الكتّاب العرب في المهجر: كيف تؤثر الغربة بالأدب؟
بين مأزق اللغة... والبعد الجغرافي
القاهرة ـ «القدس العربي» من أحمد مجدي همام:
ليس هناك مثال يمكن أن نستشهد به على أهمية وتأثير البيئة في المنتَج الأدبي مثل
الشاعر العباسي علي بن الجهم (803 ـ 863)، الذي امتدح الخليفة العباسي المتوكّل
قائلاً: «أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قرع الخطوب/ أنت كالدلو لا عدمناك
دلواً/ من كبار الدلا كثير الذنوب». هذه الأبيات البدوية الجافّة التي تمتدح
المتوكّل الذي استشعر الموهبة في الشاعر البدوي، فأنزله في دار قريب من الجسر يطل
على دجلة، له بستان وأشجار، بهدف أن تهذّب المدينة لغته، وترهف حواسه، وتصقل موهبته.
وقد كان، إذ استدعاه المتوكّل بعد شهور من انتقاله إلى بغداد، وطلب منه أن ينشده،
فأنشد علي بن الجهم قصيدته الأشهر «عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من
حيث أدري ولا أدري». يقيم
الكثير من الكتّاب العرب في الغرب، متوزعين على الخريطة بين أوروبا وأمريكا
الشمالية وأستراليا، وقلّة محدودة في أمريكا الجنوبية. يكتب هؤلاء باللغة العربية،
التي حملوها معهم إلى هناك، لكن، كيف سيكون تأثير البيئة والثقافة الجديدة على
حياتهم، وبالتالي على كتاباتهم؟ وكيف يتصرّفون إزاء معضلة اللغة، لغة بلد المهجر،
التي تزاحم العربية يومياً، داخل رؤوسهم، وهل يسبب التباعد الجغرافي بين الكتّاب
العرب في الغرب وأوطانهم في ابتعاد ما عن روح البلد الأم ومزاجها وقضاياها،
وبالتالي يحدث نوع من الانفصال بين القارئ العربي والكاتب المهاجر؟... "القدس العربي" تخصص المساحة التالية
لنشر شهادات عن «المهجر والأدب» لخمسة من الكتّاب العرب المقيمين في الغرب... ومنهم، محسن الرملي، كاتب عراقي مقيم في إسبانيا.
ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة بين لغتين
محسن
الرملي: العربية هي لغتي الأم والأب والابن
وروح تعبيري عن نفسي
بعد أكثر من عشرين عاماً من الهجرة، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي
رافقتها، أقول بأنها كانت إيجابية وأفادتني بكل المعاني، بل أنني الآن لا أستطيع
تخيل نفسي وشخصيتي وأفكاري وحياتي وطبيعة كتاباتي في ما لو بقيت في بلدي، هذا على
افتراض أنني كنت سأنجو من كل الكوارث التي حلت ولا زالت تعصف بالعراق. لقد منحتني
إسبانيا أشياء أساسية وهي الحرية والأمان والشعور بقيمة كرامتي كإنسان، وهذه أمور
لم أكن أعرفها ولم أعشها في العراق، والتي بدونها يبدو لي من المستحيل أنني كنت
سأكتب نصاً حقيقياً كما أريد فعلاً، لقد أتاحت لي الهجرة الانفتاح أكثر ومعرفة
الآخر المختلف على حقيقته وليس كما كنت أعرفه من خلال قراءاتي للترجمات، وفي رأيي
أن أحدنا لن يعرف نفسه أفضل إلا من خلال الآخر المختلف. صرت أرى نفسي وأرى العراق
والأدب بشكل أفضل وأوضح. أما عن اللغة فتبقى العربية هي لغتي الأم والأب والابن وروح تعبيري
عن نفسي، ولم أنقطع عنها قراءة وكتابة وحديثاً أبداً، كما أنه ليست هناك مشكلة
كبيرة في العيش بلغتين، فأولادنا يتحدثون أكثر من لغة، بل أرى من الضروري جداً على
أي كاتب وكل إنسان أن يحاول تعلم لغة أخرى وسيرى الفرق شاسعاً في طبيعة فهمه
للأمور وثراء معرفته. فبعد أن كنت في بداياتي، مثل كثيرين، أتصور بأن اللغة هي
الأدب أو غايته وأنها شبه مقدسة، صرت أراها مجرد أداة للتفكير والتعبير، وليست
لديّ أي مشكلة في أن أكتب باللغة الثانية، كما فعلت سابقاً، ولكن صرت أقيس ذلك من
حيث عمليته وفائدته، فلو كان المقابل مجزياً والمناسبة تتطلب الكتابة بلغة أكثر من
غيرها سأفعل ذلك، لكنني وجدت أن الكتابة بالعربية كانت أفضل لي من حيث المردود،
ومن حيث توفير الوقت بحكم معرفتي بها أكثر. الأدب الجيد سيفرض نفسه وسيصل إلى
مختلف القراء بغض النظر عن اللغة التي كتب بها. أما على صعيد الكتابة والأسلوب فمعرفة لغة أخرى كالإسبانية، التي تعد
الثانية في العالم، قد منحني فرصة الاطلاع على الكثير جداً مما كنت لن أطلع عليه
لو اكتفيت بانتظار ترجمته إلى العربية، ومعرفة اللغة هذه والعيش فيها قراءة وكتابة
وحديثاً يومياً والترجمة، من المؤكد أن تكون له انعكاساته في أسلوبي حتى من حيث
تراكيب الجُمل وطبيعة الوصف الداخلي والخارجي للشخصيات ومجمل تقنيات بناء النص
السردي. وككاتب يجعله البعد يرى
الأمور بشكل مختلف وبحساسية مختلفة، لأنه يراها من زاوية ومكان مختلف وعن مسافة،
الأمر الذي يزيد من سعة رؤيته لها مما يمكنه من الإضافة والمساهمة مع الذين في
الداخل من أجل وصف وتشخيص أفضل لتلك الهموم وبالتالي إثراء طروحات معالجتها، هذا
عدا ما للأديب المغترب من دور يساهم في إيصال قضايا أهله وأصوات الضحايا الذين في
الداخل وكذلك في نقل بعض تجارب الشعوب الأخرى إليهم.
*نشر في صحيفة (القدس العربي) العدد 8494 بتاريخ 13/6/2016م. http://www.alquds.co.uk/?p=549384
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق