رجلا مثلك:
(لأنه بعكس زوجها يحب السلم ويكره الحرب).
عندي نهدان رائعان: بتأويلهما الى (نهران رائعان هما دجلة
والفرات= الوطن). وتتكرر هذه الجملة أكثر من مرة.
أنا أرضي خصبة تعال أحرثني= (العملية الجنسية. فالولادة
والإنجاب).
كنت أتمنى أن أكون النسخة المؤنثة من جدي بل أنا كذلك
فعلا. انا ذئبة قوية الرقة وشراستي تكمن في حب الحب والكتب.
أشعر بأن دمه يجري في دمي وبأنني أكثر من يفهمه ويفكر به
في العائلة. البعض يقول لي بأنني أشبهه، لي نظراته، عناده، وهزاله يسمونني أحيانا
بـ(أبنة الذئب).
ثمة تقارب بين شخصيتي هيام و(المعلم الرفاعي) من حيث
رغبة الاثنين بكتابة رسائل على شكل رواية لقراءتها من قبل الشخص الذي تحبه،
والفتاة التي يحبها، ليقعا في حبهما، ولكنهما يفترقان في مسألة تحقيق هذا الهدف،
وذلك بنجاح هيام، وفشل الرفاعي. نجحت هيام لأنها نشرت رسائلها، وكان هناك من
يتفاعل معها ويسرد قصة حياته معها، وفشل الرفاعي لأن الفتاة التي كان يتوهم بأنها
تحبه، لم تكن تحبه، بقدر ما كانت تعطف عليه. وأعترف لاحقا الرفاعي للرملي بأن
المرأة الوحيدة التي تحبه وأحبها هي أخته، وأنه لم يثق بأية امرأة لأنه يرى فيهن
جميعا صورة زوجة والدته. وتتجاذب هاتان الشخصيتان لبعضهما البعض في جانب آخر، وهو
الجانب الأهم في الرواية، ومحورها الأساس، وهو حبهما للآخرين، ذلك أن الرفاعي فضلا
عن عثوره على عمل للرملي حارسا لإحدى البنايات في الأردن، فقد كان بين فترة وأخرى
يساعده بمبلغ من النقود التي توفر له لقمة من الأكل. وبالمقابل فإن هيام معروفة
بحبها للحب والكتب.
وهذا التقارب لا يقتصر بين هاتين الشخصيتين فقط، وإنما
يمتد الى شخصيتي الرملي والمرأة السريلانكية، وذلك من خلال هجرة الاثنين من بلديهما
والسكن في مكان أقرب الى السجن الانفرادي منه الى أي مكان آخر تتوافر فيه أبسط
شروط الراحة، ولا سيما الرملي الذي يعيش في عمارة غير مكتملة البناء، والسريلانكية
تعمل كخادمة ليل نهار في منزل نائي وشبه معزول عن السكان:(الى أن فوجئت ذات صباح
لوجود امرأة تنظر إلي من خلف سور بيت جار يبعد حوالي مائتي متر عن هيكل البيت الذي
أحرسه.). الجميل في علاقة الحب التي ارتبطت بينهما، أنها مثل حياتهما الأسيرة في
مكان أقرب الى السجن، اقترنت بخلف القضبان. بدأت باحتضان الكفين، وتطورت الى
القبل، وانتهت بممارسة العملية الجنسية من خلال القضبان:(لا أنسى ما حييت ذلك
المشهد في ليلة مقمرة حين تعرت تماما استجابة لطلبي. صعدت على كرسي كي أراها
وألمسها كاملة...).
إذا كانت شخصية هيام تتقارب مع شخصية المعلم الرفاعي في
بعض الجوانب، فإن شخصية (بشعة)، تكاد أن تكون نسخة مطابقة لشخصية هيام، ليس لأن
جمالهما يفوق الوصف، بل لأن كلتيهما يشتركان معا في أكثر من صفة. والصفة التي
تشدهما أكثر من الصفات الأخرى الى بعضهما البعض هي التمرد. هيام عبر انجذابها
للانمطية، أو كما هي تقول:( ميالة في داخلي للعبثية ولا شيء أسمه ممنوع ما دمت لا
أضر بأحد.). وبشعة من خلال استطاعتها فعل كل ما تفعله امرأة وكل ما يفعله رجل.
والصفة الثانية المشتركة بينهما هي ذئبيّتهما. هيام في كونها ذئبة قوية الرقة،
وشراستها تكمن في حب الحب والكتب، وبشعة بنظرتها الذئبيّة الشبيهة بنظرة جد هيام.
وإذا كانت هيام الرقم الأصعب، وكل من هم سواها صفرا أوهم أرقام سالبة لا تؤثر أصلا
بمعادلة حياتها، فإن بشعة ملكة أسطورية، لها سحر وهيبة آلهة قديمة، أو كما تقول
هيام:(إنها ذئبة فعلا، وتستحق هذه التسمية أكثر مني، إنها برية متوحشة، رقيقة
جارفة مداوية. إنها ملكة سومرية.).
تتنافر شخصية بشعة مع شخصية هيام في جانب واحد فقط، وهو
بمن تتزوج لأن لا ذكر يستحق الزواج بها، الا مثل آشور بانيبال، حمورابي، جلجامش،
نبو خذ نصر، بينما هناك العديد من الرجال الذين يستحقون الزواج بهيام، غير أنها اختارت
الرملي من بينهم، لأنه يجمعه معها حب الحب وحب الكتاب. الا أن أكثر الشخصيات التي
تتنافر مع هيام، هو زوجها(عبد)، لأنه يحب الحرب ورجل متدين ومن أزلام الطاغية ولا
يسمح لها بالرقص ويطأها عنوة. لذلك فهي لا تريد هذا الرجل، وترغب أن تكون كيانا
مستقلا، وتحب رجلا مثل الرملي لأن له قريحة تستوعب طيشها.
إن أجمل ما في الرواية، هو المشهد المكرس للرقم (8) الذي
جاء تحت :(عنوان بشعة الجميلة)، مصورا كشريط سينمائي عملية السحاق
الجارية بين بشعة وهيام. مذكرا إياي بروايات البرتو مورافيا التي تفضح النظام
الرأسمالي من خلال عملية الجنس. وهذه الرواية عبر العملية نفسها، تفضح الطاغية وخراب
الحروب ودمار الهجرة.
لإكساب أحداث روايته طابعا واقعيا، ووقوعها بصورة
حقيقية، فقد أستخدم المؤلف المونتاج القاطع بشكل ملفت للانتباه. والمونتاج كما هو
معروف يأتي بعدة صيغ، كالمونتاج القافز، والفجائي، والمتقاطع، والمتوازي، والصدمة،
والنفسي، والمتقابل . . . الخ.. الا أنها
لغزارتها، سنتصدى لأربعة انواع منها فقط.
أستخدم أول ما أستخدم المؤلف المونتاج المتوازي، متمثلا
في الانتقال من الحديث عن البيت الطيني لجد هيام الى الهدية التي يتمنى أبنها
شراؤه لها بعيد الأم ليأتي رده: كأس جراند، ويعني بيت كبير بالإسبانية. أي أن
المونتاج جاء هنا بقصد التماثل، أو كما يقال الشيء بالشيء يذكر. ويمكن أن يدرج هذا
المونتاج أيضا تحت باب المونتاج المتقابل، فضلا عن المونتاج المتقاطع. بيت طيني
متقابل لبيت كبير، بيت في قرية بائسة متقابل لبيت في مدينة أوروبية متطورة، وهكذا
جملة من المتقابلات والمتوازيات. أما المونتاج الفجائي أو المباغت، فقد وظف أثناء
سرد هيام لخطوبة عدنان لإحدى صديقاتها، بهدف إثارة غيرتها، فتتوقف فجأة عن السرد،
بذريعة أنها لا تستطيع المواصلة، لأن أبنها يريد أن يلعب بالكومبيوتر. والمونتاج
الثالث هو المونتاج المتقاطع الذي جاء أثناء حديث مها عن موضوع ما، وتداخل المروي
له معها دون أن يعرف حديثه، وهو الشخصية المشارك لها في الرواية، عبر مخاطبته
بجملة:(لأكمل الفيلم.). أما مونتاج الصدمة، فقد تمثل في ليلة زفافها وزوجها
يباغتها حال انفرادهما بجملة:(افتحي ساقيك)، كما يمكن أن يدرج هذا المونتاج تحت
باب المونتاج المباغت أو المفاجئ، ولكنني أراه أقرب الى المونتاج الصدمة.
مثله مثل استخدام الوثيقة والمونتاج، لإقناع المروي له
بحقيقة وقوع أحداث الرواية، فقد أستخدم السارد الضمني الى جانب هذين التقنيتين،
تقنية عدم ترتيب الأحداث في سردها. ويقر على لسان هيام بتأخر الأحداث وتقدمها دون
الاستناد الى نظام معين، ولمرتين، وفي كل مرة بأسلوب مختلف، ولكنه يكسب المعنى
ذاته. في المرة الأولى وهيام تقول:(قد لا أعرف الترتيب، فالذاكرة أنثى مزاجية)،
وفي الثانية وهي تقول:(هل لاحظت بأنني لا أكمل أي شيء الى نهايته). في إشارة الى
المونتاج القاطع أيضا. كما أنه يكشف عن تقنية أخرى لنفس الغرض، وهي أن بعض
التفاصيل غير المهمة، تحفر لنفسها خنادق في ذاكرة هيام أكثر من أحداث كبيرة، بالإضافة
الى التعويل على التجريب واكتشاف طرق أخرى في السرد منها التركيز على الثيمة
الجانبية الأهم وترك الموضوع الأساس المعروف من قول الشيء ذاته عبر تناوله من جانب
مختلف. أي:(أن البطل منشغل بمشكلات الفن الروائي وتقنياته ورؤيته).3 وإذا كان:(غائب
طعمة فرمان على حد قول الناقد فاضل ثامر في رواية ظلال على النافذة، يضمن الروائي
نصا مسرحيا)4، فإن مؤلف روايتنا هذه، ضمنها نقدا مسرحيا طويلا، ولكن هذا التضمين
لم يأت عن فراغ، أو جاء إقحاما لسرد التفاصيل، وإنما مقرونا بجانبين مهمين من
جوانب الرواية، وهما التقنيات التي وظفها فيها من جهة، ومن جهة أخرى، للتأكيد على
أن هيام ترمز الى الوطن، وذلك من خلال الصراع القائم بين أنتيكونا وخالها كريون
على دفن جثة شقيقها، في إشارة واضحة الى خيانة الطاغية المتمثلة بكريون للوطن
المتمثل بهيام المدافعة عنه.
على الأغلب تقصد من هذه التفاصيل، في علاقاتها المتعددة
مع بعض الأشخاص الذين صادقتهم، وتكريس أكثر من عشر صفحات لبشعة الجميلة. فإذا كان
هذا الأمر كذلك، فلأنها استمدت تجربة الحب والكراهية منهم. من هؤلاء الذين
عاشرتهم، وأصبحوا جزءا من حياتها. الحب من بشعة وحسن المطلك ومحسن الرملي، وجدها.
والكراهية من زوجها وحارس والدها الشرطي وزكريا وخلف موريس وهاني الإسكندراني و..
و.. بشعة التي تصفها هيام، بأنها سيدة الأرض والشمس وسيدتي، وتسمي محسن الرملي باسم
شقيقه حسن المطلك، لأنها أحبته دون أن تراه، وكان مثلها يحلم بالخلاص من
الدكتاتور. ومحسن الرملي التي هي على استعداد للذهاب اليه أينما كان، وجدها التي
كانت تتمنى أن تكون النسخة المؤنثة منه. وبالمقابل كراهيتها لزوجها الذي حال انفرادهما
ليلة الزواج قال لها:(افتحي ساقيك)، وحارس والدها الشرطي الذي كان يلمسها، كلما
قادها من يدها أو رفعها الى السيارة، ويتلصص عليها من النافذة عندما تغير ثيابها.
وزكريا الذي كان يدرك بأنها لن تخون زوجها، ثم ذهب كل منهما باتجاه. وخلف موريس
الذي لم يبق لهذا الكائن المسخ من أثر في نفسها الا بقية لطخات سيئة. وهاني الإسكندراني
الذي كان يروم تجربة امرأتين في سرير واحد. ولعل تقييمها للمثقفين بهذه الجملة،
دليل على مدى إدراكها وتفهمها لهم، وهي تقول:(المثقفون لا يريدون المرأة الواثق من
نفسها، وإنما يريدون المرتبكة المشتتة الناقصة الضعيفة كي يعيدوا تركيبها وفق
مزاجهم.).
أعود الى التقنية التي يكشف عنها السارد الضمني، في كون هيام
هي الشخصية نفسها من بداية الرواية الى نهايتها، أم أنها شخصية لعدة شخصيات تحت
أسم هيام؟ أم شخصية متعددة الجوانب (مركبة)؟
أوجز إجابة السؤالين الأولين، بالإجابة على السؤال
الأخير، لعلاقته بهما، بالأحرى إن الإجابة على السؤال الأخير مرهون بالإجابة على
السؤالين الأولين، في كون شخصية هيام، شخصية مركبة.
أبدأ بعلاقتها مع زوجها، وهي تقول:( بدأت علاقتي تتحسن
مع زوجي بعد أن رفعت شعار طز بالدنيا. بغض النظر عن هذا الشعار، باعتباره ليس
جديدا عليها، بوصفها امرأة عبثية. وبجانب عبثيتها هذه، تتصف بالتمرد. والعبثية
والتمرد مصطلحان يتناقضان مع بعضهما البعض، وإذا ما اجتمعا معا، يبلغ المرء حد
الجنون. وهيام هي كذلك، مجنونة حد العظم، وها هو يوسف يصرخ وهو في أوج غضبه متلعثما:(أنت
قبيلة مجانين)، ذلك لأنها رفضت الزواج به، وتجننه بتقلباتها. ثم صمت قليلا ودلى
رأسه الكبير على صدره وأضاف بلغة حزينة:(مثل العراق). وهي إشارة واضحة الى أن هيام
ترمز الى الوطن من خلال صرخة يوسف. وهو تأكيد آخر الى أنها كذلك. سيما إذا عرفنا
الى جانب هاتين السمتين اللتين تتحلى بهما، أنها دخلت التصوف وخرجت منه. إذن أن
شخصية هيام تتأرجح بين ثلاثا من أخطر النزعات التي تؤهلها أن تمنح بلقب الشخصية
المركبة وبامتياز، إن لم تكن مفردة (بتقلباتي) التي تأتي على لسان هيام لوحدها،
تكفي أن تمنح هذا اللقب. مصادقتها لعدد كبير من الرجال، قد تبدو طبيعية، ولكن حبها
لخلف موريس السكير والمفلس، بالإضافة الى اصطحابه معها الى بيتها في غياب زوجها،
ناهيك عن إعجابها بملابسه الرثة ونحافته المخيفة وأسنانه الصدئة، ومن ثم اغتصابها
بمسوغ الثمل، مسألة غير طبيعية، وتدل على عبثيتها هي أكثر منه، من موريس الذي
تنعته فيما بعد للطخاته السيئة التي تركها في نفسها ب (المسخ)، عائدة الى رشدها
وطبيعتها الاعتيادية، أثر تشخيصها للفخ الذي أصطادها فيه. لتضاف الى شخصيتها صفة
رابعة.
أما تمردها، فهو مثل عبثيتها، فاضت به الرواية، ابتداء
من تشبه نفسها بجدها الذئب، وكونها حفيدة شهرزاد التي تؤجل موتها، كما أجلت حفيدة
عبدالله كافكا في رواية (حدائق الرئيس) موتها، الى دعوتها الى استنفار الحواس،
بعكس رامبو الداعي الى تدميرها، وقوعا تحت تأثير آراء حسن المطلك، وهي تخاطب محسن
الرملي بهذه العبارة:((بالمناسبة يخامرني إحساس بأنك تخشى التورط معي. . فالذي
يعرف ويعجب بحسن المطلك حقا.. من المؤكد لا يخاف. فهو القائل:(إن الرجل الحقيقي هو
الذي يحذف ساعات الخطر الحقيقية ويقترب من القرار بإلغاء صيغ التعجب في تحجيم
الذات. هناك فقط شيئان. عمود الحياة وحفرة الموت..).
إن الإجابة على أن هيام هي الشخصية نفسها من البداية الى
النهاية، أم أنها شخصية لعدة شخصيات تحت أسم هيام، اقترانا بشخصيتها المركبة، وإن
كان المؤلف في مكان ما من الرواية يشير الى ما يعني الى أنه، حتى هو يجهل الإجابة
على هذا السؤال. بيد أنها تتسم ببعض صفات شخصيتي بشعة والسريلانكية، الأولى من
خلال شخصيتها القوية وثقتها بنفسها، مثلها مثل هيام التي تريد أن يكون لها كيانا
مستقلا، والثانية عبر التحرر من سجنها الخانق الى المتعة الجسدية التي حرمت منها
لإعالة أطفالها، شأنها شان هيام التواقة للتحرر من قيود زوجها، وملء الفراغ الذي
تعيشه بحب، الكتب وحب الحب.
إن وصف كلا الشخصيتين، بطل الرواية والسارد الضمني لما
يعتمل في داخلهما من معاناة، واجهتهما جراء الحروب التي خاضها العراق، وفي هجرتهما
القسرية، هو تعبير ضمني عن هويتهما الشخصية. وبهذا الخصوص تقول السيدة أشواق عدنان
التميمي:(وفي بناء الملامح الداخلية ينحي الكاتب نفسه جانبا ليتيح للشخصية أن تعبر
عن نفسها وتكشف عن وجودها بأحاديثها وتصرفاتها الخاصة.)5.
وبدلا من نأي كتابنا عن سلوك وتصرفات الشخصية، نجدهم
يقحمون أفكارهم وقناعاتهم فيها. وتضرب السيدة أشواق رواية (الأشجار واغتيال مرزوق)
لعبدالرحمن منيف نموذجا لذلك، شأنها شأن روايتنا هذه التي تنبع أفكار شخصياتها
المحورية، من موقف المؤلف تجاه الطاغية والحروب التي أشعل فتيلها وأرغم الناس على
الهجرة. والشخصيات الثلاث المحورية:(هيام، السارد الضمني، وبشعة) تنضوي تحت لواء
الشخصية المستديرة، ذلك أن مثل هذه الشخصية، كما تقول السيدة أشواق:( لا تستقر على
حال ولا تصطلي على نار، ولا يستطيع المتلقي أن يعرف مسبقا ماذا سيؤول أمرها، فهي
متغيرة الأحوال، ومتبدلة الأطوار، وتتميز بتغير المواقف، وغناء الحركة داخل
الأحداث، وقدرتها العالية على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى والتأثير فيها).6
ولو راجعنا شخصية هيام، لنجد أن كل الذي تشير اليه
سيدتنا الفاضلة، قائم في شخصيتها، ابتداء من تغيير مواقفها من التمرد والعبثية الى
التصوف، وانتهاء بزحمة علاقاتها مع الآخرين رجالا ونساء، بالإضافة الى عدم معرفة
الى ما ستؤول الأمور في نهاية الرواية، بدليل أن السارد الضمني الذي هو المؤلف
الحقيقي للرواية، يلجأ الى المتلقي ليجد الحل المناسب لها.
------------------
المصادر:
1-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر.
الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
2-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر.
الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
3-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر.
الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
4-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر.
الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
5-تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. تأليف: أشواق
عدنان شاكر النعيمي. الناشر: دار الجواهري. الطبعة الأولى، عام 2014
6-تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. تأليف: أشواق عدنان
شاكر النعيمي. الناشر: دار الجواهري. الطبعة الأولى، عام 2014.
--------------------------------
*صباح هرمز: ناقد عراقي، من أعماله:
(روايات عشتُ معها) و(بنيات السر في روايات محسن الرملي).
**نشرت في (الحوار المتمدن) بتاريخ
12/6/2020م
صباح هرمز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق