السبت، 10 سبتمبر 2022

قراءة في رواية تمر الأصابع / علي كاظم داود

صراع الهوية في رواية تَمْر الأصابع 

علي كاظم داود

تبدأ رواية (تمر الأصابع) عندما يُعتقل مجموعة من الرجال، من عائلة واحدة، بسبب خلاف مع الحكومة، فيُسجنون ويُعذبون، ثم يتعرضون لعقاب من نوع مختلف. عندما تعيدهم إلى قريتهم قوة عسكرية، يقول الفتى سليم: «ترجل الشرطة والعساكر بأسلحتهم وانتشروا في الساحة، فيما راح أربعة منهم ينزلوننا حملًا من الأذرع والسيقان، وقبل أن يرموا بأحدنا على الأرض اقتربوا به إلى الضابط النقيب ليسحب من الجيب البطاقة الجديدة التي أصدروها له، مبدلين ألقابنا جميعًا من (المطلق) إلى (القشمر). وكلمة (القشمر) في العامية العراقية توحي بالاستخفاف والاستهانة والإهانة، وتسم من تُطلق عليه بالغفلة والغباء. وفي قواميس اللغة الفصحى التي قلبتها لاحقًا، تعني: القصير، الغليظ المجتمع بعضه على بعض. ثُم أُلقيتُ على الأرض فآلمني ظهري. قالت أمي أول صحوتي: كنا نستلمكم جثثًا مع الهوية، والرعب يخرسنا. قلت: وجدي؟ قالت: بخير، لم يضربوه كثيرًا، لكنهم حلقوا لحيته وشاربه ورأسه مثل الجميع»، صحيح أن كلام سليم هو استعراض لحدث دال على ممارسات الهيمنة بحقه وحق رجال عائلته، غير أنه في غضون سرده للحدث يبين كيف تغيرت هويات الأفراد المُهيمَن عليهم، بقرار من السلطة؛ عقابًا لهم. مشيرًا إلى المعنى الوضيع للتسمية الجديدة التي أطلقتها السلطة على العائلة، على سبيل التنكيل بهم، ناسبًا التفسير إلى نفسه، لأن الأمر يمسه شخصيًا، فهو لقبه الجديد الذي يجب عليه أن يعرف معناه جيدًا. كما ينقل أيضًا تحليل الموقف من وجهة نظر الأم، في إشارتها إلى الرعب الذي كان يتلبس الجميع في ذلك الوقت المرير.

يهاجر سليم إلى إسبانيا، فتتغير حياته كليًا، ويلتقي بأناس كثر، تتباين هوياتهم وطباعهم، ومنهم الفتاة الكوبية جارته في البناية التي يسكن فيها، الفتاة التي صارت صديقته لاحقًا، يقول: «نقف قليلًا كلما تقابلنا على السلم. نتشارك معًا بالشكوى من الدكتاتوريات الحاكمة في بلدينا...»، فالشخصية توجز وجهة نظرها في كل المشاكل التي يعاني منها العراقيون، بوصف السلطة بأنها دكتاتورية، أي إنها سلطة هيمنة جائرة، ومنها تنبع المعاناة وإليها تنتهي. على الرغم من ذلك يبدي سليم اعتزازًا بهويته العراقية: «ماذا أقول لهذه؟! وهل ستفهم إذا قلت لها إن أول قانون في الدنيا قد شرعه حمورابي العراقي في مسلته؟»، ويقارن بين مشكلات العراقي ومشكلات الآخرين، بحسب ما يصادفه في حواراته معهم، كتلك العجوز التي تسكن معه في البناية نفسها، فيحدث نفسه عنها: «كيف أُفهمها موت إخوتي وأبناء عمومتي وجدي وحبيبتي عالية وإخصاء أبي والحروب، وهي تحدثني باكية عن كلب؟!»، فالعراقي كائن محمَّل بأعباء الوطن الثقيلة، أينما حلَّ وارتحل، وهي جزء أصيل في تكوين خطاباته، ولا يمكنه إلقاءها وراء ظهره متى شاء.

يبقى عِرق الانتماء للعراق نابضًا في جسد سليم، رغم مرور السنين، يدعوه إلى جمع التذكارات منه، يقول: «أقص أية صورة عن العراق أجدها في الصحف. أعلقها على الجدران، لذا ازدحمت بها، على مدى عشرة أعوام، جدران غرفة النوم والصالة والممر والمطبخ. المؤسف أن الصحف لا تنشر إلا صورًا مأساوية عن العراق، كالأبنية المتهدمة والدبابات المحترقة وذباب الأسواق الشعبية، وصورًا لصور الدكتاتور في الشوارع والساحات وواجهات العمارات. أعلقها في كل مكان باستثناء البقعة التي أصلي فيها خلف باب الصالة». فالتغيير في هويته قد يحدث بطريقة عكسية، أي أن يحافظ على جذوره وارتباطاته بالوطن الأصل، ولا يتحول إلى هوية جديدة، كل ما حوله يُلح عليه ويدعوه إلى حملها والتخلي عن هويته الأولى. كما أنه يشير إلى تمسكه بمكون آخر من مكونات هويته، أي الدين، ومحافظته على الصلاة، في ذلك البلد الغربي. غير أنه يبدي أسفه لما يحدث في العراق، من جراء ممارسات الهيمنة، التي ينسبها إلى الدكتاتور، وهذه الصفة بالذات لها حمولات ثقافية وسياسية واضحة.

يُصرِّح سليم بتمسكه الشديد بانتمائه الأول، رغم كل شيء، داخل شقته، فيقول: «كنت مكتفيًا بعالمي هذا، حيث أُمارس هويتي الأولى، حنيني، شوقي إلى أحضان أمي وإخوتي، إلى زيارة قبر عالية، إلى السباحة في نهر دجلة...»، لكنه لا ينكر بهجته بالمكتسبات التي وفرها له العيش في إسبانيا، بلده ومسكنه الثاني، فيقول: «صار يعجبني العيش هنا وسط هذه الحرية وهذا السلام، لذا فأنا منهم، من هنا، حين أكون خارج شقتي، أهتم بما يهتمون به: مباريات كرة القدم، مصارعات الثيران، أخبار الفنانين، سهرات نهايات الأسابيع... لكنني من أهلي، من هناك، حين أعود إلى شقتي وحيدًا»، إذ يكون سليم مضطرًا أو منساقًا مع ضرورات الواقع لمجاراة الحياة حوله، وأن لا يكون شاذًا أو غريبًا عنها كليًا، فالاندماج والتكيف من ضرورات توفير معيشة هادئة وبلا منغصات كثيرة للإنسان. هو إذن من هنا ومن هناك معًا، تزدوج في داخله الهوية وتتصالح، لكي تستمر الحياة، فهنا الحرية والسلام وتحقيق الذات، وهناك الأصل والجذور.

https://www.facebook.com/photo/?fbid=5305459272879198&set=a.204171533008023 

ليست هناك تعليقات: