قراءة
جَوْلة أخرى معَ الكاتِب محسن الرملي.. وروايته (تمر الأصابع)
أوس أحمد شريف
"ما كُنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا
تشجيع أبي لي وهو يحلق شعر رأسي في مرقصه المدريدي، قائلًا: أُكتب ما تشاء فلن يحدث
أسوأ مما حدث.. هذا العالم جايف".. مِن هذا الاستهلال المثير ينطلق العراقي الإسباني
(محسن الرملي)، سرد قصته..
إلى أي حدٍ نظن أننا حقاً، قادرون على كسر الأصنام
التي بداخلنا..؟! أو لأعيد صياغة السؤال على النحو التالي: إلى أي حدٍ يمكننا أن نتجاوز
فكرة الانتقام والثأر نحو إمكانيات التعايش والتغاضي وإدارة الخد الأيسر لمن صفع الخد
الأيمن..؟! هذا السؤال يدحرجه محسن الرملي في روايته "تمر الأصابع"، ككرة
ثلج تبدو صغيرة جداً في الصفحاتِ الأولى من الروايةِ ثمّ تأخذ في التعمق والتضخم، تدوس
في طريقها التابوهات الثلاثة..
ماذا يحدث عندما يريد أن يُخرج الكاتب سنوات
عُمره المبتلعة في وريقاتٍ قليلة، الكثير من القهر، الأفكار والرمزيات تسطر لنا رواية
المغترب المقهور، سواء كان اغترابه للخارج أم غربة ذاتية فرضها عليه الديكتاتور في
وطنه..
يوضح الرملي أن هذه الأجيال المقهورة تكاد تكون
آية واحدة لعدة مصاديق، فمِن جيل الجد (مطلق)، الذي حاول النجاة متمسكا بالأعراف والتقاليد
زارعا بذرة الثأر من طاغية أذله هو وعائلته متغرباً عن قريته الصبح في سبيل كرامته
وصولا للابن نوح الذي كان يعيش أكثر من غربة، غربة الوطن وغربة الحياة التي تنازعه
الرغبات بين أن يكون نسخة أبيه - في عالم جايف- وبين أن ينجو بنفسه ويرتحل بعيدا مقيدا
نفسه بشرنقة الإرث القبلي وكره نظام قضى على رجولته، مروراً بكل ذلك لا بدّ وأنك ستصل
إلى سليم الجيل الحديث والذي طالته الغربة هو الآخر، رحل حينما لم يجد ما يثبته لتلك
الأرض التي لن ينساها دمه "لكنه العراق.. العراق يا أبي.."، هو الآخر لديه
إرثه المنتهك إلا أنه من جيل الذي آمن أنّ وطنك ما حملك، تكيف معه لكن رجوع الماضي
لا بدّ له أن يثير عواصف لم تكن بالحسبان، لكن نقطة الاتزان ترجح، لا يقرر نسيان عالية
بل التأقلم مع فاطمة، لا يثني نوح بعد أن فهمه رغم الخوف والقلق..
مثل فتيته المبعثر يشتغل الرملي في تمر أصابعه
على نحت شخصياته نحتاً مدروساً وعميقاً، يرتكز في ذلك على تعرية العلاقات: علاقة الفرد
(العراقي)، بنفسه، علاقة الفرد بمحيطه وبيئته وإرثه الشخصي والأخلاقي والديني، علاقة
الفرد بوطنه، علاقة الفرد بغربته/ منفاه، علاقة الفرد بماضيه ومستقبله وحاضره.. عندما
انتهيت من صفحة ١٥٧ أغلقت الرواية، خائفاً أن ينفلت من رأسي روعة مشهد تفجر الأب في
وجه ابنه سليم، كنتُ أحاول أن أمسك بهذا البون الحقيقي بين جيلين، بين أب رافض وكاره
لماضٍ لم يصنعه أو يختاره، لكنه أسير وعبد لقَسَم متخلف وتافه ومجنون كوضع رصاصة في
مؤخرة شخص آخر، ثأراً وانتقاماً، بمقابل الابن الّذي يصفه والده أنه أسير الحنين المَرضي
الذي يقع فيه المغتربين حين يصورون لأنفسهم بأن كل شيء جميل في بلادهم التي غادروها،
بما في ذلك الخرائب والمزابل.
انطلقت الرواية بالعديد من المواقف الكوميدية
السوداء إلا أنني أشعر أن هذه الكوميديا بدأت بالخفوت رويداً رويداً، وتمنّيت لو أن
الرملي حافظ عليها.. أن تحوّل قمة المأساة إلى كوميديا، أزعم أنها تحوي شيئاً من تغريبة،
وبالتالي هذا التغريب هو ما يصفعنا طوال الوقت كي ننتبه..
الرملي تقصد ذكر تكريت بشكل خاص بينما استخدم
دلالات لقرى العراق الأخرى، ما يعني أن له معها ثأر لن ينتهي وإن تم ركنه في زاوية
قصية، حلق الرأس في ملهى القشامر هو الآخر تذكير قوي بأن الثأر لا يموت إن تمرد نوح
وتغيره بدرجة مثير للاهتمام حقا، هل كان فعلا يتقن تقمص دوره بحيث يبر بقسمه أم كانت
تنازعه الخواطر في التحلل من عقده العادات والتقاليد التي ظل قسما منها مغروساً فيه..
هنا أمر لم أستسغ تبرير الرملي فيه ألا هو تبرير فاطمة في قبولها صفعات نوح، لا أعتقد
أن صورة الأب يمكن أن تقبل بهذه الطريقة.. لا أدري إن أسرف الرملي في صبغ علاقة الحب
بين سليم وعشيقته عالية، بصبغة مثالية زائدة أم لا..؟ تلك العلاقة من الحب الّتي ما
أن نسمع عنها إلا وأشرنا أنك لن تجدها إلا في القصص والأفلام، لكني أجدها مبررًا لخلق
الصراع النفسي عند سليم في علاقاته القادمة...
------------------
*أوس شريف: كاتب من
العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق