فُحوصات ثقافية
أبو الفنون يحتاج إلى
أبنائه
بقلم: الدكتور محسن
الرملي
يشكو المسرح، أبو الفنون، منذ أعوام، من تناقص
المشاهدين، من عزوف الجمهور أو حتى إعراضه تماماً عن الذهاب إلى المسارح، وهنا،
أرى بأن يعود المسرح إلى ما كان يمارسه في بداياته الأولى، أي أن يذهب هو إلى
الجمهور، أن تعاود الفِرق المسرحية خروجها من العواصم إلى المدن الأخرى والتجوال
في البلدات الصغيرة والقرى النائية، الذهاب إلى الجامعات والمدارس والمصانع
والمؤسسات، الخروج إلى الشوارع والساحات والأسواق وإلى حيث يوجد الناس. ها هو
الشِعر يحاول ذلك، فبعد أن أعلن البعض عن موته، وأولهم الناشرون طبعاً ـــ يقابلهم
المنتجون في المسرح ـــ خرج الشعراء بحثاً عمن يسمعهم، وعبر كل الوسائل، كما نشهد
ظاهرة آلاف المهرجانات الشعرية في العالم، بحيث أشك بأن أي عصر آخر، بما فيها عصور
ازدهار الشِعر، قد كان لها كل هذا العدد الهائل من المهرجات والملتقيات الشعرية،
هذا عدا نشاطات المقاهي الثقافية والمكتبات وأمسيات القراءات الشعرية بكثافة تستحق
الإعجاب والتقدير، فالشعر على هذا النحو، يقاوم الدعوات بموته.. أو الدعاء عليه
بالموت، وهو وإن لم يحل الأزمة، لكن محاولاته هذه، بحد ذاتها، إيجابية ورائعة،
أبقته حيّاً.
يشخص المسرحيون بأن الشاشات هي التي اختطفت جمهورهم
منهم، ابتداءً بشاشة التلفزيون ثم السينما وصولاً إلى شاشات الكمبيوتر والهاتف،
وهذا تشخيص واقعي، أرى أن عليهم الانطلاق منه تحديداً، لأن التشخيص هو نصف العلاج
كما يقول الأطباء، فهذه الشاشات قد زادت من عزلة الإنسان وجعلت علاقته المباشرة،
الحيّة والحميمة بالإنسان الآخر أشبه بالمقطوعة، مع أن اسمها وسائل اتصال وتواصل،
وهي تكرس كل يوم، انفصالنا عن الحي والدافئ الإنساني، لتقصر تواصلنا عبر الأسلاك
والشاشات، كل منا في حجرته، وتزيد من التعقيد في علاقاتنا وارتباكنا عند التعامل
المباشر.
لذا فهي فرصة المسرح كي يعاود استثمار إحدى أهم خصائصه
التي انطلق منها، وهي: اللقاء الحي، المباشر والحميمي بين الإنسان والإنسان، مُجسَّداً
من لحم ودم ومشاعر وتفاعل انفعالي وعاطفي وذهني ملموس، تجمعهم درجة حرارة واحدة
وتلفهم العتمة ذاتها أو يضيئهم المصباح نفسه ويجمعهم الزمان والمكان ذاته، سواء
أكان قاعة بجدران أو فضاء مفتوح، وهذا أمر تفتقر إليه علاقات الشاشات.
أرى أن على المسرح أن يستثمر هذه النقطة تحديداً، وألا
يكتفي ببضعة مهرجانات في العام، في بضع مسارح في بعض العواصم ولبضع أيام، وأغلبها
أعمال تجريبية، لا يحضرها سوى المشاركون أنفسهم، وعلى المسرح تجنب الإكثار من توظيف
التكنولوجيا، بحجة التحديث، بحيث صار يجلب الشاشات، التي نتوق للاستراحة منها، إلى
داخل المسرح نفسه، عليه التقليل من المبالغة والاغراق بالتجريب، وأن يعيد لعنصر
النص دوره الأساسي بعد أن همشه المخرجون، وأن يُكثر من تناول قضايا الناس المحلية
والعالمية اليوم، بدل تكرار سوفوكليس وأسخيلوس وشكسبير وبريخت وغيرهم، وأن يُكثر
من الكوميديا وسط هذا الحزن والبؤس المحيط بنا... على أبناء المسرح تحديداً؛ رفض
مقولة "قتل الأب"، ألا نكتفي بتكرار الشكوى من غياب الجمهور، وإنما نذهب
للبحث عنه بأنفسنا، فالذي زرته مرتين بنفسك وأحبك، سيسعى لزيارتك بنفسه في المرة
الثالثة. وببساطة، فكما يقول المثل الإسباني: "إذا لم يأتِ الجبل إلى محمد،
فليذهب محمد إلى الجبل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في ملحق مجلة (الناشر
الأسبوعي)، السنة 3 أكتوبر 2024م
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_ca97d69465474eee938f68592396bd.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق