فُحوصات ثقافية
الصُوَر والكلمات.. يَداً بيد
بقلم: الدكتور محسن الرملي
ها نحن نُنهي عطلتنا الصيفية، بحصيلة من مئات الصور التي التقطناها، والتي
سنضيفها إلى أرشيفنا الشخصي، المُتخم بآلاف الصور أصلاً. ولو سألت: لماذا كل هذا؟
سيأتيك الجواب سريعاً كبديهة: من أجل الذكريات، أو لأغراض التوثيق، أو الفن أو
لمشاركة الآخرين، أقرباء وأصدقاء ووسائل تواصل... لا بأس، فذاكراتنا فعلاً، لم تعُد
تتسع لكل هذا الكم المهول من المشاهِد والمعلومات والذكريات والتفاصيل، التي تهطل
علينا على مدار الساعة، فصرنا بحاجة للمزيد من ذاكرات الأجهزة الإلكترونية لحفظها.
يُقر الجميع بأننا نعيش في عصر الصورة، وأصبح التصوير هو أكثر
"الفنون" التي يستهلكها وينتجها الناس يومياً، مما قاد إلى كسر حواجز
شروط التصوير الفنيّة التقليدية، ولم تعُد جودة الكاميرات فارِقة كثيراً، كما في
السابق، فما أكثر اللقطات العفوية بهواتف عادية، التي حازت على شُهرة أو جوائز
دولية.
إن قضية
طغيان الصور في حياتنا اليوم، تحتاج إلى المزيد من الوقوف عندها وتأملها. وفيما
يتعلق بي ككاتب، أداة اشتغاله الأساسية، هي الكلمات. أعترف بانتصار الصور على
الكلمات، ولكن يعز عليّ الإقرار بالهزيمة.. ففي الوقت الذي تتفق فيه الغالبية، على
أن الصورة الواحدة تعادل ألف كلمة، ويزداد استخدامها، بشكل تسونامي، في الإعلام
والإعلان، لأن تأثيرها أسرع ومباشر، على مختلف مستويات التلقي، لا فرق بين مُتعلّم
وأُمي. أشك بقدرة صورة فوتوغرافية على التعويض أو التعبير عما في صورة شعرية
مصنوعة من كلمات، وتحضرني بعض الأبيات، نموذجاً، كقول المتنبي: "أَنا الَّذي
نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ"، وامرؤ
القيس: "مُكِر مُفِر مُقبل مُدبر معاً، كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ"،
والبحتري: "فحاوَلن كتمان الترحُل في الدجى، فنمّ بهن المسكُ حين
تضوعا"، وأبو تمام: "السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ، في حدّه، الحدُّ
بين الجدِّ واللعبِ"، وتميم بن مقبل: "ما أطيبَ العيشَ لو أن
الفتى حجرٌ"، والهذلي: "هجرتك حتّى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتّى قيل
ليس له صبرُ"، والسياب: "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر. عيناك حين تبسمان
تورق الكروم".
إن بضع كلمات، أو حتى كلمة واحدة، قادرة على تحريك وقلب معنى الصورة
تماماً، مثلاً: صورة لجثة مضرجة بالدماء، سيختلف النظر إليها، لو أرفقناها بكلمة،
مثل: جريمة، حُب، انتحار، قصاص، غدر، إعدام، تضحية. وصورة طفل يركض باكياً، لو
أرفقناها بكلمة، مثل: حرب، فوز، ضياع، جوع، شوق، يُتم، عودة، فَرح. إن الكلمة تستحث
التخيّل وتنشطه، فتجعل متلقيها مُشاركاً، فيما تُقيّد الصورة الخيال، فلا غرابة في
رفض ماركيز تحويل روايته (مئة عام من العزلة) إلى فلم.
ومن جهة أخرى، بالنسبة لي ككاتب، صارت الكاميرا رفيقاً لدفتر الملاحظات،
الذي اعتدتُ حمله، في الحل والترحال، لأن الصور تُعينني في القبض على التفاصيل، وتُشكّل
رافداً إضافياً إلى مصادري في جمع المواد الأولية للنص. ألجأ إلى التصوير، حين لا
أتمكن من التدوين، أو عندما أذهب قصداً إلى أماكن ستكون جزءاً من نص، إضافة إلى
اللقطات اليومية... ومن خلال أرشيف الصور، أستعيد، أثناء الكتابة، ملامح المناخات
والأحداث والشخصيات والتفاصيل، مما سيسهل عليّ وصفها أدبياً. الكتابة ذاكرة
والتصوير ذاكرة أيضاً، وعلى هذا النحو يُثري التصوير كثيراً ذاكرة الكتابة، وتُثري
الكتابة معاني الصُور وتأويلاتها، ويُستَحسن أن يسيرا يداً بيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (الناشر
الأسبوعي)، العدد 71 سبتمبر 2024م
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_5668a793963447aa932184b3db24bb.pdf