قراءة في رواية -حدائق الرئيس-
فدوى درويش
في روايته الأخيرة "حدائق الرئيس" يغوص بنا الروائي محسن الرملي عميقاً إلى ليقترب من معاناة الإنسان العراقي.
يسرد حكاية بلد استوطنته الحروب منذ مايقارب الستة عقود. بلد تُختزل آلامه للعالم
على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام في أرقام عن عدد التفجيرات وعدد الضحايا. بسلاسة
لغوية وفي حبكة درامية محكمة شيقة يروي لنا تاريخ العراق خلال ستين عاماً من
الحروب والديكتاتورية والمذابح و الحرب الأهلية... وما أورثته تلك الحروب من تشوه
واستسلام وخوف للإنسان. إنه لم يذهب بالمكان بعيداً، فقد اختار قريته الصغيرة
مسرحاً للأحداث الرئيسة واختار أبناء قريته أبطالا لحكاية ربما هي حكاية كل
العراقيين منذ عام 1958 الذي اختاره عام ولادة أبطاله الثلاثة، أبناء
شق الأرض كما نعتهم، وتنتهي مع صناديق
الموز المحملة برؤوس تسعة من أبناء قريته عام 2006 حيث يستشري العنف والفوضى
الأمنية وأعمال العنف الانتقامية بعد
سقوط نظام البعث ودخول أمريكا إلى العراق.
المكان إذاً هو قريته الصغيرة شمال العراق،
قرية وديعة تتكئ على دجلة، تستمد منه الصفاء والنقاء، وكذلك تستمد الإصرار على
الحياة رغم الموت الذي ألقى بظلاله عليها.
بذكاء وحنكة وفّر الروائي ثلاثة عناصر هامة
وكفيلة لتجذب القارئ ومن ثم تورطه في الولوج إلى عالمه، وهي عنوان الرواية
والإهداء والاستهلال...
"حدائق الرئيس"، هذا العنوان الذي
له وقع غريب علينا نحن أبناء الشرق ربما لما لحدائق الرئيس من سرية وهيبة وطغيان
وبالتالي الحديث عنها يشدنا لمعرفة ما يجري خلف أسوارها.وهذا كفيل بإثارة فضول
القارئ ليبدأ التصفح.
على غير المتعارف في الاهداءات التي تتصدر
الروايات، جاء إهداؤه الذي لم يتجاوز عدة كلمات ملامساً ضمير القارئ وأشار إلى أنّه
جزء من الحكاية وأنّه ظلٌّ لكلٍّ من أبطاله (عبد الله كافكا، طارق المدهش، إبراهيم
قسمة) الأصدقاء الذين جمعتهم قرية واحدة ومصير واحد:"إلى أرواح أقاربي
التسعة الذين ذبحوا في الثالث من رمضان 2006 . إلى كل المظلومين في العراق.. أيها
الأموات.. اعذروا حزننا المرّ عليكم.. وارقدوا بسلام. أيها الأحياء افعلوا كل ما
بوسعكم من أجل التسامح والسلام". ثم يأتي الاستهلال، بدأ الرملي بعبارة خبرية
هي
نهاية الحكاية، معتمداً أسلوب الخطف خلفاً حين قال:"في بلد لا موز
فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد
أبنائها..." بعد هذه البداية الخاطفة للأنفاس لابد أن يستمر القارئ دون خيبة
ظنّ بما في الصفحات التالية، بشغف و رغبة في مرافقة أبطال الرملي، كلّ منهم إلى
قدره الذي يحاول أن يخبرنا أن كل الأقدار كان يتم الترتيب لها خلف أسوار حدائق
الرئيس وفي خفايا قلاعه المنتشرة على طول العراق وعرضه.
اسماعيل قسمة وعبد الله كافكا وطارق المدهش
هم ببساطة نموذج الإنسان العراقي الذي ذاق مرارة الحروب، إنهم صنيعة واقع اجتماعي
ديني عشائري خاضع لسلطة العادات والتقاليد
والأعراف الجمعية والتي تنحسر أمام مدها فردية المرء وأحلامه.. إن مصائرهم هي رهن
واقع سياسي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. يتحول الإنسان بآدميته وأحلامه وتفاصيله
وسنوات عمره إلى مجرد رقم في سجلات توثيق أعداد القتلى والمفقودين والمعذبين
والأسرى.. هذه المعاناة التي لا زال العراقيون يتألمون من هولها. استطاع الرملي
تجسيدها في نصه ببساطة ودون مباشرة من خلال قصص عدة شخوص تدور أحداث الرواية في
فلكهم.
بالكاد أنهى عبدالله كافكا وإبراهيم قسمة
الخدمة العسكرية حتى اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، على إثرها أُسر كافكا مع
مئات الجنود العراقيين لدى إيران. يبقى كافكا في عداد المفقودين لعشرين عاماً
قضاها في "ضيافة الجمهورية الإسلامية" ثم يعود أنقاض رجلٍ من هول ظروف
الأسر اللا آدمية. بينما اسماعيل الذي لم يكد يهنأ بالنجاة والعودة بعد ثماني
سنوات من جبهات القتال، حتى يُستدعى من جديد للقتال في الكويت. يعود من الكويت
بقدم واحدة ورأس مطأطأ من هول ما رأت عيناه من صور فظيعة لتلك الحرب المجنونة
وبضمير معذب لتركه جثة صديقه أحمد وراءه، عذاب الضمير الذي سوف يرافقه ويفقد حياته وهو يحاول أن يُكفر عن ذنبه. يستفيض
الرملي في وصف أهوال تلك الحرب بدقة وتفاصيل لم نشهدها على شاشات التلفزة. ابراهيم
المؤمن أن كل شيء في الحياة قسمة ونصيب لم يكن مخيراً بأي شيء فيما يخص حياته وبكل
مراحلها، حتى زوجته لم يكن له أن يختارها هو، أمه هي من اختارتها له.. كذلك لم
يختر عمله في حدائق الرئيس كحفار قبور لجثث مشوهة لمعارضين وموالين مدنيين
وعسكريين..
طارق الشخصية الديناميكية التي تلعب على
الزمن والظروف بذكاء لتكسب البقاء متكيفة مع كل التغييرات السياسية بما يبقيه
محافظاً على وضعه ومستواه الاجتماعي. هومعلم وشيخ جامع وتاجر مقتدر له نفوذ سياسي
واجتماعي.
في تنقل زمني ومكاني يسير بنا الرملي خلال
ثمانية وعشرون فصلاً في أحداث سردية متسلسة ولغة جميلة هادئة بعيدة عن الاسترسال
الممل في مجموعة حكايات متشعبة نحو الماضي والمستقبل عبر شخوص تجمعه بهم قرية لم
يسميها ربما في إشارة إلى أنها يمكن أن
تكون كل قرية أوأيّ بقعة في وطنه العراق. أبطاله هم كل إنساني عراقي لأن بشاعة الحروب
وجور الحكام لا يميزان بين ألون البشر، فلكلّ نصيبٌ، بشكل أو بآخر، من الخراب
والألم.
رغم أن الرواية اكتست طابعاً توثيقياً لجزء
من التاريخ الحديث للعراق، إلا أن الرملي بذكاء الروائي وخياله استطاع أن يشدنا
نحو زوايا مبهرة من الخيال الروائي بلمسات شعرية بعيداً عن المباشرة.
أما عن المرأة فقد اختصرت النماذج التي قدمها
صورة إيجابية عن موقفه من المرأة زينب زوجة المختار المرأة الطيبة والفعالة التي
انتصرت إرادة الحياة لديها على الموت إلى أن سلّمت إلى كافكا صندوق أمه وأخبرته
بحقيقة بنوته لابنها المغتصب. قسمة، المرأة المتمردة على واقعها والتي تقرر أن
تبحث عن جسد والدها رغم كل الصعاب.
أنجز الرملي في "حدائق الرئيس"
رواية متميزة جريئة عن واقع الإنساني العراقي الذي مازال مستمراً.. متنقلاً في
إيقاع فني بين الظلم والاستبداد الاجتماعي في القرية متمثلاً في اغتصاب زكية ومن
ثم قتلها لغسل العار، وبين أهوال الحرب الطويلة، ثم إلى عوالم الرئيس المرعبة في
إشارة إلى أن الشعب يحصد الخوف والموت مما زرعت يد الحكام من ظلم وطغيان. نجح
الروائي في ملامسة الإنسان ككيان وكحياة وسط صخب الحروب التي تحولهم إلى مجرد
أرقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فدوى درويش: كاتبة سورية، والمقال منشور في (الحوار
المتمدن) بتاريخ 17/11/2016م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق