المشهد الدرامي
والتقنيات الحسيّة
لرواية "الفَتيت
المُبعثَر"
للكاتب الدكتور محسن
الرّملي
قراءة نقدية بقلم
النّاقد العراقي إسماعيل
آلرجب
1ــ العنوان ودلالته:
إن اختيار العنوان
"فتيت مُبعثَر" يحمل دلالات متعددة تعكس الواقع المعقد الذي يعيشه الشعب
العراقي. الفتيت، كأكلة شعبية في الأرياف العراقية، يرمز إلى بساطة الحياة اليومية
والتواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن المُبعثَر يشير إلى التشتت الذي تعاني منه
العائلات العراقية بسبب الظروف القاسية التي تعاني منها. هذا التباين بين البساطة
والثقافة اليومية من جهة، والفوضى والانقسام من جهة أخرى، يُبرز تناقض الحياة
العراقية في زمن الحرب.
2ــ الشخصيات والعائلة:
تتجسد مأساة الشعب
العراقي من خلال تجربة عائلة الرملي، التي تمثل نموذجًا مصغرًا للوطن. الشخصيات
المتعددة تتسم بالثراء العاطفي والتعقيد، حيث تتنوع مواقفهم وأفكارهم تجاه الحرب
والنظام السياسي. كل شخصية تعكس جانبًا من جوانب الصراع العراقي، سواء من خلال دعم
النظام أو معارضته، مما يعكس الصراعات الفكرية والسياسية التي كانت قائمة في
العراق.
3ــ النظام السياسي وتأثيره:
الرواية تعكس بشكل مباشر
تأثير النظام السياسي السابق، وتحديدًا الدكتاتورية التي فرضت قيودًا على الحرية
الفردية وحقوق الإنسان. من خلال سرد الأحداث، يسلط الكاتب الضوء على أثر النظام
السّياسي على حياة الناس وكيف أن الحرب لم تُدمر فقط الأرواح بل حتى الروابط الأسرية.
ومظاهر التشتت في العائلة عبر القتل، والتهجير، والتفرّق، مما يعكس الآثار النفسية
التي تتركها الحروب على الأفراد والمجتمعات.
4ــ الصراع والاختلافات:
تتناول الرواية أيضًا
النزاعات الأيديولوجية التي نشأت بين القوى السياسية المختلفة في المنطقة، مثل حزب
البعث العراقي ذو الفكر القومي والنظام الإيراني الطائفي بعد الثورة على الشّاه.
تلك الحرب الّتي تعكس تردد بعض أفراد عائلة الرملي في الانخراط في الجيش العراقي
والدفاع عن العراق في تلك الحرب، موقف الحرب الّذي يُظهر تباين المعتقدات
والأيديولوجيات. هذا التردد يسلط الضوء على قضايا الإيمان بعدالة تلك الحرب، ودور
الثقافة والمعرفة في تشكيل هذه المواقف.
5ــ الصورة الكلية
للواقع العراقي:
يمكن القول إن الرواية
تمثل شهادة قوية لما مر به الشعب العراقي من تجارب قاسية. الكتابة هنا لا تقتصر
على تسجيل الأحداث بل تتجاوز ذلك لتعرض الأبعاد النفسية والاجتماعية للتجربة
العراقية. يُظهر الروائي شخصياته في أوضاع مأسوية، مما يزيد من تأثير الأحداث على
القارئ ويجعله يتفاعل مع المعاناة والألم.
6ــ الفن السردي:
يمتاز أسلوب الكاتب
بالرصد الدقيق لحركة الشخصيات وتطوراتها النفسية. استخدامه للغة البسيطة والمباشرة
يسهل من فهم النص، لكنه في نفس الوقت يحمل عمقًا عاطفيًا ويصلح كوسيلة لنقل المعنى
العميق الذي يتجاوز الكلمات. الحوار بين الشخصيات يُظهر الصراعات الداخلية بشكل
واضح، مما يمنح القارئ فرصة للتعرف على دوافعهم وتبريراتهم.
7ــ الرأي النقدي:
أولاً. رواية "فتيت
مبعثر" تعكس بعمق تجربة الشعب العراقي في ظل الظروف القاسية للحرب
والدكتاتورية. عبر تقديم نماذج حقيقية ومؤثرة لشخصيات تعيش ألم الفقد والتشتت،
يُظهر الكاتب التأثير المدمر للسياسة على الحياة الشخصية. إن قراءة الرواية ليست
مجرد تجربة أدبية، بل هي فرصة لفهم عميق لما عاشه المجتمع العراقي وتقديم صوت لمن
عانوا في صمت. هذه الرواية تستحق التأمل والتأمل في كل ما تحمله من معانٍ ودلالات.
ثانياً. في رواية
"فتيت مبعثر"، يمكننا اعتبار المعاناة الإنسانية للشخصيات ليست محصورة
فقط في حرب الثمان سنوات، وإنما تمتد إلى فترات سابقة ولاحقة أيضًا. لنحلل هذا
الأمر من زوايا متعددة:
أ. المعاناة قبل الحرب:
حيث أنّ تاريخ العراق مليء بالصراعات السياسية والاجتماعية، حيث شهدت البلاد فترات
من القمع والاستبداد قبل اندلاع حرب الثمان سنوات. وأن النظام الحاكم في العراق
كبقيّة الأنظمة السياسية المتشددة والتي تفرض قيودًا على الحريات الشخصية وتعاقب
على المعارضة.
وأثر العامل الاقتصادي
على نوعية حياة الأفراد.
ب. المعاناة أثناء الحرب: الحرب هي ذروة المعاناة
حيث تتجلى الفواجع بشكل واضح في القتل والتهجير والتشريد وأدت إلى خسائر فادحة في
الأرواح. وتفكك الأسر نتيجة الحرب والتي
تحمل عبء الفقد والحرمان.
ت. المعاناة بعد الحرب: بعد انتهاء حرب الثمان
سنوات وسقوط النظام الديكتاتوري، قد يتوهم البعض أن الحياة أصبحت خالية من
المعاناة. لكن الحقيقة هي أن المعاناة الإنسانية استمرت بآثارها النفسية فلايزال
الكثير من الأشخاص يحملون آثار الحرب في ذاكرتهم، مما يؤثر على حياتهم اليومية.
- كما أنّ العراق ظل يعاني من عدم الاستقرار،
والصراعات الداخلية بين الفصائل والأحزاب المتنازعة التي تتسبب في معاناة جديدة.
- وكذلك فإنّ انتشار الفساد والفقر والبطالة
والتحديات الاقتصادية والسياسية بعد الحرب أضرت بجوانب الحياة الأساسية. عليه، يمكن القول إن
المعاناة الإنسانية ليست مرتبطة فقط بزمن حرب الثمان سنوات، بل هي جزء من نسيج
الحياة العراقية عبر العصور.
- "فتيت مبعثر" تجسد هذه الحقيقة
من خلال تقديم صورة معقدة عن الفرد العراقي الذي يعاني من الظروف القاسية في جميع
مراحل الحياة.
8ــ التحليل النقدي في
بنية وتقنيات الرواية:
1ــ الكناية:
تُستخدم الكناية في
الأدب للإشارة إلى معانٍ غير مباشرة أو للتعبير عن أفكار معقدة دون التصريح بها
بشكل واضح. في "فتيت مبعثر"، يمكن أن نجد الرملي يستخدم الكناية للإشارة
إلى:
أولاً. غموض المشاعر:
على سبيل المثال، قد يستخدم الرملي تعبيرات كناية لوصف الألم النفسي الذي يشعر به
الأبطال كنوع من الغموض أو الضبابية في مشاعرهم، مما يجعل القارئ يتجاوب مع تعقيد
الوجع.
ثانياً. الوطن المنكوب:
من خلال تقديم رموز تدل على العراق المعذب، مثل البنية التحتية المدمرة أو النفوس
المشتتة، فإن هذه الكناية تنقل مشاعر الفقد والتشتت.
2ــ الاستعارة:
الاستعارة هي استخدام
كلمات أو عبارات تشير إلى شيء آخر، مما يوفر رؤية جديدة للموضوع. في الرواية،
تُستخدم الاستعارة كوسيلة:
أولا. للتعبير عن الألم:
قد يستعير الرملي صورًا من الطبيعة أو الحياة اليومية ليعكس مشاعر الحزن واليأس.
مثلاً، وصفه للمطر كرمز للبكاء أو الفقد يُستخدم ليعكس الكآبة المستمرة في حياة
الشخصيات.
ثانياً. تجسيد الصراع:
في تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات، يمكن أن يستخدم الرملي استعارات تتعلق
بالمعارك أو الحروب، مما يقارب بين الصراع النفسي والصراع الخارجي.
3ــ التصوير الفني:
يتميّز الرملي بقدرته
على رسم لوحات فنية عبر الكلمات، مما يجعل المشاهد الإنسانية حية وتُشعر القارئ
بعمق التجربة:
أولاً. وصف المشهد:
يتضمن تصويره للأماكن والأحداث أبعادًا عاطفية، مثل وصفه للاعتقال أو الاعدام
الميداني أو القبور بلغة غنية تعكس الفوضى والمأساة.
ثانياً. الحركة والتوتر:
من خلال وصف حركة الشخصيات وتفاعلهم مع المحيط، يتمكن القارئ من الإحساس بالضغط
النفسي الذي يعانونه، ويعيش التجربة بأبعادها الكاملة.
4ــ الدرامية والتراجيديا:
من خلال هذه الأدوات،
يُظهر الرملي بشكل ملحوظ طبيعة الحياة التراجيدية التي يعيشها الأبطال:
أولاً. التأثير المزدوج:
يُظهر كيف تؤثر الظروف الخارجية (الحرب) على النفس الداخلية (الصحة النفسية
والعلاقات).
ثانياً. التوتر والصراع
يمثلان دراما تلك الشخصيات بشكل واقعي يعكس معاناتهم. ان اسلوب تناول الرملي
للحكاية يمثّل البعد الإنساني الأوسع ويجعل من الرواية تجسيدًا لحياة الكثيرين في
ظل الحروب والظروف القاسية.
9ــ وأخيراً:
تعتبر استخدامات الرملي للكناية،
والاستعارة، والتصوير الفني عناصر أساسية في بناء الرواية التي تعكس عمق المعاناة
الإنسانية. هذه الأدوات تُضفي طابعًا دراميًا يُسلط الضوء على تراجيديا الحياة،
مما يجعل القارئ يُعيد التفكير في الأبعاد النفسية والوجودية لتجارب الشخصيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إسماعيل آل رجب:
كاتب وناقد عراقي، المشرف على نادي القصة القصيرة العراقي والرابطة الأدبية، من
أعماله: وادي الضباع.
*نشرت في صفحة (المنار
الثقافية الدولية)، بتاريخ 22/4/2025م
https://www.facebook.com/photo/?fbid=2420671421625294&set=g.284674609100259
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق