محسن الرملي: لاعِق التَمر
مختار سعد شحاته
الحياة المكتوبة، وكتابة الحياة:
منحني
الشعر عبر ليال مهرجان طنطا الدولي للشعر في دورته الأولى (30 أكتوبر حتى 2
نوفمبر) العديد من المتعة الشخصية مضافًا إليها متعة اكتساب أصدقاء جُدد، وعُدت
محملا بأفكار حول الشعر والشعراء، زادت في وضوح الفكرة التي تترسخ تباعًا في عقلي،
حول الكتابة بشكل عام، وهو ما توازي مع عودتي من مؤتمر أدبي وأنثربولوجي له علاقات
ما بفكرة الكتابة بشكل عام، وعليه بدأت تتضح أبعاد المصطلح الذي أرى أنه لابد من
طرحه حول الكتابة وهو "الحياة المكتوبة" والذي يتراتب عليه مصطلح جديد
آخر وهو "كتابة الحياة"، وهما في حقيقة الأمر إشارة إلى نوع كتابي جديد
بدأ يتشكل وتتضح ملامحه بقوة في العالم الغربي، وهو معني بكتابة الحياة اليومية
وتفاصيل الحياة بشكل إبداعي وجديد، وبصور غير حصرية على شكل ونمط واحد، وهو ما
حفزني لقراءة رواية محسن الرملي "تمر الأصابع" باعتبارها نموذجًا رصينًا
لهذا النوع الكتابي الجديد.
هنا
لا أود حرق المصطلحين قدر ما أتمني التعريف بهما، وأظنني بما أعددته من دراسة حول
هذين المصطلحين، وقدمته إلى من يهمه الأمر، أضمن للمصطلحين –ولنفسي- مغبة حرقهما
قبل الأوان، وسأتابع بنشر تفاصيل أكثر عن هذا الأمر فيما بعد.
رواية تمر الأصابع:
صدرت
الرواية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ويتصدر صدر الرواية رقم
الإيداع بدار الكتب (15187/2013)، في قطع متوسط بين دفتيه (191) صفحة ، مع غلاف
بسيط للغاية له لون "بترولي" ولا يحمل أي لوحة فنية على غلافه لتصدير
الرواية، فقط اسم الرواية وصاحبها في شطر الغلاف الأعلى، وفي أسفل الغلاف يقبع
شعار الهيئة العامة بجلال الكاتب القرفصاء.
أظن
الغلاف على بساطته هرب من اتهامات تطال هيئات أخرى معنية بالنشر في مصر –حكومية
وخاصة- يكون فيها تصميم الغلاف من السوء إلى درجة خجل أصحاب الإصدارات من تصميمها،
ونسفًا لقاعدة "العنوان عتبة النص الأدبي الأول"، وعنوان الإصدار –في
ظني- هو غلافه وتصميمه، إذ يمكن أن تعرف عن المؤسسة الناشرة والكاتب في وقت واحد،
وهو أمر له شجون كثيرة في صناعة الكتاب المصري مقارنة بصناعته في العالم.
صاحب صفحة الإهداء:
جملتان
تتواتران في صفحة الإهداء، كاشفتان عن الكاتب وصاحبه، والمتخرج في جامعة مدرير
بدرجة الدكتوراه في كلية الفلسفة والآداب، برسالته (تأثير الثقافة الإسلامية على
الكيخوته 2003)، ويعمل بجامعة "سانت لويس الأمريكية" بمدريد، ويكتب الشعر
والرواية والمقال، ويقيم في أسبانيا منذ العام 1995 وحتى الآن. ترجمت أعماله للغات
منها الإنجليزية والألمانية والفنلندية والإسبانية والتركية وغيرها...
تقول
جملة الإهداء الأولى ".. إلى العراق، مهد طفولتي ومهد الحضارات"، تردفها
الجملة الأخرى ".. إلى إسبانيا محطتي للسلام بعد طريقي المكتظ بالحروب".
والجملتان هنا تسدعيان قول الصديق الدكتور "طارق الطيب" حين يعرف عن
نفسه وحياته في فيينا وأنه رجل يعيش بين ثقافة الميلاد والنشأة وبين ثقافة المكان
الذي يعيش فيه منذ عقود، ويبدو الأمر مثله عند الرملي إذ تكشف رواية تمر الأصابع
لا عن صراع ثقافتين قدر ما تعرض من توافق الرجل من خلال بطله "سليم نوح"
الذي عاش بين الثقافتين العربية العراقية الإسلامية والإسبانية الغربية، فحمل
قيمهما حتى صار "سليم نوح" بكل تفاصيله التي عرضتها الرواية. ويفض محسن
الرملي هذه النقطة الشائكة ربما لنفسه على لسان بطله في حوار بين سليم نوح، ووالده
"نوح المطلق" في شقته بإسبانيا حين يحدث الابن والده عن مفهومه للوطن.
الحكي في تمر الأصابع:
اعتمد
الرملي في حكايته على راوٍ عليم، هو "سليم نوح" الذي يتصدر الحكاية منذ
لحظتها الأولى، فيفتتح لنا بجملة تقربنا إلى كتابة السيرة الذاتية للبطل، حين يقول
في مفتتح الرواية مستخدمًا ضمير المتكلم "ماكنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا
تشجيع أبي لي وهو يحلق شعر رأسي في مرقصه المدريدي......." ص7. إذن سيحكي لنا
"سليم نوح" حكايته الشخصية وحكاية أهله، وذلك ما يعيدني إلى مفتتح
المقال عن مصطلح "الحياة المكتوبة"، فالرملي هنا قرر منذ جملته الأولى
أن ينقل لنا من سيرة حياة أبطاله الشخصية، معتمدًا على لغة شفيفة وبسيطة في آن،
وسنرصدها فيما بعد، ليظل طوال الرواية وحكايتها المتضافرة يكتب حياتهم، ويطورها من
مجرد سيرة ذاتية إلى تلك الكتابة الإبداعية البديعة، وهو هنا يمارس الكتابة –في
ظني وفهمي- حسب المصطلح الذي أشرت له "الحياة المكتوبة"، حتى إذا ما
انتهى الرملى من حكاية "آل المطلق" ولقطات حياتهم التي ضفرتها الرواية،
لتصبح بين أيدينا –نحن القُراء- "الحياة المكتوبة". أي أن الكاتب حين
يحكي ويكتب فهو بصدد "الحياة المكتوبة" تلك التي يتتبعها بكتابة إبداعية
تأتي الحكاية والرواية واحدة من صور التعبير عنها، وفيها يتورط الكاتب في كل
التفاصيل، حتى إذا ما خرجت للُقراء توقف دور الكاتب وصارت "الحياة
المكتوبة" تلك التي نقرأها أو نشاهدها أو نسمعها من الكاتب أو عبر كتاباته.
تمر
الأصابع ليست مجرد حكاية عن مهاجر عراقي وفقط، وهنا لا أحب حرق أحداث الرواية كما
يفعل بعضهم في قراءاته إذ يلخص لنا بطريقة مدرسية ساذجة الحكاية والأحداث اختصارصا
مخلًا، ويصر على تقديم تلخيصه باعتبار نقدي، وهو عجب الأعجب منه أن يتصدر الصحف
والمجلات الثقافية باعتباره نقدًا أدبيًا.
إذن
فماذا حكي الرملي؟ وكيف حكي؟
الرملي
أظنه يحكي عن العالم العربي وأزمة الحكم فيه بشكل عام، وعن عراق صدام حسين، والذي
أسماه على لسان الوالد "نوح المطلق" بالديكتاتور، ووصف حكمه
بالديكتاتورية في مشهد يأتي في نهايات الرواية بين الأب والابن –نوح وسليم- وإن
كان تمّ تبطينه طوال الحكاية عن أزمة قبيلة "المطلق" التي حولها النظام
إبان الحرب العراقية الإيرانية إلى "القشامر" –مفردها "القشمر- وهو
ما كان سُبة في حق عشيرة المطلق.
الرملي
يقرر أن الحكاية الأهم هي مقاومة كل ديكتاتورية يمكن أن تنشا على الأرض ولو كانت
مثالية أو تحاول، إذ يبدأ في تفكيك مفاهيم مثل الأبوة والدين والوطن والشرف
والعرض، والتي يراها الرملي من خلال بطله –كما أفهم- أهم المناطق التي تؤكل منها
إنسانيتها بفعل تسلطها على الإنسان بشكل عام حين يتم استغلالها لخدمة مصالح
السلطة، وليست سلطة الحاكم بل كل السلطات وجميعها، والتي تحول دون تحرر الإنسان
تلك الحرية المأمولة المرجوة بكل مسئولياتها. بل إنه يجعل من الحب سلطة جديدة يقع
تحتها الإنسان وتتحكم فيه.
تفكيك
محسن الرملي لتلك الثوابت يطرحه عبر تساؤلات تأتي على لسان "سليم" أو
لسان الأب "نوح"، بل تلملمها طوال الرواية بالمباشرة الصريحة مرة
وبالتعريض مرات، وهو نفكيك يتقنه الرملي من خلال تلك الصراعات التي امتلأت بها
جنبات الرواية، وهي صراعات بعضها طبيعي جدًا وبعضها مخلوق ومحدث.
من أشكال الصراع في الرواية:
لم
يكن خط الصراع الممتد في رواية تمر الأصابع مقتصرًا على صراعات المجايلة وتراتبها،
ما بين الجد مطلق صاحب السلطة النافذة بين العشيرة من خلال سنه وقيادته أو من خلال
تدينه باعتباره الإمام والقاضي والحاكم، وهو صراع كان يمكن أن يحمل الرواية على
عاتقه دون تململ وله أن يتحمل روايات وروايات، ولكن الرملي يطور هذا الصراع ويبدأ
من خلاله تفكيك ثوابت المجتمع العشائري، فيفكك مفهوم السلطة والأب والدين، وحتى
الحب، ويجعل من هذا الصراع الأبوي بينه وبين أبيه، وبين أبيه وبين الجد، صراعًا
أوسع حين يتحول إلى صراع العشيرة ضد سلطة وأبوية الحاكم، ومفاهيم المواطنة والوطن،
مفككًا بعض الثوابت المحوكمة للعلاقة بين الأجيال أو بين السلطة الحاكمة والمواطن
المتمثل في عشيرة آل المطلق، وكيف يمكن لهذا الصراع أن ينتهي بنهايات السوء كما
حدث مع العشيرة في رحلة تهجيرهم الطواعية الأولى، وقسم الجد بالانتقام وقسم الأب
نوح بالانتقام، بعد ما اعتبره هزيمة لرجال العشيرة على يد شرطة تكريت في بدايات
الرواية، تبع ذلك رحلة هروب "سليم" التي انتهت إلى إسبانيا دون سرد
لتفاصيل الرحلة، عكس ما فعل مع "نوح" والده حين استفاض في سرد بعض محطات
سيرة هروبه من القرية مرورًا بتكريت والموصل ثم بغداد واخيرًا إسبانيا قبل برلين
في فصل الختام، لأجل انتقامه من الديكتاتورية، وللوفاء بنذره وقسمه على القرآن
الكريم. وهنا يفكك أيضًا سلطة ما خفية أخلاقية بما يفرضه الوفاء بالوعد واحترام
الوالدين وطاعتهما.
تأمل
مثلا حال الأب مع الجد حين يسأل نوح سليمًا عن جده. يقول الرملي على لسان راويه
العليم –سليم نوح- حين يحكي عن والده: "أبي لم ينظر في عيني جدي أو حدق حدق
في وجه على الإطلاق، دائمًا ينظر إلى الأرض مستمعصا إلى كلامه بانتباه، تجاوز
الأربعين عامصا وهو يقول إنه يستحي من النظر إلى وجه أبيه. وسألني ذات يوم قرب
شاطيء النهر، بنبرة تشبه الفضول والتوسل: كيف تنظر أنت إلى وجهه؟ هل نظرت في
عينيه؟ .. هل نظرت في عينيه؟" ص "20".
ولا
يفوت بجملة الصراعات صراع سليم نوح مع أسئلته التي تأكل رأسه وأهمها عن سؤال والده
هل قتل الجد؟ ولماذا رغم كل هذا الإجلال، وهو سؤال يأتي منذ ص 23 "أريد أن
أسأله هل قتل جدي حقًا؟"، وهو تساؤل يستمر طوال الرواية دون إجابة. وكذلك
جملته في مشهد الجيش حين تذكر عالية وجسدها الغارق في الماء ونتوء حلمتيها، وكيف
ساعده ذلك على ما أسماه سليم "الرعشة السرية" وكيف يشعر بالذنب والندم
كونه يشوه صورتها وهي ميتة أمام ناظر خياله، وهو مشهد يحمل من المفارقات
والتناقضات الكثير وهو من أروع المشاهد في الرواية بأسرها مثله مثل مشهد الغرق
ودلالاته وتأويلاته.
الشخصيات في تمر الأصابع:
على
عكس البعض ممن يتخم روايته بالشخوص متعبرًا أنه مزية ودلالة على إبداعه، يجيء محسن
الرملي ببساطة ليحكي حكاية تتمحور حول شخوص تُعد على أصابع اليد، دون حاجة إلى ضوضاء
وزحمة، مكتفيًا بهذا القليل الذي حمل الرواية بنبل منذ البداية حتى النهاية، وكلها
شخصيات بناها محسن الرملي عبر روايته بشكل مذهل حين بدأ في عرض تفاصيل كل شخصياته
عبر تضفير بين الأحداث، فلا شخصية كاملة منذ البداية إلا بنهاية الرواية وجملتها
الأخيرة، وهو بناء يشبه تجميع قطع "البازل" استطاع الرملي تعشيقها
بمهارة عبر لغته البسيطة والبعيدة عن التعقيد، ومن دون مبالغات فجة.
فمثلا
شخصية الأب نوح، والذي نظن أنه بعد مشهده الأخير في مرقصه مع ابنه سليم وفاطمة
وروسا، نظن أننا عرفناه واكتملت قطعته الأخيرة من "بازل" شخصيته، لكن
الجملة الأخيرة في الرواية تدهشنا بالجديد، إذ اعتقدنا أنه تخلى عن قسمه وانتقامه
"المجنون والمتخلف" على حد تعبير سليم في حوار سابق مع نوح، وبعد مشهد
مهاتفة نوح لمكتب القنصل العراقي في إسبانيا فنجد تلك الجملة في آخر سطور الرواية:
"بعد ثلاثة أيام غادر أبي وروسا إلى ألمانيا... بعد ثلاثة أيام أخرى علمت بان
ذلك الدبلوماسي قد نُقل إلى السفارة العراقية في برلين قبل أسبوع".
كذلك
شخصية "عالية" التي نتورط في محبتها بعد مشاهدها مع سليم وقصة حبها وكيف
كانت نهايتها، ثم نكتشف جانبًا جديدًا منها حين يقارن بينها وبين
"فاطمة" بعد أن يقرا على فاطمة بعض أشعارة التي كتبها في
"عالية"، لنكتشف بعدًا جديدًا عنهما، بل وبعدًا جديدًا عن هذا الحب
الأول وكيف يكون مندفعًا ومشفوعًا بالكثير، مما إن قبلناه وقتها، فأننا سنراجعه
لاحقًا ونقارنه بما سواه حين ننضج. وهو ما فعله الرملي طوال الرواية مع كل
الشخصيات.
لم
يقتصر هذا البناء التراتبي للشخصيات على الشخوص من اللحم والدم بل يمتد إلى شخوص
اعتبارية أخرى، وإن جاز لي تسميتها مثل "شخص الوطن، وشخص الحب، وشخص
الدين"، وكلها قدمها وفككها محسن الرملي بشكل رائع، ولعل جملة سليم المباشرة
مع والده عن أنه رجل بلا وطن فككت لنا شخصية الوطن وأضافت لها بعدًا جديدًا من
خلال وصفه لمفهوم الوطن. كما نجده في مشاهد الأب وسليم وكلامهما عن الوطن وعن
تدينهما الأول، كما نجده في مقارنات سليم بين عالية وفاطمة، وتفكيك شخصية الحب
الأول عبر الحديث عن الحلم والشعر وموقف عالية وفاطمة منهما.
التأويلات والدلالات واللغة:
اعتمد
الرملي على دلالات كثيرة عبر روايته، وتأويلات أساسية، جاء بعضها مباشرًا
ومفهومًا، والبعض الآخر مراوغ للغاية، ولا أجد مثالاً أكثر دلالة من طريقة اختيار
الأسماء التي استنها الجد للعائلة، بل وعن اختيارات تلك الأسماء ودلالاتها على
شخصيات الرواية، واحتماليات التأويلات لها، واظنها كلها تحتمل ذلك.
إذ
يمكن أن تأول شخصية الجد بأشياء عديدة كالسلطة والقهر والديكتاتورية الدينية
والأبوية وغيرها، كما يمكن تأويل شخصية الأب وشخصية الأخت "استبرق"
ومرضها وهذا السائل الأصفر، والحبيبة "عالية" وبساطتها ولهفتها حتي
غرقها يحتمل دلالات وتأويلات.
ولعل
من أعظم ما يمكن تأويله وتحميله بالرمز والدلالة في الرواية، هو اسمها "تمر
الأصابع"، وعلاقة هذه العائلة المتشابكة مع التمر عبر الجد مطلق والأب نوح
والابن سليم. ويضاف إلى ذلك شقة سليم في مدريد واحتلالها بالصور وقصاصات الجرائد.
لكن،
يبقى سؤال حول هذه التأويلات وعن كثرتها التي ربما أرهقت العمل في جملته، حيث
تشغلك عند القراءة بل وفي لحظات تفسد متعة السير في خط سرد الحكاية الطولي،
بمحاولات ترجمة هذه الدلالات بعد ان اختار محسن الرملي لنفسه هذا المنهج الكتابي
المتطور بما يشبه كتابات السيرة الذاتية للأبطال الروائيين، وبما أفلح فيه من لغة
بسيطة وطيعة للغاية.
لعل
لغة الرواية وبساطتها وبعدها عن تعقيدات المعجم وألفاظه مما لم يعد دارجًا يجعل من
لغة تلك الرواية بطلت مضافًا إلى أبطال الرواية، إذ يعتمد السارد محسن الرملي على
لسان راويه العليم لغةً طيعة بسيطة، واضحة التركيب وآنية غير كلاسيكية، بها من
بلاغة عصرها وتراكيبه الكثير مما يضفي جمالاً خاصًا مضافًا للوحة الجمال التي
رسمتها الرواية عبر الأحداث والشخوص، وللحقيقة هي لغة منضبطة للغاية، وفي هذه
الطبعة كادت تخلو من الأخطاء الطباعية في الإملاء والنحو، وهو ما يبدو شقًا أصيلاً
من شخصية الرملي نفسه الأكاديمية والإبداعية، ويُضاف إلى الرواية وكاتبها هذا
الانضباط وكذلك إلى ناشرها. والحقيقة أنه وعبر اللغة لا يمكن ما يقوله أبطال
الرملي في تمر الأصابع أمرًا اعتباطيًا أو صدفيًا، إذ تكتشف بعد ذلك ان لكل تركيب
دلالته والحاجة إليه، وهو لعبة شديدة الخطورة لعبها باحتراف الرملي في صنعته
الكتابية، إذ تكمن خطورتها في اكتشافها السريع، فيتعرى الكاتب وقتها أمام قارئه
كتابيًا.
ومن
جملة التأويلات جملة كررها الرملي مرتين عن سخرية ما طالت "صراط" ابن
عمه، وتساؤلممن نسخر "الناقش أم المنقوش"، والذي يمكن تأويله بأكثر من
زاوية للدلالة على صراعات شخصية وإنسانية بل وزمانية حول فكرة التدين والبشرية،
وهو تكرار له شبيه آخر في جملة الجد التي تعلمها نوح عنه صغيرًا، وحين سُأل قال:
"نبح علي الكلب فلم انبح عليه، ولكنه عضني فعضضته". وهي جملة تتكرر
كأنها قناعة ما لأبطال الرواية إلا الابن سليم.
حشف بين التمر:
إن
قطر تمر أصابع محسن الرملي عسلاً ولذة للقراء، إلا أنه طاله –في قراءتي- بعض
الحشف، وهو قليل، لم يفسد القراءة بل أفسد ديمومة عسل التمر المتواصل عبر الرواية،
ومنها:
أن
بعض المشاهد جاءت مباشرة تمامًا كانها كتابة اولى تحمل من نبرة الخطابية ما يقترب
بها من الكتابة القيمية المدرسية الزاعقة، والتي يضيع أثرها بمجرد سكوت صوت الزاعق
بها فلا يبدو لها أثر، وربما أبرر لها بزمن الحكاية وصراعات أبطالها، او لكون
الرجل كان منشغلا برصد التفاصيل بحقيقتها كما يحكيها واقع أبطاله، وهو ما جعلني
أميل إلى ان الرواية مثالا رائعًا للحياة المكتوبة، بل ويمكن الاعتماد عليه في
طرحي لهذا المصطلح. فمثلا في ص 102، حين يتحدث الأب نوح عن الألمان وحلم الحرية
وبناء بلدهم بعد دمار الحرب العالمية، والذي جاء خطابيًا للغاية، إلا أن الجميل
فيه وإن كان ضالع في بئر الانبهار العربي بالغرب، دون التدقيق في الكثير، إلا أنه
يكفي محسن الرملي هنا كونه خرج من تلك العباءة التي يلتحفها كُتاب كثير من العرب
ممن لم يعيش يومًا في الغرب، ولا يكف عن التنظير والكتابة حول فحولة جنسية للعربي
وشبق لا يتوقف للغربيات حول العرب، وهو ما نسفه الرملي من خلال علاقته بفاطمة بل
وفضحه في علاقته بعالية، ثم بعلاقة نوح
وأورسا الذي جعله الرملي رغم الفحولة البدنية عاجزًا جنسيًا.
ويبدو
أن ثمة فخ وقع فيه أبطال الرملي وهو التدين الشعبي الأولي، والذي حاول جعل نهاية
القصة تشبه "يوتوبيا" ما، إذ صدر لنا طوال الوقت ثمة صراع ما مع سلطة
الدين، والمتمثلة في الجد، وفي التساؤلات التي تثيرها الرواية، وكيف تلبس المرء في
تناقضات جمة، وخذ مثلا لهذا التلبس بردفه لواده على الحمار وفي سجادة الصلاة التي
لا يحافظ عليها، وعن علاقته بوالده في مدريد وقبلها، لكن للحقيقة تدارك ذلك بالجمل
الأخيرة من الرواية يشفع له.
كذلك
سيطرة بعض المباشرة الصريحة التي تجيء على لسان الشخصيات رغم بنائها العميق، ولعل
مشهد نوح مع الجد المطلق في المسجد، حين رأه ولده سليم يؤكد تلك المباشرة
والخطابية، وإن كان يمكن ان يشفع له التاويل باعتباره محاكمة لسلطة الدين والأب
معًا.
بقى أن:
أعترف
بان الرواية بسيطة وسر بساطتها هو تمكن الكاتب وموهبته كشاعر وروائي، وهو ما
يجعلني أقول ان سر روعة هذه الرواية في أناقة تلك البساطة التي نسج بها محسن الرملي روايته، والتي لمثلها
فليجتهد الروائيون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (مركز النور للدراسات)
بتاريخ 6/11/2015م
*ونشرت في (كتابة) بتاريخ
6/11/2015م
*مختار
سعد شحاته."bo mima" روائي وباحث أدبي، مصر/ الإسكندرية.
مختار شحاته ومحسن الرملي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق