الأحد، 4 سبتمبر 2022

الإيقاع في رواية الفَتيت المُبعثَر للكاتب محسن الرملي / د.رمضان علي عبود

 

الإيقاع الروائي في رواية الفَتيت المُبعثَر

للكاتب محسن الرملي

 ــــ دراسة تحليلية ــــ 


الدكتور: رمضان علي عبود

المديرية العامة للتربية في صلاح الدين

 

ملخص البحث:

      وقع اختيارنا على الكاتب محسن الرملي ميداناً للبحث لسببين، اولهما: أهمية روايته الفتيت المبعثر عربياً وعالمياً، اذ تتميز هذه الرواية باللغة المشحونة والمحتبسة بالصراع والوجع والتكثيف الشديد من دون أن تتخلى عن حرصها على عناصرها الفنية، وقد ترجمت هذه الرواية إلى اللغة الانكليزية والاسبانية، وحازت الترجمة الانكليزية على جائزة اركنسا (Arkanasa) الأمريكية لعام 2002م، كما أنها طبعت عدة مرات في مصر والبحرين. وثانيهما: ارتكاز هذه الرواية على تقانات فنية متماسكة عملت على تشكيل علاقات منظمة إيقاعية بين عناصرها الفنية، الأحداث، الشخصيات، الأمكنة، الأزمنة، إذ يكتمل الشكل والمضمون في حالة قدرة الكاتب في تقديم علاقات دقيقة ومتواصلة بأساليب منظمة ومهندسة ذلك النسيج الداخلي لكل عناصر الرواية، لذا جاء هذا البحث ليدرس الإيقاع الروائي في هذه الرواية من حيث تحليل النصوص الروائية الخاصة به وبيان أبعادها الفنية والجمالية، والكشف عن جماليات التشكيل الإيقاعي.

       ينهض البحث على مدخل ومبحثين، تناول المدخل تحديد مفهوم الإيقاع الروائي، فيما تناول المبحث الأول دراسة إيقاع العناصر الروائية وهي: الحدث، والشخصية والفضاء. فيما تناول المبحث الثاني دراسة ايقاع اللغة في وسائل التعبير السردية، السرد، الوصف، الحوار.

 

-    Abstract

 

-     The Narrative Rhythm in Al-Ramli’s “Al-Fateetu-l-Muba’thar

-     An Analytic Study

    I have chosen Alramly’s “Al-Fateetu-l-Muba’thar” for two reasons. First, it is a famous work on both the Arabic and international levels as it is written in a language loaded with conflict and pain without being void of its narrative framework. Besides, the novel has been translated into English and Spanish and the English version got the American Arkansas Prize in 2003 and it has been published in Egypt and Bahrain. Secondly, the novel is based on an artistic coherent technique used to establish organized rhythmic relationships among such artistic figures as events, characters, settings, etc. where form and content are set in a way that reflects the author’s ability to introduce minute and incessant relationships in a systematic method used to organize the inner texture of the elements in the novel.

The study includes an introduction and two sections. The introduction deals with the definitions of the narrative rhythm. The first section accounts for the rhythm of such narrative elements as events, characters, settings, etc. Either for the second section, it is devoted to discuss the rhythm of the language used in the narrative methods of expression such as narration, description and dialogue.

-      تحديد مفهوم الإيقاع.

      ارتبطت كلمة الإيقاع أول ما عرفت بالموسيقى، ثم تطورت هذه الكلمة لتصبح متداولة في مجال الفنون التشكيلية، كما أن الإيقاع في حقيقته ظاهرة مألوفة في طبيعة الإنسان نفسه، فبين ضربات القلب انتظام، وبين النوم واليقظة انتظام وإيقاع، الإيقاع في الكون واضح بين تتابع الليل والنهار وتعاقب فصول السنة وفي نظام دوران الأرض والشمس والقمر وصلة كل بالآخر، وكذلك يتوافر الإيقاع بين اشتداد الريح وتدافع الأمواج وتكاثر السحب والأمطار.

      والإيقاع مصطلح أصله يوناني، وهو يعني التدفق والجريان، وهو صفة مشتركة بين الفنون جميعاً، وتبدو واضحة في الموسيقى والشعر والنثر ([1]). يعد الإيقاع عنصراً مهماً من عناصر التصميم الروائي ([2])، فهو الصوت الداخلي لمعمار الرواية ([3]). اذ يضبط الانسجام والترتيب الداخلي لهندسة الرواية وتواصلاتها وتوافقاتها، ويضفي عليها الحيوية وروح الحركة والنظام.

      يعمل الإيقاع على تشكيل علاقات منظمة إيقاعية ترابطية بين الأمكنة والأزمنة والأحداث والشخصيات، إذ يرصد حركتها وتغيرها وبناءها ومدلولاتها ويرسم خطوطها الإيقاعية المنظمة فيما بينها التي تشكل بناء الرواية وهندستها.

     إن الإيقاع الروائي المنظم المحكم والدقيق يشكل بناء فنياً مقنعاً ومتماسكاً في شكل العمل الفني وفي مضمونه. وعلى أساسه تصنف الرواية الجيدة من الرديئة فالرواية الرديئة تفتقد عناصر الإيقاع فيها، ولا تستطيع ضبط بنيتها الإيقاعية، ولهذا يرى (البيرس) إن العمل الروائي الرديء "قد يشكل وثيقة من نوع ما، ولكنه لا يشكل رواية ما لم يجد إيقاعا أو غناءً يصنعان منه شيئا آخر"([4]). لأن الإيقاع الروائي يضبط حركة الأحداث، والشخصيات، والأمكنة، والأزمنة ويكسبها معنى جديداً مقصوداً يوظف لغايات فنية أو نفسية تخدم العمل الروائي برمته.

     فالإيقاع يعنى بوضع تلك العناصر من حيث تشكلها ونظامها، أبعادها، تحولها، فهو نسيج من التنظيم والترتيب الدقيق لكل عناصر الرواية الذي يربط كل جزيئاتها بخيوط متينة خفية أو ظاهرة ذلك النسج يشكل معمار الرواية الفني والمضموني.

 

المبحث الأول

إيقاع عناصر البناء الروائي

   يبرز إيقاع الرواية من عناصر بنائها وهذه العناصر هي ([5]):

1- الأحداث من حيث ترتيب وقائعها وتنظيمها على وفق نسق معين مع البناء الروائي.

 2- الشخصيات من حيث رسم عالميها الداخلي والخارجي على وفق مبدأ التأثر والتأثير.

3- المكان والزمان وتجليات حركة الشخصية فيها وبما ينسجم مع بناء العام للرواية.


1- الحدث.

يمثل الحدث عنصراً مهما من عناصر الرواية وأساس تكوينها فهو "لازم فيها لأنها لا تقوم إلا به"([6])، والحدث مجموعة من الوقائع المنتظمة أو المتناثرة في الزمان، وتكتسب تلك الوقائع خصوصيتها من خلال تواليها في الزمان على وفق نظام معين. وتؤدي الحركة في الحدث أهمية كبيرة في نموه وتطوره مما يساعد على ارتباط الرواية وانتظامها ([7] على هيئة أمواج تتحرك بنظام خاص تؤدي إلى تأثير مباشر يشعر القارئ معه بان الأحداث تسير على وفق قانون مرسوم، وهذا التغير التموّجي هو الإيقاع في التنوع والتغير والتعاقب([8]).

       نلحظ إيقاع الحدث عبر أفعال شخصية الحاج عجيل وكلامه الوطني وهو ينصح ويوجه رجال مجلس قهوة القرية بصوت خطابي ونبرة تعصب عند تداولهم حديث حول تصريح أجنبي، يشير إلى ضرورة ترسيم الحدود والتقسيم... وما شابه ذلك، على وفق ما يلي([9]).

-         تصدره مجلس قوة القرية.

-         استل ذراعه من عباءته.

-         وقف على ركبتيه بصلابة

-         زمجر على نحو اخرس رجال المجلس.

-         انتصبت إصبعاه علامة النصر عند حديثه.

-         وصوله إلى ذروة الحماسة، وارتفع صوته عالياً حتى فرت العصافير التي كانت تلقط الحب قرب المجلس.

-         تخلل كلامه عبارة.. أنا أعبد وطني عدة مرات.

        يدل حديث النصح والتوجيه على ما حملته الشخصية من عمق انتماء وحب وطني بالفطرة، وفي تعصبها تجاه الوطن وانسجام رجال مجلس قهوة القرية معه، إذ إن كلامه المعسول حيناً والزاجر حيناً آخر صار بمثابة خطابة وطنية، وأصبحت كلماته كالشواظ من نار عملت على تحريك أفئدة رجال المجلس للقضاء على هواجسهم في التردد والخوف والإيمان بالأكاذيب وأخبار الصحف المزيفة والإعلام المعادي، والعمل على ثقافة التحدي والتصدي لكل ما هو زائف ومغرض ضد الوطن، فهو يحاول ما استطاع أن يوحد صفوف رجال مجلس القرية البسطاء وان يوعيهم ويرفع حسهم الوطني، ومن خلالهم عوائلهم وثم سكان القرية جميعاً، وان يحشد الطاقات لكل ما هو طارئ وعمل مقيت قد يصيب القرية \ الوطن. فهو يرفض الاستماع والإيمان بالأخبار المهددة لأمن الوطن، مؤكدا لهم بان حب الوطن واجب شرعي وأخلاقي على كل مواطن، مذكراً رجال المجلس بتاريخ والده الوطني الذي ظل يتحسر عليه طيلة حياته، ويستمد منه العزم والوطنية عندما تمكن من طعن ضابط انكليزي.

       ويتضح إيقاع الحدث بأفعال قاسم الفنان وسعيه الحثيث لإرضاء والده الذي وصفه (ليس وطنياً) بعدما هرب من الجيش، وعدم موافقته رسم صورة للقائد على وفق ما يأتي([10]).:

-         العودة من الوالد بعدما استدعاه إلى حجرة الرسم والبقاء فيها من دون طعام.

-         التفكير بكيفية إقناع الوالد ان حب الوطن ليس مقروناً بحب القائد وهو يحب وطنه وان يرسم له خارطة الوطن بدلاً من صورة القائد.

-         البدء برسم الصورة، واختيار الألوان المعبرة.

-         الشعور بالحزن حد البكاء وهو يرسم النهرين ويتماوج مع تعرجاتهما.

-         ضم لوحة الخارطة على صدره وحملها للوالد.

        يأتي إيقاع الحدث عبر أفعال ومشاعر قاسم الفنان، الذي أبى أن يبقى اتهام والده لاصقاً به بأنه ليس وطنياً، أو انه يخيب رجاء والده في طلب لرسم صورة للقائد، ولكي يتخلص من هذين الذنبين اللذين لحقا به، وليداري خاطر  والده اخذ يفكر برسم خارطة للوطن العراق محاولاً إقناع والده أن حب الوطن لا علاقة له بالقائد، والوطن بيت الجميع وهو الخيمة المظلة على أبناء الشعب كافة، والوطن باق، والقادة والحكام تزول وتتبدل، وانه يحب وطنه اكبر من حبه لنفسه، بل الوطن عنده في صميم الروح والوجدان، ولهذا كرس جهوده الفنية لرسم خارطة لهذا الوطن العراق حباً واعتزازاً به وبالانتماء له، فجاءت الخارطة التي رسمها لوحة فنية معبرة، خارطة حمراء، مع نهرين أبيضين يجريان عبر قلب اخضر كبير، وهي لوحة تكشف عن انتمائه المصيري لوطنه، رغم مرارة الحياة فيه، فاختار هذه الألوان بالذات حسب رؤيته الفنية والفكرية، فاللون الأحمر رمز لكثرة الدماء التي نزفها هذا الوطن لأسباب شتى وظروف مختلفة، وبياض دجلة والفرات هو رمز لبياض ونقاء قلوب أبنائه، فهم منبع الطيب والأصالة والسخاء، فيما رمز القلب الأخضر الكبير إلى عظمة الحب المكنون لهذا الوطن، إلا ان أبعاد الألوان وما قصده فيها رغم هي ألوان العلم العراقي باستثناء اللون الأسود ظلت شاغلة باله فيما إذا سأله الوالد عن سبب اختياره لها، وهو في طريقه إليه حاملاً الخارطة لتسليمها له، إلا انه استقر في ذهنه جواب مبسط يبعده عن متاهة قد تزعج الوالد، وهو ما قاله للوالد مباشرة حين أعطاه اللوحة وقبل أن يسأله إن هذه الألوان تمنح اللوحة إحساسا فنياً وجمالياً. فقد سعى قاسم جهد إمكانه لنيل رضا والده وإقناعه بأنه يحب وطنه، وانه ينفذ أي طلب يأمره به.

       ويتضح إيقاع الحدث بأفعال قاسم من سعيه ومتابعته لرؤية ابنة عمه حسيبة داخل حوش أهلها على وفق ما يأتي([11]):

-         خرج فجراً باتجاه المرحاض وهو يتلفت خلف السور الواطئ فأبصر حسيبة وهي تهرول باتجاه مرحاضهم.

-         شده منظرها وأثار إحساسه وهي تخرج بقميص نومها معدوم الأكمام.

-         صعقه ذراعها العارية وبياض لحمها.

-         أطال النظر نحو المرحاض الذي تخفت فيه، وهو يتخيل لحمها الأبيض، وذراعها الأبيض، وارتياحها من تدفق المحبوس.

-         الانتظار حتى خروجها واندفاعها بسرعة إلى البيت فأثاره تطاير شعرها، وارتجاف صدرها، والتماع ذراعها.

-         بقي يدور في مكانه حتى طلوع الشمس فذهب إلى شاطئ النهر...

        يأتي إيقاع الحدث في أفعال وتفكير قاسم بابنة عمه حسيبة، وهو يترصد لرؤيتها في حوش أهلها المجاور له، فأبصرها فجراً من خلف السور الواطئ الفاصل بينهما وهي تتوجه إلى مرحاض بيتهم بملابس النوم شبه المفضوحة، فتثار مشاعره وأحاسيسه وينشد نحوها لاسيما بعدما صعقه رؤية تجسيم مفاتنها، وبياض ذراعها العاري، الذي سلب منه عالمه الداخلي، مما دعاه إلى التوجه إلى شاطئ النهر، ذلك المكان الذي يجد فيه راحته وطمأنينته، ويمنحه مطلق الحرية للتفكير، والتأمل، والتخيل لحسنه وبياض جسدها الذي راح يقيسه على بياض ذراعها، بحسب صورها التي تختزنها ذاكرته لها، ثم اخذ يلوم نفسه بسبب عدم الانتباه لها من ذي قبل على الرغم مما يكتنزه جسدها من بياض وأنوثة كبيرة. فاستعاد صورتها آلاف المرات ولم يدر كيف انقضى نهاره من دون إفطار ولا غداء حتى ان حل المساء، إلا ان نهاره كان نهاراً ابيض مليئاً بالتأمل والتخيل لصور حسنة، والتفكير الجدي بالسعي للزواج منها.


2- الشخصية.

         تعد الشخصية في العمل الروائي، ركنا مهما وواحدا من العناصر الأساسية التي تتجلى عبر أفعالها الأحداث، وتتضح الأفكار وتخلق في شبكة علاقاتها حياة خاصة تكون هنا مادة العمل فهي" ركن أساسي من أركان القصة وهي العنصر الفعال الذي يساهم في صنع الحدث، ويؤثر فيه، ويتأثر به"([12]). فالشخصية مقوم أساسي في الرواية، والقارئ يتلمس أثر سيادة الشخصية بصورة مختلفة، فكثيراً ما تكون الشخصية هي العنصر الأهم في الروية، لأنها تقع في صميم الوجود الروائي وهي أشبه ما تكون بقلب السرد النابض وتتقاطع عندها العناصر الشكلية كافة بما فيها الإحداثيات الزمانية والمكانية ([13]). ويتشكل الإيقاع الروائي من حركة الشخوص بالأحداث في المكان، إذ ان الحركة عنصر جوهري في الظواهر جميعا ([14]). ويمكن حصر حركة الشخصية بثلاثة أنواع هي: حركة في المكان، الحركة في الزمان، أو أنها تكون انفعالية وهذه قليلة الحدوث ([15]). يتمثل الإيقاع في نمط الشخصية الايجابية التي تصنع الأحداث، وتغتنم الفرص وتوثر فيمن حولها من الناس، وتنبع ايجابيتها من حركتها البناءة في التقدم والتطور ([16]). أو الإصرار على القيام بكل ما هو ايجابي يخدم الشخصية ذاتها أو الآخرين مجتازة كل عقبات ظروف الحياة كما في شخصية (أحمد) الشاب الطموح المثابر، المجد، المتفوق، الذي تحمل مسؤولية نفسه، والذي اتخذ من الدراسة والتفوق منهجه الرئيس في الحياة، فضلا عما يحمله من خلق رفيع وتقدير كبير واحترام للوالدين "اندفع احمد عبر بوابة الحوش العتيقة التي صنعها جد أبيه قبل ان يقتل الضابط الانكليزي... بوابة كبيرة ثقيلة من خشب البلوط ومسامير المدفع ... دفع فلقتها هذه المرة دون ان يشعر بثقلها الذي كان ينهك جسده النحيل عند كل عودة... ان فرحته جعلته لا ينتبه حتى إلى وجودها، وصاح من عندها: أبي فالتفت الجالس تحت النخلة كعادة أسلافه، أما لقراءة القرآن، وأما لمراجعة سلم الجدود في شجرة العائلة.

        أقبل أحمد على أبيه، وقبل ان يصل عرف عجيل بان الولد قد نجح في الدراسة أيضا وذلك من التماعة عينيه، والورقة التي يلوح بها في الهواء، فانتابته الحيرة أيضا، كيف سيكافئ هذا الابن العاقل الناجح أبدا؟... هذه المرة الحال يختلف، فقد أصبحت قامة احمد بارتفاع قامته، ونتيجة اليوم تعني خلاصة أثني عشر عاماً من الدراسة. دفعها إلى أبيه هاتفاً أنا الأول على طلاب المحافظة... فاختنق الحاج بحيرة الإجابة السعيدة... رفع الأب اليه وجهه تلاقت عيونهما ببعضهما بتوتر المسرة الأكبر منهما، فمد احمد خده إلى أبيه كعادته السنوية كلما نجح، وبذلك قد أنقذ عجيل من صمته، ومن منزلق ان ينسى حتى القبلة... قبله بشفطة قوية أصدرت صوتا شبيها بأصوات فتح الزجاجات.. ثم عاود التحديق إلى عينيه مستنجدا بنفسه علها تمده بأقوى جملة تليق بهذا الفخر.. عدل نظاراته الطبية ثم مد كفيه إلى الكتفين الضامرتين وقال دامعا: أنت.. أنت ولد نَشِنَن يا احمد.. اذهب وبشر أمك..." ([17]).

        فاحمد هدفه الأسمى في الحياة والذي اختطه لنفسه بكل عزم وإصرار هو مواصلة الدراسة وطلب العلم مع حرصه الشديد على التفوق والنجاح المتواصل كما في سنين دراسته الماضية، ليتوج نهاية مراحل دراسته بالنجاح وتحقيق المرتبة الاولى على المحافظة. يوضح سلوك احمد وتصرفاته إيقاع الايجابية عبر سعيه المتزن وعزمه على النجاح الدائم وبتفوق، كذلك في أفعاله وخلقه الجميل وهو يتوجه إلى والده ويبحث عنه حال جلبه النتيجة ووصوله البيت مباشرة ليخبره بنجاحه الذي اعتاد عليه الوالد نهاية كل عام دراسي، وعلى طبيعة احمد وحركته وملامح وجهه وعينيه عند جلبه النتيجة في نهاية كل عام. إلا أن احمد نجح في هذا العام الأول على المحافظة، واقبل على والده وبشائر الفرح توشح مقدمه وتسربل كيانه وهو يرفع ورقة النتيجة على امتداد يده ويلوح فيها بالهواء كراية نصر أو فرح غامر. احمد الذي افرح والده الحاج عجيل الرجل الأمي بنتيجته، الأول على المحافظة فنال رضاه وقبله وحصل على لقبه ولد نشنن باللفظ الخاطئ لكلمة نشنل الوصف الذي يتمسك به الوالد ويردده دائما نشنن/ ليس نشنن وهو يصف الناس فيه على أساس حبهم لوطنهم وأعمالهم الايجابية في الحياة. يكمل احمد لقاءه بوالده، ويتجه إلى والدته، فهو يولي والديه احتراما كبيرا ويقدر حقوقهما، وقد ال على نفسه ا ن اول من يخبره بنجاحه الأب، والأم.. يخبر أمه بنجاحه وتفوقه، تستقبله بالزغاريد والفرح ونثر الحلوى وتقيم له جلسة احتفالية في باحة الدار. يواصل احمد عزمه واصراره الايجابي في الحياة وتمسكه في الدراسة ونجاحاته المتواصلة وبتفوق ليرسم لنفسه في النهاية مستقبلاً زاهراً، وهو الدخول في معهد القضاة والتخرج منه بصفة قاضي.

        أما الشخصية السلبية فهي تقف جامدة لتلقي الأحداث وتستجيب لإيحاءات من حولها في استكانة وخضوع، ولا تنطلق عواطفها وإحساساتها إلا في الأحلام والتخيل ([18]). وهي كثيرا ما تميل إلى عدم الجدية والخمول أو البعد عن الحزم والعزم في ابسط الأمور، إذ يمكن تلمس إيقاع هذه الشخصية عند (سعدي) الذي اتصف بالبلاهة والبلادة، من دون ان يستخدم عقله وفكره في ابسط المسائل التي تواجهه في حياته اليومية، أو حين يسأل من قبل الآخرين عن رأيه فيها أيا كانت " سعدي كعادته حين يطلب رأيه حول أي شيء كان، ابتداءً بطعم الشاي وبلا انتهاء عند الحرب أو الدين، فهو أما يقول: " هذا الشيء حلو" أو " غير حلو"([19]). فهو لا يحاول مطلقاً ان يكون له موقف حاسم أو أي رأي سديد يبديه نحو ابسط المسائل والقضايا الحياتية، كما يفعل البسط الناس الآخرين. فهو لم يكلف نفسه مطلقا عناء التفكير وتدبر الأشياء التي تطرح عليه أو يسأل عنها والبحث في أبعادها، فهو جوابه جاهز وعبارته محدودة لكل الأمور، فلم يعرف عنه يوما انه قام بطرح رأي أو تقديم مشورة يعبر فيها عن شخصيته، وقوة فكره وملاحظته، اذ يكتفي بالقول هذا شيء حلو ان أعجبه وغير حلو إذا لم يعجبه.

        وما يعزز إيقاع السلبية في شخصية (سعدي) هروبه المتكرر من الجيش، على الرغم من إعادته من قبل إخوانه لوحدته العسكرية لمرات عدة، من دون ان يقدم تبريراً لإقناع إخوته والآخرين عن سبب الهروب...

       ((لماذا تهرب من الجيش كلما أعادوك إليه يا سعدي (أبو راس)؟ يصمت، ثم يلوي رقبته بميوعة خنثوية وابتسامة باردة: " الجيش لا يعجبني والحرب ليست حلوة))([20]).

       فسعدي لا يملك شخصية وليس قادرا على إبداء الرأي أو التعبير المنطقي، ولا يملك المؤهلات التي تجعل من شخصيته رجلاً مقاتلاً في الجيش أسوة بأفراد الجيش الآخرين. أو مقابل ذلك يكون قادرا على تقديم وجهة نظر مقنعة للآخر عن موقفه من الحياة العسكرية. أما جوابه عن الحرب ووصفه لها بغير حلوة؟ يكشف عن بعد الشخصية السلبي، فالحرب لا توصف بهذا الوصف، وهي ليست إلا محرقة ليس إلا. وهي أما ان تكون دفاعاً عن النفس، أو هي نوع من التجني على الآخر. فهو لا يملك من الوعي والإدراك والثقافة بالشكل الذي يجعله قادراً على إقناع الآخر بتقديم رأي سديد يكشف عن إدراكه وفهمه للحرب ومجرياتها، أسبابها ونتائجها، وموقفه منها. مع العلم أن له الحق والحرية التامة بإبداء موقفه منها إن كان مؤيدا، أو رافضا لها. وأصبح سعدي في النهاية محط استهزاء واحتقار من قبل الآخرين.


3- الفضاء.

        يشكل الفضاء داخل النص الروائي نظرية فلسفية، ونظاماً فنياً يشتمل " على المكان والزمان لا كما هما في الواقع، ولكن كما يتحققان داخل النص مخلوقين ومحورين من لدن الكاتب، ومسهمين في تخصيص واقع النص، وفي نسج نكهته المميزة"([21]).

        يضاف إلى هذين العنصرين (الزمان والمكان) عنصر ثالث هو الرؤية السردية على اعتبار أن الفضاء في الرواية ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة. يربط المكان مع الزمان بعلاقات متبادلة، وهذا الارتباط يبرز في الكل المدرك، فالزمان يتكثف وهو ينضج من الناحية الفنية والمكان يمتد ويصبح قويا كي يصل حركة الزمان والمضمون والتاريخ([22]). وبذلك تتكون لدينا صورة واضحة لا تقبل الشك بان ليس ثمة فصل بين الزمان والمكان، لان من طبيعة النص الروائي انه يدور في إطار أفعال تنم من خلال أحداث متصلة بأزمنة يستوعبها حيز مكاني، وهذا يعني ان فضاء الزمن مرتبط بالحدث ارتباطاً وثيقاً، فلا يمكن لأي حدث روائي أن يشكل بعيدا عن البنية الزمنية، كما لا يمكن إغفال ارتباطه بفضاء المكان إذ ان ارتباط الفضاءين شيء وارد لا مجال لإنكاره أو تجاهله فلا مكان بدون زمانه، لذا فالإحساس بفاعلية المكان مرهون بالإحساس بفاعلية الزمان، هما بعبارة وجهان لعملة واحدة، ومهما اختلفا أو تقاطعا فهما يشكلان مع باقي المكونات الأخرى بنية مكانية تعكس رؤية  المؤلف لعالمه الروائي.


أ- الزمن.

        يعد الزمن في السرد عنصراً مهماً، له خصوصيته وهيمنته في العمل السردي، إذ يشكل أهمية قصوى فيه، ووجوده حتمي " إذ لا سرد بدون زمن "([23])، وقد أولاه النقاد عناية ملحوظة وشهد الاهتمام به تطورات كثيرة، لان الزمن هو الإيقاع الذي يضبط أحداث الحياة، والشاهد الحي على مصير شخصياتها والعنصر الفعال الذي يغذي الصراع([24]). وهناك من يرى ان الزمن " يمثل وسط السرد مثلما يمثل وسط الحياة"([25]). لما له من قدرة على التغلغل داخل مكونات العمل السردي من مكان وحدث وشخصية بغض النظر عما إذا كان هذا الزمن حقيقيا أم متخيلا. وهناك زمنان أساسيان يمثلان بعدي البناء في النص الروائي في هيكلية الزمن هما([26]):

1- الزمن الموضوعي: وهو الزمن الطبيعي الذي يحتوي على ركنين وهما الزمن التاريخي والزمن الكوني، ويستطيع الروائي أن يغترف منه كلما أراد أن يستخدم خيوطه في عمله الفني.

2- الزمن الذاتي: وهو الزمن الذي لا يخضع لمقاييس موضوعية ويمثل الخيوط التي تنسج منها لحمة النص الروائي.

ومما سبق فالإيقاع الروائي هو خصوصية الأحداث المتعاقبة في الزمن. إذ يظهر إيقاع الزمن عبر أحداث الرواية فيما يحدث في مجلس قهوة القرية وعدم توقف الحاج عجيل من ادعاءاته الوطنية الزائدة.

"عجيل، والكل يعرفه، (هذا هو هكذا)، متحمس دائم للوطن منذ أن قتل جده ضابطاً انجليزيا (ابن الكلب)، كما يعقب هو كلما ذكر الحكاية التي حدثت منذ أيام ما قبل إبرة القنفذ، وغاب جده بعد ذلك.. وغاب حتى الاستقلال وبعده / حتى الآن، وربما إلى يوم القيامة، أو بالتأكيد، وكل ما بقي منه عند عجيل سيف معلق في واجهة غرفة الضيوف، وصورة متخيلة، راسخة في رأس لخنجر يطعن العلم البريطاني المرسوم على حزام ضابطهم (ابن الكلب).. خنجر يخترق العلم والكرش الاجنبيين، وكلمة واحدة فحسب التصقت بقلب عجيل ولسانه وباسمه أبدا إذ يناديه الجميع " عجيل نشنن"..."([27]).

       يبدو إيقاع الزمن فيما يمر به مجلس قهوة القرية من تحمس وادعاء وطني زائد، وتحولت جلسة المجلس بدلا من الترفيه عن النفس واللقاء والتشاور بين رجال القرية فيما يخص ظروف قريتهم إلى جحيم منذ قيام جد عجيل بطعن ضابط انكليزي وانتقال هذه الحادثة التاريخية على لسان الحاج عجيل التي صارت حديثه اليومي في المجلس وتحسره على ذلك الزمن، وهو يخيم على المجلس بكلامه اليومي المتواصل وصوته العالي، مدعيا من نفسه انه رجل وطني، وانه يحب وطنه حد العبادة، داعما للسلطة ومؤيدا لكل قراراتها، وتوجهاتها، من دون أن يسمح لأحد من رجال المجلس بالحديث أو المناقشة أو الرد عليه، أو حتى إعطاءهم فرصة للحديث في أمور حياتية واجتماعية تخص القرية وظروفهم المختلفة، حتى أصبح المجيء لمجلس القهوة أمرا غير مرغوب فيه من قبل جميع رجال القرية، بسبب مواقف عجيل اليومية وادعاءاته المتكررة وسيطرته على أجواء المجلس، والتي بدأت تأخذ طابعاً يومياً أوسع، فلم تنحصر مواقفه في مجلس قهوة القرية فقط، بل راح يتكلم فيها في أي مكان يجد فيه من يسمع كلامه في السوق أو في الشارع... وهو يربط كلامه عن الوطن والوطنية بحاثة جده التاريخية وتمكنه من طعن ضابط انكليزي.

        ويحرك الكاتب إيقاع الزمن في الماضي والحاضر والمستقبل، إذ يتذكر الحاج عجيل وهو يمد أصابعه إلى بلعومه حادثة إصابته بإبرة القنفذ: " مد عجيل (نشنن) أصابعه إلى بعلومه متحسساً موضع إبرة القنفذ في تفاحة أدم. شعر لأول مرة في حياته بان هذه الإبرة، التي لم يرها ابدا، عزيزة.. عزيزة عليه بمعزة التفاحة.. بمعزة الحياة، واستعاد ذكرى عيون أصحابه الجاحظة حوله وحول أمه حين خطر له في تلك اللحظة: انه ربما سيموت، بلا معركة كما يموت البعير، لأنه سمع أحد الأولاد يهمس في إذن آخر: "هل هي سامة؟" ولم يلتفت حينذاك، رغم ارتجاف القلب، لم يسأل أحدا عن ذلك، ولم يظهر خوفه لأحد ... وها هو الآن: رجل قد ملأ دار أبيه بسبعة أولاد تسطع بينهم وردة كالقمر. يطوقه نجاح احمد بالزغاريد والعيون الحاسدة.." ([28]).

      يوحي النص الروائي بإيقاع الزمن نحو الماضي.. وحادثة إصابة عجيل في صباه وهو يلعب مع الصبية بإبرة القنفذ الذي تقربوا منه، فغزت بلعومه واستقرت في تفاحة أدم حين عاد للبيت وتجمع حوله هو وأمه أصحابه، وعيونهم وجله ترنو إليه، والقلق من الموت الذي كان يشغل باله، وهو يسمع الهمس بين أصحابه من ان الإبرة سامة وربما تودي بحياته، ومكابرته بعدم الانتباه لهم أو إعارتهم أي أهمية، رغم الخوف الشديد الذي ملأ قلبه. ونحو الحاضر... وها هو عجيل وقد عبر تلك المحنة التي صارت في طي النسيان ولم يتذكرها إلا عندما يتلمس الإبرة في بلعومه والتي لازالت موجودة ولكنه اعتاد عليها.. وهو اليوم يمارس حياته بشكل طبيعي بعدما كبر وتزوج وقد ملأ بيت أبيه بسبعة أولاد وبنت واحدة هي وردة. وهم يطوقونه يوميا بفرحهم به وحبهم له، وهو يدير شؤونهم ويشرف عليهم ومنطلقاً الى المستقبل، فهو باق سيقود عائلته ويربي أبناءه ويلبي متطلبات حياتهم ويوجههم التوجه الذي هو ينشده دائما وهو حب الوطن وخدمته. إذ يعلن عجيل عبر الزمن تخطيه بعض مصائب الحياة ونجاحه ماضياً وحاضراً وفي المستقبل أيضا إذ سيبقى ثابتا في مبدئه وعزيمته في تنفيذ منهجه.


ب- المكان.

         يشكل المكان الروائي أحد المكونات الأساسية في بناء الرواية بوصفه " الحاضنة الاستيعابية والإطار العام الذي تتحرك فيه الشخصيات وتتفاعل معه، وأي نص مهما كان جنسه الأدبي لابد أن يتوافر على هذا العنصر مادام فعل الحكي هو الأساس الذي ينطلق منه ويعود إليه ويتمظهر من خلاله وبواسطة آلياته وقوانينه "([29])، ومن ثم فان العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وأصالته ([30]). يتشكل المكان الروائي من خلال تفاعل الراوي والشخصيات والحوادث جميعاً ([31]).، بمعنى ان ظهور الشخصيات واختراقها لفضاء المكان ونمو الأحداث على اثر ذلك هو ما يساعد على تشكيل المكان في النص الروائي، وهذا يعني انه ليس هناك مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث التي تقوم بها الشخصيات ومن المميزات التي تخصهم([32]). وإذا بحثنا عن تكرار تغيرات الأمكنة في رواية ما، وعن إيقاعها ونظامها بصورة خاصة نكتشف إلى أية درجة تبدو هذه المتغيرات مفهمة لتضمين الرواية وحدتها وحركتها في الوقت ذاته، وكم يتضامن المكان مع عناصره الاولى ([33]).

        يبدو إيقاع المكان في هروب الراوي عبر شمال الوطن إلى الخارج." تسللت عبر الشمال ليلا وسائق الشاحنة معطل الأضواء سكران ويغني بالكردية، قائداً للحديدة الراعدة عبر الدروب الملتوية، الصاعدة الهابطة مستفيدا من ضوء القمر، ولذلك كانت أغنياته كلها عن القمر ووجه ليلى، ولذلك كانت أيدينا كلنا على قلوبنا. نظرت إلى التماعات ماء عيون الجبال والشلالات المتدفقة، وسط الصخور والشجيرات المتعلقة بسفوح الجبال، كأطفال استمسكوا بظهور أمهاتهم، وعلى القمم يشع الثلج الأبيض مثل قبعات فضية بحجم الحلم.." ([34]).

        يصنف الكاتب في طرق السير في الشمال وطبيعتها الملتوية لتقديمها في ذلك الزمن الذي تدور فيه الأحداث، ويعرضها عبر نزعة تاريخية تؤرخ طبيعة البيئة الشمالية التي تخترقها الطرق لاسيما السرية منها، وتسعى لتقديم إيقاعها عبر السير في التواءاتها، وتعرجاتها، والصعود في المناطق المرتفعة والهبوط في المناطق المنخفضة وفي سفوح الجبال. اجتاز الراوي هذه الطرق في سيارة مطفئة الأضواء مع إن السائق كان في حالة سكر، والاعتماد على ضوء القمر لاهتداء الطرق على الرغم من تموجاته المفاجئة والمتنوعة بتنوع المكان الذي تقطعه حركة سيرهم، والمرور بتضاريس مختلفة وجبال وسفوح وأشجار وصخور عيون ماء. فالراوي يسلك طرقا وعرة وهي غير رسمية، وذلك لان خروجه من بلده كان بشكل غير رسمي بل كان بطريقة الهروب. ويدل عبور الراوي هذه الطرق الوعرة وما يصاحبها من مخاطر وصعوبات مختلفة وقلق على إصراره على عبور الحدود والسفر خارج البلد للبحث عن ابن عمه محمود. لذا يحقق الكاتب رؤيته في تقديم المكان عبر حركة الشخصية وإيقاعها بما يتناسب مع حالتي القلق والخوف في آن معاً.

ويبدو إيقاع الشخصية في المكان عبر ذهاب قاسم الى دار والده عن طريق ما يأتي:([35]).

-         الرجوع من النهر إلى القرية من ثم إلى بيته وحيث حجرة الرسم والقيام برسم خارطة للوطن.

-         حمل الخارطة والذهاب إلى الوالد والدخول عليه في حوشه الكبير بعدما قام بفتح بابه الثقيل والعريق، والجلوس معه في ظل النخلة.

-         اخذ الوالد لقاسم إلى غرفة الضيوف لاختيار المكان المناسب للخارطة وتعليقها له وسط حضور أكثر أفراد العائلة مع فرحهم الكبير.  

        يعرض الكاتب عبر تنقل قاسم بين الأمكنة بعض ما يتميز به المكان في القرية أو الريف، حيث الحوش الواسع وبابه التقليدي الثقيل الذي يكون أحيانا بعيداً عن البيت، والشخص القادم عادة هو من يقوم بفتحه لنفسه. وجود بعض الأشجار والنخلات داخل الحوش، والتي كثيراً ما يستغل ظل هذه الأشجار للجلوس فيه والتمتع بالهواء الطبيعي الطلق والذي اعتاد عليه أكثر أهل الريف. وينطلق الكاتب لتقديم الأجواء الودية التي حدثت بين قاسم ووالده في ظل النخلة، بعدما قام قاسم بتقديم خارطة الوطن التي رسمها لوالده وإصراره على شرح إبعاد ألوانها التي اختارها لها. محاولاً امتصاص غضب الوالد وإرضاءه بعدما اثار حفيظته في امرين اولهما: رفضه له مطلباً برسم صورة للقائد، وأضاف عليها هروبه من الجيش، فتعصب عليه الوالد كثيرا ووصفه بالإنسان غير الوطني. فقاسم يعمل جاهدا لكسب ود والده وتحسين صورته عنده.

       ويركز الكاتب على إيقاع الشخصية عبر المكان عن طريق حركة قاسم وافعاله في شاطئ النهر في الساعات قبل البدء برسم الخارطة إذ اختار النهر للراحة والترفيه والتأمل والتفكير برسم الخارطة واختيار ألوانها، وكذلك التخلص من البيت والضوضاء التي حلت به لا سيما بعد انطلاق عرس أخته وردة: "توهج العرس في الخارج، في حين سارع قاسم مارقا من تحت الرصاص لكي يلوذ بشاطئ دجلة يفكر برسم لوحة وطنية لأبيه... وصل رقرقة الشاطئ.. قرفص، حفن الماء ورشق به وجهه، ثم مسح رأسه وأذنيه ورقبته ... انتقل إلى صخرة قريبة، جلس عليها وأدلى ساقيه في الماء وحدق إلى وجه النهر، ومرسلاً نظراته حتى تلك الجزيرة الخضراء في منتصف النهر (الحويجة) عليه أن يتأمل الحال من جذوره، فأن أراد رملاً صافياً انزل ذراعه في الشاطئ حتى المرفق وقبض على القاع ورفعها يشاهد رملاً مغسولاً نقياً بين أصابعه، وكذلك عليه أن يفعل في تأمله: أن يغرس تركيزه وصولاً إلى البدايات.. "([36]).

 

المبحث الثاني

إيقاع اللغة الروائية 

1- السرد.

        يمثل السرد الأداة الأساسية الفاعلة في عملية بناء النص الروائي، فهو الأداة الرئيسة لنسج العلاقات بين العناصر الفنية التي تقوم عليها عملية البناء([37]). ويتمثل الإيقاع السردي عبر المستويات إذا ينتقل السرد من مستوى سردي إلى آخر في رواية واحدة، وقد يحافظ على مستوى معين في رواية أخرى، وتتم عملية الانتقال من مستوى إلى آخر عن طريق السرد([38]). فهو يغير وجوه الحكاية وطريقة سردها وتقسيمات الشخصيات وطريقة رسمها عبر سياق محمل بالإحداث والأزمنة بمبدأ السببية من خلال التوتر الإيقاعي الذي نجده في التداخل والتقديم والتأخير.

        يقدم حدث إعدام قاسم بعد اعتقاله من قبل الشرطة إيقاعا سرديا عبر اللغة الروائية يعتمد طرائق متعددة في التعبير: "أغلق الحاج عجيل على نفسه باب غرفة الضيوف. وارتمت وردة على أمها لتبكيا بعد أن أغلقتا عليهن الباب والنوافذ وغطتاها من الداخل بالبطانيات كي لا تسمعا صوتاً... وكان صوت حصى الدروب تحت حشودنا السائرة يشبه خربشة الجلد بمخالب خشنة يتصاعد الغبار من الأحذية إلى الرؤوس، فيتحول إلى طين في الوجوه، عند التصاقه بالعرق المتصبب حراً وحيرة وعجزاً وخوفاً وقهراً ... كنا كقطيع دواب صامت أو لاغط.. لا فرق!! اوقفوا قاسم في منتصف الساحة ووسعوا من نصف دائرة الحشد حوله، همهمات أسف أو الم أو همس احتجاج لا يسمع أو توسل يصطدم كله بكلمة تنطق من فم شرطي: قرار حكومي. قيدوا قدميه واقفاً، ويداه خلف ظهره بالحديد ثيابه ملطخة بالألوان.. أحمر.. أخضر.. أبيض.. مدير الشرطة يسأل قاسم عن مطلبه الأخير.. يضيق البشر نصف الدائرة ليسمع، صاح الضابط بأحد رجال الشرطة هاتوا له اباه. أراد قاسم ان يوضح لأبيه أمورا كثيرة ا وان ينظر في نظراته العزيزة نطرة أخيرة، ويعتذر منه عن سيل أحزان قادمة أو يلمح إلى انعدام الفرق بين مقتله ومقتل عبد الواحد.. اقترب منه الضابط وامتدت الآذان لتسمع: إذا لا تضيع وقتنا اطلب أي شيء آخر بسرعة. رفع قاسم رأسه وتطلعت القرية، والعالم تطلع إليهم ود لو يقول: أريد أن أرى شاطئ دجلة أو اقتلوني هناك حيث كنت اذهب منذ طفولتي حيث: ذراع حسيبة الأبيض في فجر ابيض، الوطن الأحمر في قلب اخضر، الصخرة والسمك.. الخط القاسمي والرمل.. جزيرة وسط النهر، جرف، نوارس... وأمواج وجريان الماء الطويل...، طال تحديقه في الضابط صامتاً، فأعاد عليه بنفاذ صبر: ماذا تريد؟ هز قاسم رأسه: لا شيء. فأشار المدير الضابط إلى من معه ليعصبوا عينيه، واصطف فصيل الشرطة أمامه وفق الإيعاز إليهم بكلمة زاجرة، وبأخرى ثنوا ركبهم على الأرض، وبأخرى صوبوا فوهات بنادقهم إليه..." ([39]).

          يبدأ الحدث الروائي بالسرد الموضوعي باستعمال فعل ماضي مسند إلى الشخصية (عجيل) للتعبير عن انكساره وهروبه ومحاولته التخفي عن مواجهة الموقف وحالة الإعدام، ثم بدأ مستوى الغائب بفعل ماضي (اِرتمت) قامت به الشخصية (وردة) التي ركنت إلى أمها. فبدأ مستوى آخر من جهتهما في السرد على فعل (عجيل) بثلاثة أفعال الأول مضارع (تبكيا) والاثنين الآخرين ماضيين (أغلقتا) و(غطتا) ينقل السرد من الموضوعي إلى الذاتي عبر الأنا الجمعية للتعبير عن موقف أهل القريه " وكان صوت حصى الدروب تحت حشودنا السائرة يشبه خربشة الجلد بمخالب خشنة "، ويعود السرد الذاتي إلى الموضوعي بمستوى آخر من جهة الشرطة للتعبير عما سيقومون به تجاه قاسم في ساحة القرية بثلاثة أفعال ماضية (أوقفوا)، (وسعوا)، (قيدوا) ، في حين بدأ مستوى آخر من جهة مدير الشرطة بفعلين الأول مضارع ( يسأل) والثاني أمر ( هاتوا)، ومن ثم ما قام به الحضور من أهل القرية بفعلين مضارعين ( يضيق) و ( ليسمع) ليؤكد الكاتب مكانة قاسم ومعزته بين أهله وأصحابه. وينتقل السرد الموضوعي من التعبير عن أصحاب قاسم إلى قاسم عبر مراقبة أفعاله (أراد / ينظر / يعتذر / يلمح)، ثم ينتقل السرد الموضوعي للعبير عن الضابط بثلاثة أفعال الأول ماضي (اقترب) والثاني مضارع مسبوق بنهي (لا تضيع) والثالث أمر (اطلب) لينتقل السرد من الموضوعي إلى الذاتي عبر حوار داخلي في نفس قاسم" أريد أن أرى شاطئ دجلة او اقتلوني هناك" بمستوى المتكلم وإسناد الأفعال إلى الضمير (أنا)، (أريد) و(أرى) وكذلك إلى ياء المتكلم (اقتلوني)، ثم ينطلق الحوار الداخلي إلى الخارجي مع ضابط الشرطة بعدما كرر عليه ماذا تريد؟ ورد قاسم بإيجاز لا شيء.

        ويكمل السرد الموضوعي الموقف الأخير بالتعبير عن (الضابط) وأهم أوامره للشرطة الذين معه.. لإكمال الإجراءات: تعصيب عينيه، الاصطفاف أمامه، الثني على الأرض، التصويب، وأخيرا الرمي والتي تعبر عن مستوى التزام الضابط بتنفيذ الأوامر العليا بتفاصيلها. والى هذا الحد ينتهي الجزء الأول من عملية إعدام قاسم، لينتقل إلى الجزء الثاني الأمر بإبقاء الجثة في ساحة القرية لثلاثة أيام وموقف أهل القرية من ذلك.


2- الوصف.

       يعد الوصف ((نظاما او نسقا من الرموز والقواعد يستعمل لتمثيل العبارات او تصوير الشخصيات، أي مجموع العمليات التي يقوم بها المؤلف لتأسيس رؤيته الفنية))([40]). اذ ان غاية الوصف ((ان يعكس الصورة الخارجية لحال من الأحوال او لهيئة من الهيئات فيحولها من صورتها المادية القابعة في العالم الخارجي، إلى صورة أدبية قوامها نسيج اللغة وجمالها تشكيل الأسلوب))([41]).

        ويتمثل إيقاع اللغة الروائية عبر نمطي الوصف، وهما الوصف البسيط، والوصف المركب. والوصف البسيط هو الوصف الذي" يعطي من خلاله جملة وصفية مهيمنة قصيرة لا تحتوي إلا على بعض التراكيب الوصفية الصغرى، ويكون ذلك حين يتم الاستغناء عن الأجزاء والصفات كالاختصار أثناء وصف الشخصيات على تراكيب موجزة"([42]). أما الوصف المركب فيتميز بشيء من التعقيد لأنه ينتقل من الموصوف إلى أجزائه ومكوناته والانتقال إلى محيط الموصوف بما يقتضي جمع جملة أشياء موصوفة([43]).

        ومن أمثلة إيقاع لغة الوصف البسيط:" انتبهت إليه وردة... وكأنها تعرفه أول مرة، رجلاً آخر وليس إسماعيل الوحيد الفقير الساكن في بيت أبيه الطيني في أطراف القرية"([44]).

         جاء الوصف في النص السابق وصفا بسيطاً للشخصية والمكان في أن معاً إذ حدد الوصف البعد الاجتماعي للشخصية (إسماعيل) فهو رجل يعاني من الوحدة والفقر في حين أعطى الوصف تحديداً للمكان (بيت) وهذا المكان لا تتضح ملامحه بوضوح إلا بالجملة الوصفية التي بعده (طيني في أطراف القرية). إذ يوحي هذا الوصف البسيط طبيعة المعاناة التي يعيشها إسماعيل، وهو يعيش لوحده بلا أنيس بذلك البيت البعيد عن مركز القرية. الأمر الذي دفعه للتفكير بالزواج، والبحث عن شريكة حياة، فلم يجد أحسن من ابنة قريته (وردة) التي أصبحت مثله كذلك وحيدة وتقضي أكثر وقتها في المقبرة بعد استشهاد زوجها وأخيها وإعدام أخيها الآخر، ووفاة والدها واختفاء أخيها الصغير. ويقدم هذا الوصف إيقاع الشخصية والحدث معاً، الشخصية إسماعيل وما يعانيه من وحدة وفقر والذي بدوره يسعى لمعالجة واقع حياته بالزواج من (وردة) للتخلص من رتابة الحياة ومرارة الوحدة، ويبدو إيقاع الحدث عبر اصرار اسماعيل المتواصل في متابعة وردة وزيارتها حتى الى المقبرة وابداء التعاطف معها ومحاولته شد ازرها بعدما صار مكانها الرئيس المقبرة، وتقديم الوعود والعهود بمساندتها من اجل كسب ودها والموافقة على الزواج منه.

          ومن أمثلة إيقاع لغة الوصف المركب:" دلف احمد إلى المطبخ، فصدحت الزغاريد فيه من وردة وأمها. لعلعت كلمات التبريك، ولم تحتملا حبس الفرح في المطبخ، فخرجتا إلى باحة الدار ناشرتين زغاريدهما في كل الاتجاهات. التم الجيران وأبناء الأخوة والعمومة، جاء الصبية الصغار والعجائز المتعكزات على عصيهن ضجت الدار فأسرعت عمتي إلى صندوقها الخاص جداً، وأخرجت كيس الحلوى الذي تحتفظ به منذ عرس قاسم. وراحت تنثرها في الفضاء، فوق رؤوس الحشد، تدافع الواقفون وفاز بها الأولاد الصغار، ملتقطين إياها من بين انفراج الأقدام، وانهالت القبل على احمد من الأفواه الدرداء... وقبل أن يوشك الحشد على الانفضاض، ارتفع صوت عبد الواحد، بإيعاز من أمه التي تشاورات مع عجيل سلفا.... غدا أنتم وكل من يشاء مدعوون الى وليمة عشاء سنذبح كبشا. ارتفع صفير الصغار وهتافاتهم، حيا الكبار عبد الواحد وعجيلا الجالس تحت النخلة مكتفياً بالابتسامة وهز الرأس"([45]).

       يبين الوصف السابق كل ما حدث في بيت أهل احمد من أفعال مختلفة وحضور كبير وبشكل متتابع. فما ان دلف احمد للبيت حاملا نتيجة النجاح حتى قابلته ردة فعل من قبل وردة والأم... إذ صدحت الزغاريد /لعلعت كلمات التبريك، وبسبب ضيق المكان فهو لا يسع كبر الفرح الذي يتوقعانه وردة وأمها / خرجتا إلى باحة الدار/ نشرتا الزغاريد في كل الاتجاهات وفي ذلك غاية هي إعلام الجيران بالفرح وأهل القرية عموماً. فأصوات الزغاريد المتعالية وسط النهار هي إشارة فرح لعموم القرية، وعلى إثر سماعها تمت الاستجابة فالتم الجيران /أبناء الأخوة /العمومة /العجائز المتعكزات على عصيهن /الصبية / وبسب المشاركة لأكثر أهل القرية ضجت الدار بالحضور فاستغلت أم احمد كثرة الحضور وأخذت تنثر الحلوى في الفضاء وفوق رؤوس جمع الحضور تعبيرا عن فرحها. يقابل ذلك انهيال القبل على احمد من الأفواه الدرداء، وتعالت أصوات الزغاريد وتزايدت أصوات الأولاد /الكبار /صراخ الصبية /الهتاف /التحايا.. اذ يوحي الوصف المركب بانتقاله من الشخصية إلى المكان إلى الشخصية الجماعية (العجائز) و(الصبية) و(الجمع الحضور) بالحب الكبير والسعي الجاد للمشاركة بالفرح الذي إقامته عائلة الحاج عجيل بمناسبة نجاح ولدهم الأول على المحافظة، بوصف احمد ابن الحاج عجيل أحد أعمدة القوم في القرية ومن الوجهاء البارزين الذين لهم حضور فاعل ومتميز في متطلبات القرية وفي مجلس قهوتها فلا بد من اقامة فرح وحضور يتناسب ومكانته في القرية.


3- الحوار:

         يعرف الحوار بأنه "حديث بين شخصين أو أكثر تتضمنه وحدة في الموضوع ووحدة في الأسلوب "([46])، فهو يشكل نمطاً تواصلياً فنياً " يتبادل فيه المتحاوران الإرسال والتلقي في تعاقب يحدده فضاء نصي، تعمل وحداته الكلامية على إنتاج دلالة في خط متنام لفعل درامي"([47]). ويعد الحوار أحد أساليب التعبير في الرواية واحد عناصر بنائها فهو يسهم في تطور أحداثها واستحضار الحلقات المفقودة منها.

        ويمتاز الحوار الترميزي بنوع من إيقاع اللغة اذ يميل إلى التلميح والإيحاء بعيدا عن التقريرية والمباشرة الظاهرة والطروحات الزائدة، فالترميز هو توظيف الرمز في نسيج الرواية وجعله طاقة تعبيرية فاعلة. ويعتمد هذا الحوار على مستويين هما ([48]):

1- مستوى (اللفظة، التركيب) من حيث قابلية الكلمة على التأثير المجازي عن طريق طاقاتها الإيحائية والتعبيرية فيصبح الترميز باللفظة التي هي ذات إيحاء خاص.

2- مستوى (الموقف، الحدث) من حيث تأويل الحدث والفعل والبحث عن الإيحاء الشمولي فالإيحاء العام هو الذي يحقق الترميز للحوار.

       ومن أمثلة الحوار الترميزي على مستوى (اللفظة، التركيب) ما كان بين قاسم وأخته وردة: ([49]).

-         قاسم.. أخي العزيز كيف يخرب رجل بعيد علاقتك مع أبيك وأنت فلذة كبده؟

-         نهض قاسم نافخاً زفيره.. أوه يا وردة.. ليس هذا بالوقت المناسب لهذا الهراء.

-         لن اذهب قبل أن اعرف.

-         أنت مجنونة يا وردة.. الناس تنتظر في الخارج.. دعي الأمر لوقت آخر.

-         لا.. الآن.

-         الأمر ببساطة هو: ان أبي يصدق التلفزيون..

-         كيف؟

-         يا وردة...!

-         كيف؟؟

-         أبي يعتقد أن المكان أغلى من الإنسان وأنا اعتقد العكس...

-         ولكن هو لا يعرفكما.. دعوه في كرسيه وتصالح أنت وأبي...

         يظهر من الحوار بين سعدي وأخته وردة ترميزاً على مستوى التركيب، ويأتي على لسان وردة (رجل بعيد) ووردة لم تتبلور لديها رؤية أو موقف معين مع أو ضد بعد، إلا ان ما كان يزعجها الخلاف بين والدها وأخيها الفنان قاسم بسبب الاختلاف في التوجهات ووجهات النظر. فالوالد عرف بتوجهه الوطني فهو يحب وطنه والسلطة وقائدها، فيما كان قاسم بعكس الوالد تماماً، فهو يتبنى موقفاً معادياً للسلطة وموزها. وعمد مؤخراً إلى الهرب من الجيش لعدم قناعته فيه. عدم استجابة قاسم لمطلب والده برسم صورة للقائد بسبب قناعته المختلفة عن قناعة والده سبب له خلافاً وقطيعة مع والده. هذا الخلاف أزعج وردة ودفعها للتدخل والقيام بدور جدي لإنهائه. فوردة تقوم بدور المصلح والوسيط مع قاسم من خلال الحوار معه وسعيها الجاد لإزالة الخلاف بينه وبين الوالد، والذي تجد لا مبرر لوجوده أو إطالته مطلقا. فوردة على قناعة تامة ان سبب الخلاف ليس جوهريا ولا مهماً، وإنما هو سبب بعيد والرابطة التي تربط قاسم بوالده هي أكبر بكثير من كل أسباب الخلاف، فقاسم فلذة كبد والده، والوالد هو مصدر فرحة وسعادة قاسم، ولا يوجد ما يسيء إلى طبيعة العلاقة بينهم أو يعكر صفوة حياتهم لا من قريب ولا من بعيد، وهل يجوز أن يختلف قاسم مع والده بسبب شخص بعيد؟ لذا يبدو إيقاع اللغة عبر الحوار عن طريق الترميز باللفظة والتركيب ليدل عليه ويقدم وجهات النظر المختلفة.

       ومن أمثلة الحوار الترميزي على مستوى (الموقف، الحدث) ما كان بين سعدي وأخته وردة([50]):

-         انه كذاب.. وكان يهرب أيام الحرب... لابد ان تتركيه انه لا يناسب مقامي... ماذا سيقال عني إذا عرفوا هناك بان زوج أختي كذاب ولا صنعة له سوى عزف الربابة؟

-         قالت: ولكنه رجل يستحق الاحترام.

-         صاح: على ماذا؟

-         قالت: انه يحلم بما احلم به.

-         قال: أنت مجنونة...

-         تمتم ثم قال: انه ليس حلواً.

       بعد معاينة الحوار الذي يدور بين سعدي وأخته وردة يبدو موقف الشخصيتين، الشخصية الاولى (سعدي) الذي عرف بتأريخه الأسود في بداية حياته، إلا انه تمكن في النهاية من التغلغل في أروقة العاصمة حتى تمكن من ترأسه لمنظمة شبابية مدعومة من السلطة، وهو شديد الحرص على منصبه ومركزه الاجتماعي، لذلك كان شديد الرفض لزواج أخته وردة من إسماعيل أثناء غيابه في العاصمة، لان إسماعيل سمعته غير جيدة من وجهة نظره، فهو هارب من الجيش وعازف ربابة وقد يؤثر على منصبه، لذلك فهو يأمر وردة بالانفصال منه في حين ان الشخصية الثانية (وردة) ترد بإجابة مقتضبة وبقناعة راسخة بزواجها من إسماعيل (لكنه رجل يستحق الاحترام)، فهي على قناعة تامة به وبموقفه المعادي للسلطة بعدما استشهد بعض إخوانها واعدم البعض الآخر.

         وينتقل الحوار الترميزي الى مستوى آخر من التحاور بين الطرفين إذ تبدو نوايا سعدي بعدما قدم وجهة نظره لوردة حول إسماعيل وطلبه منها الانفصال عنه خوفاً أن تمسه مسؤولية بسببه وتؤثر عليه وعلى منصبه. في حين (وردة) ترفض رأيه ولا توافق عليه إذ تعطي رأيها الصريح الصارم (انه يحلم بما احلم به) فهي تحمل موقفا معاديا للسلطة بعدما أعدم أحد اخوانها، وهي بذلك تتفق مع زوجها (إسماعيل) في توجهاته المناهضة للسلطة.  

مما سبق فقد اعتمد المتحاوران على حوار ترميزي يبدو عبره توجه كل منها ف(وردة) لها موقف معاكس لـ(سعدي) يمكن ملاحظته عبر (الموقف والحدث) للوصول إلى الايحاء والشمولية للحوار باتخاذ الموقف أو المبدأ وتحديده عن طريق إيقاع اللغة الروائية الذي يعتمد على الترميز.


الخاتمة

       بعد الانتهاء من هذه الدراسة التحليلية للإيقاع الروائي في رواية الفتيت المبعثر يمكن إيجاز أهم النتائج التي توصل اليها البحث وهي:

1. يبرز إيقاع العناصر الروائية عبر الحدث والشخصية والزمان والمكان، إذ يتحدد إيقاع الحدث بمواصلة الحاج عجيل سيطرته على مجلس قهوة القرية اليومي وهو ينصح ويوجه برفض سماع الإخبار والإعلام المغرض حول إعادة ترسم الحدود، في حين يسعى الفنان قاسم إلى إرضاء والده برسمه له خارطة الوطن بدلاً من رسم صورة القائد محاولاً إقناع والده ان حب الوطن لا علاقة له بحب القائد. أما إيقاع الحدث لأفعال قاسم فتبدو من خلال سعيه الحثيث لمتابعة ابنة عمه حسيبة، والتفكير بها والسعي للزواج منها.

  2. ويتنوع إيقاع الشخصية في نمطيها، الإيجابية التي تمثلت بشخصية احمد الطموح المثابر الذي تحمل مسؤولية نفسه، واتخذ من الدراسة والتفوق طريقه في الحياة، فضلاً عن تمسكه بالخلق الرفيع واحترامه وحبه لوالديه. في حين تبدو السلبية في شخصية (سعدي) في البلادة والبلاهة والإهمال، فهو لا يملك رأي وليس له قرار، فضلا عن هروبه المستمر من الجيش من دون تقديم مبرر لذلك.

 3. أما إيقاع الزمن فيوحي الكاتب بزمن الرواية عبر إرجاعه إلى الماضي وحادثة طعن جد عجيل لضابط انكليزي، وكذلك حادثة إصابة عجيل بإبرة القنفذ عندما كان صغيراً لتعانق تلك الأحداث الحاضر، وهي تتمثل أولا: بوطنية عجيل إلى استمدها من تاريخ جده، وثانياً: إحساس عجيل بأنه تجاوز محنة الإبرة رغم أنها لازالت موجودة في بلعومه، لكنها لم تؤثر تلك الإبرة على مسيرة حياته بعدما توقع له الموت ساعة إصابته بها، وهو في حاضره يتمتع بحياة طبيعية وقد ملأ البيت من الأولاد وصارت تلك الإصابة من الماضي.

وتمتد رؤيته للمستقبل فهو باق في منهجه وحبه للوطن وكذلك في تربية أبنائه على نفس المنهج الذي تربى عليه وآمن به وبمبادئه وحبه الكبير للوطن.

ويرمي الكاتب في تقديم المكان بنزعة تاريخية تؤرخ الأمكنة ولاسيما المناطق الشمالية، جبالها، وسفوحها وأوديتها، وطرقاتها الوعرة، وكثرة أشجارها، وصخورها، وثلوجها، وعيون المياه اللامعة وتشكيلاتها الجمالية.

4. برز إيقاع اللغة الروائية عبر السرد والوصف والحوار، إذ يبدو إيقاع السرد في انتقال الكاتب بين نمطي السرد، الموضوعي والذاتي والاعتماد على الأفعال المتنوعة على مستوى الغائب والمتكلم والمخاطب في تقديم حدث إعدام (قاسم) من قبل الشرطة في ساحة القرية، وموقف عائلته وأصحابه من تنفيذ الإعدام عن طريق استعمال الوسائل المتعددة في التعبير.

5. أما إيقاع الوصف فقد جاء في نوعين من انواعه: البسيط والمركب اذ أبرز النوع الأول إيقاع الشخصية والحدث معاً، الشخصية (إسماعيل) الريفية المعدمة الحال، والإصرار على الزواج من وردة لا سيما بعد ما أصبحت وحيدة بعدما فقدت كل أفراد عائلتها.

أما النوع الثاني فيبدو في متابعة كل ما حدث في بيت أهل احمد من أفعال متنوعة والانتقال من المكان إلى الشخصية الفردية، والشخصية الجمعية، (صبية)، (عجائز)، (جمع الحضور)...الخ، يعتمد الكاتب فيه على الأفعال السردية في التعبير عن الجدث المتحقق التي تقوم به الشخصيات داخل المكان.

6. أما إيقاع الحوار فيبدو في الترميز على مستويين (اللفظة، التركيب) و(الموقف، الحدث) لتقديم الإيحاء الشمولي بأطراف الحوار بما يقدمون من وجهات نظر مختلفة تعكس التفاعل في المواقف بين القناعة بالسلطة وعدمها.


المصادر والمراجع   


([1]) ينظر: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب: كامل المهندس ومجدي وهبة: مكتبة لبنان، ط2، بيروت، 1984: 71.

([2]) ينظر: الأسس الجمالية في النقد العربي، عرض وتفسير ومقارنة: عز الدين إسماعيل، دار الشؤون الثقافية العامة، ط3، بغداد، 1986: 36.

([3]) ينظر: إشكالية المكان في النص الأدبي، دراسة نقدية: ياسين النصير، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد: 22.

([4]) تاريخ الرواية الحديثة: رينيه، ساريه البيريس، ت: جورج سالم، بيروت، منشورات عويدات، 1967: 462.

([5]) ينظر: في الإيقاع الروائي، نحو منهج جديد في دراسة البنية الروائية: د.أحمد الزعبي، دار الأمل، المطابع التعاونية، ط1، عمان، 1986: 8.

([6]) دراسات في القصة العربية الحديثة، أصولها، اتجاهاتها، أعلامها: د. محمد زغلول سلام، منشاة المعارف، الإسكندرية، (د.ت): 11.

([7]) ينظر: فن القصة: احمد أبو سعد، دار الشرق الجديد، ط1، بيروت، 1959: 9.

([8]) ينظر: دراسات في القصة العربية الحديثة: 28.

([9]) الفتيت المبعثر- رواية - : محسن الرملي، مسعى للنشر والتوزيع، المنامة، 2014: 27-28.

([10]) م. ن: 67- 68.

([11]) م. ن: 20- 21.

([12]) نظرية الأدب: رينيه ويلك، واوستن وارين: ترجمة، محي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مطبعة خالد الطرابلسي، 1972: 81.

([13]) ينظر: بنية الشكل الروائي، الفضاء، الزمن، الشخصية: حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1990: 20.

([14]) ينظر: الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة: سعد عبد العزيز، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1970: 18.

([15]) ينظر: عالم القصة: برناردي فوتو، ترجمة د. محمود مصطفى هدارة، عالم الكتب، القاهرة، 1969: 231.

([16]) ينظر: في الأدب العربي المعاصر: الدكتور عبد القادر القط، دار المعارف، القاهرة، 1968: 44.

([17]) الفتيت المبعثر: 39 – 41.

([18]) ينظر: في الأدب المصري المعاصر: 177.

([19]) الفتيت المبعثر: 31.

([20]) م. ن: 130.

([21]) الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا: د. إبراهيم جنداري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000: 25.

([22]) ينظر: م.ن:25.

([23]) بنية الشكل الروائي: 117.

([24]) ينظر: تحليل النص الواقعي وتأويله: ديفيد لودج، ترجمة: د. الطيب بلغازي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، الرباط، 1997: 89.

([25]) باختين والزمن السردي الحديث: ستيسي بيرتن، ترجمة: محمد درويش، مجلة (الأقلام) بغداد، ع6، 1999: 45.

([26]) ينظر: بناء الرواية – دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ - : د. سيزا قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984: 45.

([27]) الفتيت المبعثر: 29.

([28]) م. ن : 42 – 43.

([29]) جماليات التشكيل الروائي – دراسة في الملحمة الروائية (مدارات الشرق) لنبيل سليمان: د. محمد صابر عبيد، و د. سوسن البياتي، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، اللاذقية، 2008: 129.

([30]) ينظر: جماليات المكان: جاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1988: 6.

([31]) ينظر جماليات المكان في ثلاثية حنا مينا: مهدي عبيد، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2011: 37.

([32]) ينظر: بنية الشكل الروائي: 29.

([33]) الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ الذهنية: د. إبراهيم جنداري، مجلة الموقف الثقافي، بغداد، العدد (24) لسنة 1999: 77.

([34]) الفتيت المبعثر: 10.

([35]) م. ن: 67- 68.

([36]) م. ن: 62-63.

([37]) ينظر: البناء الفني لرواية الحرب في العراق – دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة: عبد الله إبراهيم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 1988: 161.

([38]) ينظر: قضايا السرد عند نجيب محفوظ: وليد النجار، دار الكتاب اللبناني، المكتبة الجامعية، مكتبة المدرسة، ط1، بيروت، 1985: 191 -192.

([39]) الفتيت المبعثر: 83 – 85.

([40]) ينظر: ضحك كالبكاء: إدريس الناقوري، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 1986: 217.

([41]) في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد) : عبد الملك مرتاض، سلسة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998: 285.

([42]) وظيفة الوصف في الرواية: عبد اللطيف محفوظ، دار السير للنشر، المغرب، 1989: 38.

([43]) م. ن: 33- 34.

([44]) الفتيت المبعثر: 99.

([45]) م. ن: 41- 42.

([46]) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: سعيد علوش، دار الكتاب العربي، بيروت مطبعة المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1985: 78.

([47]) م. ن: 79.

([48]) الحوار القصصي تقنياته وعلاقاته السردية: د. فاتح عبد السلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1999: 32.

([49])الفتيت المبعثر: 60.

([50]) م. ن: 101.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت هذه الدراسة في (مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية)، مج25، ع3، آذار 2018م العراق.

https://search.mandumah.com/Record/1210167

 

ليست هناك تعليقات: