الروائي العراقي
محسن الرملي: الشعر فن الكلام الأرقى إنسانياً
ما زلت أحمل في داخلي رقيبي الذاتي والأخلاقي الذي يمنعني من قول كل ما
أفكر به
المهجر أعطاني الكثير: الأمان والحرية والانفتاح على الثقافات الأخرى
حوار ـ السيد حسين
يؤكد الروائي والمترجم العراقي المقيم في إسبانيا محسن
الرملي، أن المهجر أعطاه الكثير، من الأشياء أولها الأمان والحرية والانفتاح
على الثقافات الأخرى ومعرفتها ومعايشتها بشكل مباشر، وبالمقابل حرمه من العيش وسط
عائلته وأهله وأرضه الأولى وذكرياته، لذا كانت الأعوام الأولى في المهجر صعبة ومريرة،
في حواره لـ «الأهرام العربي» لفت إلى أن المشهد الثقافي العراقي حاليا
جيد، على الرغم من أن الظروف المحيطة بها غير جيدة، لأن المؤسسات الثقافية الآن
تعاني ما تعانيه مجمل هيكلية الدولة من ضعف وخراب وفساد.
> ما الهاجس الذي يحرك قلم محسن الرملي، لماذا تكتب،
وماذا تنتظر؟
هواجس عديدة، وعلى رأسها المتعلقة بوجودي ككائن عابر
في هذا العالم، ومن خلال القراءة والكتابة أحاول أن أفهم شيئاً عما يتعلق بمعنى
ذلك، أو على الأقل إيهام ذاتي بوجود معنى معين. أكتب لأنني أشعر بأن لدي ما أريد
قوله قبل أن أمضي.. وأسعى لمشاركة الآخرين، أقرأ ما يكتبون وأكتب لمن يقرأون، ومن
خلال هذه التجربة المشتركة قد نسهم بشيء ما لصالح الإنسان.. وما أنتظره.. هو أن
يصبح الإنسان أكثر إنسانية، ذلك أنه لا يزال ينطوي على الكثير من التوحش
والقسوة.
> ما ملاحظاتك على الحركة الثقافية والمشهد العراقي شعرًا
وسردًا الآن؟
أراها جيدة، على الرغم من أن الظروف المحيطة بها غير جيدة،
وأغلبها يقوم بجهود فردية من قبل المبدعين سواء أكانوا في داخل العراق أم خارجه،
لأن المؤسسات الثقافية الآن تعاني ما تعانيه مجمل هيكلية الدولة من ضعف وخراب
وفساد، بينما يتحرك المبدعون العراقيون وينتجون بشكل مدهش في كل مكان وفي مختلف
الأجناس الإبداعية، لدينا أعمال روائية وسينمائية وتشكيلية شاركت في محافل عالمية
وحازت على جوائز.
> خرجت من العراق منذ سنوات طويلة، ما الأسباب التي أدت
إلى تركك الوطن؟
غادرت البلد بعد إعدام أخي حسن مطلك والتضييق عليّ وعلى
عائلتي وعلى مجمل البلد، حيث اشتدت ضراوة الديكتاتور وضراوة الحصار معاً. قمع لكل
أنواع الحريات ومعاناة في كل شيء. كانوا يستدعونني شهريا للتحقيق الأمني، حتى وأنا
مجرد جندي في الجيش طوال الوقت، لذا فحال انتهائي من أداء الخدمة العسكرية، التي
دامت ثلاث سنوات في صنف الدروع، غادرت البلد باتجاه الأردن وبعد عامين انتقلت إلى
إسبانيا.
> ما الذي أعطاه المهجر لمحسن الرملي وما الذي سرقه منه
وما تأثيراته على شخصيته وكتاباته؟
أعطاني المهجر الكثير، وأولها الأمان والحرية والانفتاح على
الثقافات الأخرى ومعرفتها ومعايشتها بشكل مباشر، وبالمقابل حرمني من العيش وسط
عائلتي وأهلي وأرضي الأولى وذكرياتي، لذا كانت الأعوام الأولى صعبة ومريرة إلى أن
نشأت لي عائلة جديدة فخففت عني شيئاً من هذا الحرمان.. لكن يصعب أو يستحيل تعويض
ما فقدته، فقد مات العديد من أفراد عائلتي الأولى في غيابي، وتغيرت ملامح كل شيء
بسبب الحروب وبعدها الإرهاب.
> ماذا عن روايتك «حدائق الرئيس».. لماذا اخترت هذا
العنوان؟
هذه الرواية، فيها عن معاناة أبناء بلدي أكثر مما فيها عني،
لذا فهي الوحيدة من بين رواياتي التي لم أسردها بضمير المتكلم.. وعنوانها، بمثابة
إشارة مريرة إلى ما كان يزرعه الديكتاتور في أرض العراق، مقابر جماعية، قبور تلو
القبور للآلاف من ضحاياه.. حتى في حدائق قصره نفسها.
> رواية «حدائق الرئيس» ترصد سنوات الحرب في العراق
وصولاً إلى الغزو الأمريكي... فهل هي تروي الواقع العراقي بعين المثقف؟
حاولت أن أجعلها ترصد من خلال عين أي عراقي عايش تلك
العقود، مهما كان مستواه الثقافي أو وظيفته، لذا فإن تلقيها كان أوسع من مختلف
الفئات، بما في ذلك من قبل أجيال الشباب الحاليين الذين ولدوا بعد الحرب العراقية
ـ الإيرانية وبعد كارثة غزو الكويت، ويقولون لي بإنهم يدركون الآن أفضل ما
كان يحدثهم به آباؤهم ويدركون خلفيات الحال الذي وجدوا أنفسهم فيه، ففي هذه
الرواية جوانب تؤرخ للماضي القريب، للأمس الذي أوصلنا إلى اليوم، لهذا يقترح البعض
حتى تضمينها في بعض المراحل التعليمية الدراسية.
> لماذا جعلت إعدام شقيقك عام 1990 هو المحرك الرئيسي
للشخصيات الرئيسية في روايتك (ذئبة الحب والكُتب)؟
بالفعل، في هذه الرواية، عدت لما هو شخصي أكثر من أي عمل
سابق، خصوصا أنها جاءت بعد (حدائق الرئيس) التي ابتعدتُ فيها عن الشخصي الذاتي
تماماً. كنت أريد أن أكتب رواية خاصة بالحب وحده وبهواجسه، في دواخل الإنسان بشكل
عام والإنسان العراقي بشكل خاص، بعد أن كانت كل أعمالي عن أجواء الحروب، ولأن أقوى
حب في حياتي هو حبي لأخي حسن مطلك وحبي للكتب.. جاء العمل على هذا النحو.. ومع ذلك
لم أستطع تجنب حضور وأثر تقلبات الظروف العراقية العامة.. يحدث هذا معي دائماً،
لأنني أعتمد على الصدق في الكتابة.
> رواياتك تستحضر الخراب العراقي، هل يمكن القول إنها
روايات ذاكرة تاريخ العراق؟
نعم، هي كذلك إلى حد كبير، فمن خلال ما أدونه أنا والكثير
من أصدقائي المبدعين العراقيين، ثمة محاولة للحفاظ أو على الأقل ترميم ذاكرة بلدنا
التي تعصف بها هذه الأحداث الكبيرة السريعة والتخريبية الكارثية في أغلبها، إضافة
إلى أن ذلك جزء من مهمة الأدب عموماً كونه يرصد ماهية وضع الإنسان في ظل ظرف
استثنائي.
> أكثر المبدعين حينما يعانون من الاغتراب داخل أوطانهم
وتسنح لهم الفرصة أن يغادروا الوطن، تكون البيئة الأخرى حاضنة لموهبتهم ومكانا
خصبا لغزارة إنتاجهم، هل هذا ينطبق عليك؟
شخصياً لا أعتبر نفسي غزير الإنتاج، ولا تشغلني مسألة الكم
كثيراً، فها أنا أتجاوز الخمسين من عمري وليس لدي سوى أربع روايات، كما أن الأمر
ليس كما يتصوره البعض، فصحيح أن المكان الجديد يوفر لك الأمان والحرية، ولكنه لا
يحتضنك لتتفرغ لمشروعك الكتابي، بل على العكس، عليك أن تضحي بالمزيد من الوقت كي
تتعلم لغة بلدك الجديد وتفاصيل ثقافته ونظامه وكيفية كسب عيشك فيه والتكيف معه..
بل تأسيس حياة جديدة بالكامل، وكل هذا على حساب وقتك.. وأهم ما يحتاج إليه المبدع
هو الوقت.
> شخصياتك الروائية، هل تتمتع بحالة من الانعتاق من سلطة
الكاتب اللغوية والفكرية؟
ليس تماماً، فالشخصيات الروائية هي من صُنع الروائي أولاً
وأخيراً، ولكنها بعد أن تتخذ لها ملامح وكينونة خصوصا على يدي صانعها، تبدأ بفرض
شروطها التي تجبر صانعها نفسه على الانقياد لها، فها أنا في كتابة الجزء الثاني من
(حدائق الرئيس) مثلاً، أجد نفسي مضطراً للتعامل مع شخصياتي باعتبارها موجودة فعلاً
كما هي، وجل ما يمكنني فعله، هو أن أضعها في مواقف وظروف أخرى وتدوين ردود فعلها.
> ألم يحدث أن تورطت في تحميل إحدى الشخصيات قناعاتك
الخاصة؟
نعم، لقد حدث هذا كثيراً وسيظل يحدث، ففي خلاصة الأمر، مجمل
أعمالنا، وبكل ما تنطوي عليه من شخصيات مختلفة، هي أدواتنا للتعبير عما نريد قوله،
سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر، فأنا موجود في أغلب شخصياتي بمن فيها
الشخصيات النسائية، وكما قال فلوبير عن شخصية روايته: مدام بوفاري هي أنا.
> هل استطاع الأديب العراقي من خلال منجزه الإبداعي
كشاعر وقاص وروائي أن يرتقي إلى حجم الدمار والفجيعة والمأساة التي يعانيها
العراقيون؟
لا، فهذه مهمة مستحيلة، وكل ما أنجزه المبدعون العراقيون،
وهو كثير ورائع، ما هو إلا محاولة لوصف جزء صغير من هذا المشهد المهول لما حدث ولا
يزال يحدث.
> ما زال الأديب العراقي في المنفى يعاني التهميش من
المؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام والصحف في تسليط الضوء على تجارب أدباء المهجر،
ما رأيك؟
لم تعد هذه المسألة مهمة كثيراً اليوم، بل إن المؤسسات
الثقافية ووسائل الإعلام هناك هي التي تعاني من التهميش وسوء الحال والرثاثة
والتحزبات والفساد، ولم يعد الأديب العراقي ينتظر منها الكثير، كما أن وسائل
الإعلام غير الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، قد أصبحت متاحة له وللجميع
لإيصال ما يريدون إيصاله.
> كيف ترى العراق اليوم وحال العراقيين؟
أراه اليوم، كما تعودت على رؤيته منذ ولدت فيه، جرحا نازفا،
كلما أوشك على الشفاء هب عليه ما يزيد من نزفه، ولكن سيبقى العراق عريقاً وعظيماً
كما كان دائماً بفضل أهله النادرين بصبرهم ووعيهم وحلمهم.. أما عما يقولونه لي
وأقوله لهم، فهم يقولون لي بأنهم يحبونني ويفتخرون بي وبكوني منهم، وأنا أقول لهم
بأنني أحبكم وأفتخر بكم وبكوني منكم.
> أمام هذا الكم المتلاحق من الهزائم العربية هل يمكن أن
تنتج الرواية بطلا يحمل انتصارا قادما أو يبشر على أقل تقدير بمستقبل أفضل؟
لا أظن، لأن الأدب عموماً هو واصف وناقد دائم للأحوال،
ويشير إلى مواضع الألم والخلل أكثر من غيرها، فحتى لو كانت الحال كلها انتصارات،
سيعمد الأدب على فضح ثمن تلك الانتصارات الذي يدفعه الإنسان. إنه يشخص ويطرح أسئلة
أكثر مما يعالج ويقدم إجابات، تاركاً تلك المهمة لغيره، بعد أن يعينهم على التشخيص
والوعي بالذات والعالم.
> بالرغم من كتابتك للشعر منذ سنوات، إلا أنك مقل في نشر
الشعر كيف تفسر ذلك؟
هذا صحيح، علماً بأنني لا أنقطع يوماً عن قراءة الشعر سواء
لي أو لغيري، ومساهماتي في المهرجانات والملتقيات الشعرية هي أكثر منها بكثير من
مشاركاتي في مؤتمرات السرد.. أما عن عدم نشري لدواويني فمن أسبابه أن الناشرين
يطالبونك بالروايات والدراسات والترجمات ولا يطالبونك بالشعر، ولو عرضته عليهم
سيتهربون، وهذا أتفهمه بحكم متطلبات سوق الكتاب، عدا ذلك، فلم يعد من الأمور
الضرورية أو المستعجلة أن يتم إصدار الشعر في كتب، لأن القصيدة صارت تصل إلى مساحة
أوسع من القراء عبر شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمهرجانات
والقراءات في المكتبات والمقاهي وغيرها، أكثر من وصولها إليهم في دواوين.. بينما
لا يمكنك أن تنشر روايتك في صفحتك على الفيسبوك أو تقرأها على جمهور في مهرجان أو
أمسية في مقهى.
> أنت تكتب باللغة العربية والإسبانية أيضا.. ما علاقتك
باللغة؟
نعم، ولكنني أكتب بالعربية أكثر من الإسبانية لأن العربية هي
لغتي الأم واللغة الأحب إلى قلبي، والأمر يشتتني أنا أكثر مما يشتت القارئ، فأشعر
بالحرج عندما أنشر شيئاً بلغة ويطالبني قراء اللغة الأخرى بترجمته، وهذا حقهم،
لكنه سيتطلب مني وقتاً وجهداً للقيام به، مما جعلني أميل أخيرا لترك مسألة ترجمة
بعض أعمالي لغيري.. أما عن علاقتي باللغة، فهي بالفعل قد تغيرت مع الوقت حتى صرت
أراها وأتعامل معها على أنها مجرد أداة وليست هدفاً.
> أين دور المثقفين في مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب؟
إنه في كل الكلمات التي يكتبونها ويقولونها كل يوم، وفي
نتاجاتهم المتواصلة في فنون المسرح والسينما والرسم والموسيقى والرقص والشعر
والترجمات وغيرها.. هذه هي أسلحتهم التي لم ولن يكفوا عن استخدامها في مواجهته
أبداً.
> أين أنت من الشعر حاليا؟
أنا في الشعر دائماً، لم أغادره ولم يغادرني، ولا يمر أي
يوم دون أن أقرأ فيه شعراً، وأشارك شهرياً تقريباً في أكثر من نشاط شعري، أما على
صعيد كتاباته فلدي الكثير من القصائد بالعربية والإسبانية، وبعضها نشر في
أنطولوجيات أو قرأته في مهرجانات وملتقيات، وبعضها لا يزال على شكل مسودات، أنتظر
فرصة الوقت، على مهل، كي أراجعها وأنشرها.
> هل هنالك روايات عربية استطاعت الانفلات من
التقاليد الأوروبية في الكتابة؟
لا توجد رواية عربية ولا غير عربية ليست متأثرة بالرواية
الغربية، وإلا لما سميت رواية، فهذا الجنس الكتابي بصيغته المتعارف عليها عالمياً
الآن هو تسمية وتصنيف تبلور في الغرب وتطور وتحول إلى صناعة قائمة بذاتها.
-----------------------------------------
*نشر في مجلة (الأهرام
العربي) العدد 1109 بتاريخ 28/7/2018 القاهرة