حوار
محسن الرملي: لا
أجيد أية مهنة أخرى ولم أجد نفسي كما وجدتها في الكتابة
يرى أن الثنائيات نازعته وتعذّبه..
هي صراع داخلي شرس بين مكانين وثقافتين ولغتين وزمنين
حاوره/ علاء المفرجي
*بماذا يشترك الروائيون العراقيون المقيمون في الخارج بتقديرك، وهل للغربة تأثير
واضح على ما كتبوا بحيث يستطيع المتابع أن يفرز هذه الأعمال عن غيرها؟
ـــ يشتركون بأن قضيتهم الرئيسية وهمهم الأكبر هو بلدهم العراق، وما يحدث له
وبه من تخريب، وهم في ذلك لا يختلفون عن أقرانهم من كتاب العالم الذين يعيشون خارج
بلدانهم، فنجد أن أصدقاءنا من الكوبيين والروس والعرب والصينيين والأفارقة ومن كل
الجنسيات يكتبون عن بلدانهم الأصلية أكثر مما يكتبوا عن البلدان التي يعيشون فيها،
وهذا شيء طبيعي وصحيح وصحي.. بل هو واجب. أما ما يمكن أن يميزهم عدا الموضوعة فعادة
ما تكون الرؤية وزواية النظر والتناول والحنين وحفظ الذاكرة، وتأثيرات فردية في
الأساليب كل حسب تأثره باللغة والثقافة التي يقيم فيها.
*وجودك في اسبانيا، هل فتح لك آفاقاً جديدة في التفكير والكتابة وهل انعكس
ذلك في كتاباتك؟
ـــ بكل تأكيد، لأن كل ما نتأثر به بشكل شخصي عميق سينعكس على طبيعة
تفكيرنا وما ننتجه، وأنا أعيش في إسبانيا منذ أكثر من عشرين سنة وأحملُ جنسيتها
ودرستُ وتزوجت وأنجبتُ فيها، وقرأت وكتبت بلغتها ولا أزال. هجرتي غيّرت تفكيري
وشخصيتي وحياتي تماماً وجعلتني أعرف نفسي وطاقاتي بشكل أفضل، بحيث أقول أحياناً:
يا ليتني هاجرت بوقت أبكَر مما فعلت. فحتى صعوبات الاغتراب أعتبرها مكاسب معرفية.
لقد وفرت
لي إسبانيا شروط العيش بكرامة كإنسان، وفرت لي الأمان والحرية،
كما أن القراءة بلغتها فتحت لي آفاقاً هائلة لمعرفة العالم المحيط بي بشكل أقرب
وأفضل، فعدا ما يكتب بالإسبانية أصلاً تتم ترجمة أغلب وأهم النتاجات العالمية
سريعا إليها.
*في (تمر الأصابع).. هناك مفهوم الهوية.. هل استبد بك هذا المفهوم حدّ
الكتابة عنه؟
ـــ نعم، وخاصة في الأعوام الأولى من هجرتي، كانت تتنازعني الثنائيات وتعذبني،
صراع داخلي شرس بين مكانين، ثقافتين، لغتين، زمنين (ماضي ومستقبل) وهويتين، فرحتُ
أكتب عن هذين العالمين في داخلي دون أن أفكر في بداية الأمر أن الذي أكتبه رواية،
وإنما أضع ما يدور في ذاكرتي وعالمي الآني على الورق كي أراه بشكل أفضل وأفهمه،
وبالفعل فإنني شعرت بالتغير الحقيقي والارتياح والتصالح مع نفسي بعد أن كتبت (تمر
الأصابع)، وانتهى لدي صراع الهوية بعد أن قمتُ بالنظر إلى نفسي في مرآة الكتابة ورؤيتي
أفضل لخيوط نسيج تركيبتي الشخصية والثقافية، فعرفت أين تكمن فيّ تأثيرات العادات
والتقاليد والدين والدكتاتورية والحروب وغيرها من ثقافتي الأولى وأين تكمن تأثيرات
الثقافة الجديدة.. وبهذه التصفية، وهذا الصفاء أصبحت منفتحاً أكثر ومتقبللاً لكل
ما يؤثر بي ويقنعني من أية ثقافة كان، دون الأسف على ذهاب وفقدان مفاهيم قديمة
يسميها البعض (أصيلة)، بينما لو أنها كانت كذلك وحقيقية وقوية لما تعرضت للهشاشة
والزوال بمجرد عرضها أمام أخرى جديدة.. وهكذا. لقد أصبحت ضد التعصب بكل أشكاله، ضد
التعصب لأية ثقافة بعينها أو أي مفهوم أو هوية محددة ومحدودة. صار الإنسان قضيتي
والإنسانية هويتي.
*وفي (حدائق الرئيس) استعراض لتاريخ العراق من عام 1948 حتى الدخول الاميركي..
هل كانت إجابة على تساؤلات ما انفكت تُطرح عليك في منفاك، أم هي سيرة مختصرة للوجع
العراقي.. والقارئ يستطيع أن يفهم أسباب ما يحدث الآن؟؟
ـــ لكلا الأمرين وأكثر، وهي روايتي الوحيدة حتى الآن التي كتبتها بصيغة
الرواي العليم وليس بالضمير الأول الذي أميل للسرد به، لذا فهي أكثر أعمالي
موضوعية وأقلها أخذاً من سيرتي الشخصية، والجهد الذي بذلته فيها من حيث التقصي عن
تفاصيل تخص الحروب التي مر بها العراق ومعاناة الأسرى وقصور الطاغية وغيرها، يعادل
ما بذلته لكتابة رسالة الدكتوراه، ومن حسن الحظ أن هذه الرواية استطاعت إيصال
الكثير مما أرت قوله وتوضيحه بشأن العقود العراقية الأخيرة، بحيث أن الناشر
الانكليزي للرواية طالبني بكتابة جزء ثاني لها حتى قبل أن يصدر طبعتها الأولى،
وبالفعل وقعنا على عقد الجزء الثاني، لتبدأ الآن رحلة بحثي عن مواد جديدة، كما أن
طبعتها العربية الثالثة ستصدر قريباً عن دار (المدى) ومن خلال ذلك أتمنى وصولها
إلى أكبر عدد من القراء العراقيين.
*انت من جيل عايش الدكتاتورية ونتائج حروب مدمرة وحتى الجوع.. كيف استطعت
ان تتخلص من هذا العبء في الكتابة.
ـــ في الثقافة الاسبانية يقولون: الورق يحتمل كل شيء. وهذا ما فعلته، حيث
أصب كل ما يثقل تفكيري وذاكرتي وأحلامي وقلقي على الورق، لكي أتمكن بعدها من
مواصلة حياتي بشكل أكثر تخففاً وصحة، وهو المفهوم القديم نفسه الذي كان لدى الإغريق
القدماء، أي دور الفن في التطهير، كما أن الكتابة عمل.. بل عمل صعب، والعمل هو أحد
الأدوية المهمة في العلاج النفسي، وأذكر أنني في إحدى مراحل حياتي كنت قد رسمت بخط
كبير حديثاً نبوياً، وعلقته على جدار غرفتي أمام سريري، يقول:" أريحوا أجسادكم
بالتعب ولا تتعبوها بالراحة"، لكي يحرضني على العمل أكثر، فعملت في شتى المهن
إلا أنني في الحقيقة لا أجيد أية مهنة أخرى ولم أجد نفسي كما وجدتها في الكتابة،
ذلك أنني أمضيت جل حياتي في الدراسة والقراءة وبين الكتب.
*واضح ان اعدام اخيك الروائي حسن مطلك، قد ألقى بظلاله على عالمك... وكان
واضحا تأثيره في أعمالك؟ ماذا تقول؟
ـــ نعم، لقد أثر على حياتي وعلى أعمالي وعلى كل شيء له علاقة بي، وما مر
يوم دون أن أتذكره، وما أكثر المرات التي أنزوي فيها لأبكي عليه أو لأخاطبه، وفي
أحيان كثيرة أغني الأغاني التي كنا نغنيها معاً أثناء تجوالنا في حقول قريتنا أو
على شاطئ دجلة فيها وذلك لأن في نبرة صوتي بعض الشبه بنبرة صوته عند الغناء... حسن
مطلك هو أخي وأبي وصديقي وأستاذي وهو أكبر خساراتي في هذا الكون على الإطلاق، وهو
أكثر كاتب أعدت قراءة أعماله وسأبقى أعيد قراءتها لأنها تستحق ذلك فعلاً من حيث
أشكالها ومواضيعها، لكن تأثير أعماله على أعمالي هو تأثير مختلف، أي انني أحرص على
ألا أقع بتقليده لشدة تعلقي به وبأعماله، وأن يكون أسلوبي مختلفاً عن أسلوبه، ومن
هنا يكون تأثيره عبر سعيي للاختلاف، وقد كنا حريصين على هذا ألأمر منذ البداية،
لذا كان بالاتفاق أن نختار حتى اسمين مختلفين للكتابة وأن يتحمل كل منا وزر
أسلوبه.. هو حسن مطلك وأنا محسن الرملي.
*طبعا سنقف عند (ذئبة الحب والكتب) التي استحضرت فيها روح أخيك الشهيد
الروائي حسن مطلك، هل تحدثنا عن هذه الرواية؟؟
ـــ إنها (رواية) تنحى منحى (كِتاب)، إذا أردنا تصنيفها بشكل أدق، أي بمعنى
أنها ليست مجرد حكاية مروية بشكل فني، وإنما كتاب فيه تاريخ وسيرة ذاتية وتحليل
اجتماعي ونفسي وسياسة، عواطف وأفكار، وقائع وخيالات، ترحال وذكريات عن شخصيات
معروفة كالبياتي وعوني كرومي ومؤنس الرزاز ومحمد القيسي وحسن مطلك وغيرهم، وفيها
نصوص لي ولغيري من أجناس كتابية أخرى كالشعر والقصة والمقال والمسرح وغيرها، وفيها
حديث عن كتب وأغاني وأفلام وفنانين ومثقفين وأكاديميين ونقد أدبي، وفيها تأمل
وتفكير حر واقتباسات من أقوال فلاسفة وأطفال وما إلى ذلك، أي أنني قد حاولت عبر
هذا الكتاب/الرواية أن أتطرق إلى مواضيع وقضايا كثيرة فردية وجماعية، كما حاولت فيه
العودة إلى أصول التقنيات الأولى للرواية الحديثة والتي انطلقت مع رواية (دون
كيخوته) والتي فيها كل الذي سبق وأن ذكرته. حاولت فيها أيضاً أن أجعل قارئها يمر
بأكثر قدر ممكن من الانفعالات وحالات الشعور الإنساني كالحزن والفرح والخوف والرغبة
والرفض والمتعة والمعرفة الواضحة والغموض والحيرة والحب والكره واليأس والأمل.. بل
وحتى الملل وغيرها. هذا بعض ما حاولته من خلال وعبر (ذئبة الحب والكتب) وأعتقد
بأنه قد وصل إلى المتلقي بشكل ما.
*العقد الأخير شهد صدور عدد كبير من الروايات لكتّاب عراقيين، هل صرنا عند
حركية في المشهد الابداعي تتعلق بكونه اشاعة لمفهوم (عصر الرواية)، أو ان الرواية
(اصبحت ديوان العرب) وقلة الاهتمام بالخطاب الروائي وتراجع الاهتمام بالشعر.. ماذا
تقول؟
ـــ هذا
الحراك هو ليس ظاهرة عراقية أو عربية خاصة وإنما هو ظاهرة عالمية، وذلك لأسباب
تتعلق بتحولات طبيعة سوق الكتاب العالمي وبغياب كتب الطروحات الفكرية الجديدة
والفلسفة والايديلوجيات، فجاءت الرواية لتسد هذا الفراغ وسط حاجة الناس إلى تلمس
رؤية معينة للعالم وبلورة فهم عنه. أنا
سعيد بتنشيط هذه الظاهرة العالمية للانتاج الروائي العراقي، وآمل أن يستمر
ويتضاعف، فأن يشتغل وينشغل الناس بما هو ثقافي أدبي فني جمالي إنساني قراءة
وكتابة، أفضل مما ينشغلوا بميادين أخرى تعبئ الشباب والجماعات دينياً وعرقياً
وطائفياً وحزبياً وغيرها من تلك الميادين التي تحث على كراهية الآخر المختلف وعلى
العنف والأنانية. أما عن الشِعر، ففي رأيي أنه لم ولن يتراجع لأنه هو روح الأدب، وما
يسمى بأزمة الشعر هو اصطلاح سوق تجاري.. فان تكون هناك أزمة في بيع الشعر لا يعني
أبداً أن هناك أزمة في الشعر نفسه، والشعر قد رافق الإنسان منذ أن عرف الانسان
الكلام وسيبقى يرافقه إلى الأبد.
*ماهي الأعمال الروائية العراقية التي وقفت عندها؟
ـــ أغلب الأعمال العراقية التي قرأتها وقفتُ عندها، وقفة معرفة أكثر منها
وقفة تقييم، فلست أنا من يقيمها، وإنما كون ذلك جزء أساسي من متابعتي ووجوب معرفتي
بثقافة بلدي ونتاجها، كذلك قدمت الكثير من المحاضرات عن الأدب العراقي والرواية
العراقية في أكثر من بلد، وترجمت وكتبت ونشرت بالاسبانية عن الشعر والمسرح
العراقي. بشكل عام ودون ذكر أسماء لأن القائمة تطول، لحسن الحظ، أستطيع القول بكل
ثقة، أن الرواية العراقية قد قطعت شوطاً هائلاً خلال عقود قليلة، وكثيرة هي الأعمال
التي أنتجتها بجودة لا تقل عن أي عمل عالمي آخر. لدينا مبدعين من مختلف التجارب والأجيال.
بحيث صار لدينا إرث روائي معتبر لا يقل عما هو في أي بلد آخر، هذا على الرغم من كل
الظروف القاهرة والصعوبات المريرة التي مر ولا زال يمر بها الشعب والمبدع العراقي،
والظلم الذي وقع عليه، سواء في حياته الشخصية وأمانه وحريته أو سواء فيما يتعلق
بنتاجه من حيث غياب المؤسسة الراعية والافتقار للاستقرار في النشر والتوزيع.
*هل أضافت
اليك الترجمة من الاسبانية فيما يتعلق بالكتابة؟؟
ـــ نعم، لقد أضافت لي الكثير، لأن الترجمة هي إعادة كتابة، ويقيناً أن في
الإعادة إفادة كما يقال، إضافة إلى أن الترجمة هي أكثر أنواع القراءات تأنياً، مما
يجعلك تقف وتتفحص وتفكر في كل عبارة تقرأها، وهذا الأمر يعلمك كثيراً من حيث اللغة
والتقنية والبناء والمحمولات الفكرية والجمالية في كل جزئي تفصيلي في النص ومن ثم
في النص ككل متكامل. وبحكم أن محبتي الأكبر هي للشعر من بين مختلف الأجناس الأدبية
فإن أكثر ما ترجمته هو الشعر ومن هذا تعلمت الكثير وازدادت حساسيتي تجاه الكلمات،
بحيث أنه صارت حتى النصوص الشعرية التي أكتبها تبدو مترجَمة، وهذا أمر يسرني ولا
يزعجني، لأنه ينطبق وما أريد فعله، وهو أن أحاول كتابة شعراً بلا لغة شِعرية.
*إصدارات:
- هدية القرن القادم، قصص
- البحث عن قلبٍ حيّ،
مسرحيات
-أوراق بعيدة عن دجلة، قصص.
- الفَتيت المُبَعثَـر،
رواية.
- ليالي القصف السعيدة،
كولاج سردي وقصص.
- كلنا أرامل الأجوبة، شعر .
- تمر الأصابع، رواية .
- نائمة بين الجنود، شعر
- برتقالات بغداد وحب صيني،
قصص
- حدائق الرئيس، رواية
- خسارة رابحة، شعر
- ذئبة الحب والكتب، رواية
*تَرجَمَة:
ـ تَرجَمَ العديد من الكتب الأدبية من اللغة الإسبانية إلى اللغة
العربية، ومنها:
ـ مجموعة (المسرحيات القصيرة) لميغيل دي ثربانتس. الأردن 2001.
ـ مختارات من الشعر الإسباني في
العصر الذهبي. عمان ـ مدريد 2002
ـ مختارات من القصة الإسبانية في
العصر الذهبي. دمشق 2003.
ـ مسرحية (فوينته أوبيخونا) للوبه دي بيغا. عمان ـ مدريد 2002.
ـ دراما شعرية (طالب سالامانكا) لخوسيه دي إسبرونثيدا. عمان ـ مدريد 2002.
ـ (واقع الرواية في العالم المعاصر.. شهادات
وقضايا). الإمارات
العربية 2003.
ـ (كاتدرائيات مائية) رواية لخوان ماسانا. مدريد
2005.
ـ (صلاح نيازي وأغاني للشعوب التي بلا
حمَام) شعر لآنا خوليا
غوناليث، مدريد 2007.
ـ (مختصر تاريخ الأدب الإسباني.. من العصر
الوسيط وحتى نهاية القرن العشرين) دراسة (ترجمة مشتركة)، دمشق 2002.
ـ (مائة قصيدة كولومبية). دار المدى 2014.
ـ (الأدب الإسباني
في عصره الذهبي). دار المدى 2015._____
نشر في صحيفة (المدى) العدد 3682 بتاريخ
27/6/2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق