حدائق الرئيس.. ألوان
العذاب والمرارة
اكتشفت عراقاً آخر غير الذي كنت أعرفه
محمد طلعت
محمد كمال
مصر
**حدائق الرئيس؛ عذاب القارئ والنفس، عذاب العراق والعراقيين... ليس لما تحتويه
تلك الحدائق، ولا لأن أرض العراق فعلاً ارتوت بما فيه الكفاية من دماء أبنائها، بل
إن صفحات الرواية تحمل من العذاب والمرارة ألوان وألوان..
"استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها،
ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماماً بفعل تعذيب
سابق لقطعها، أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح، لكل راس حكايته. لكل واحد من هذه
الرؤوس التسعة عائلة وأحلام وفجيعة نهايتها ذبحاً مثل مئات الآلاف من قتلى هذا
البلد الملطخ بالدم منذ وجوده حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولو كان لكل قتيل
كتاب لصار العراق بمجمله مكتبة كبيرة يستحيل حتى فهرستها"...
**نبدأ بأعضاء مجموعة (شق الأرض) ...
*عذاب (عبدالله كافكا)
مجهول الأبوين، رباه (صالح وزوجته) بعد أن حرما نعمة الإنجاب، عاش غريب بين أهله،
كان المتبقي له أن يعاير في الطرقات بأنه (ابن حرام) وحتى هذه لم تكن منه ببعيد
فقد قيلت له بشكل الطف أنه مجهول النسب فكيف نزوجك ابنتنا، كانت العسكرية بانتظاره
من معسكر لآخر، وإلى حرب إيران التي استمرت ثماني سنوات ثم معتقل في سجون إيران، لمدة
عشرين عام تقريباً، من سجن إلى سجن ومن عذاب لآخر لو ذاق فيها الموت لكان أهون
عليه، ثم العودة ليستمع ويعرف من أبويه، عاد من أسر إيران فارغ النفس، ميت في جسم
حي، أو حي بلا حياة، وبعد معرفة الحقيقة أصبح أكثر نقمة على من تسبب له في هذه
الحياة، وصندوق العسكري.
*عذاب (إبراهيم قِسمة)
دوماً يُفرض عليه الخيار وعليه تقبُله، وضع له أبوه نهاية مشوار التعليم مبكراً
ليتحمل معه أعباء فلاحة الأرض، ورعاية الأسرة، ثم تزويجه بمن اختاروها له، والحرب
الإيرانية، التي عاد منها سليم ظاهرياً، عقيم فعلياً بشهادة الأطباء، يحمل أعباء
نفسية لهول المشاهد في الحرب، ثم حرب الكويت، فقدانه قدمه، الشقاق الذي نبت بينه
وبين ابنته (قسمة)، مرض أبوه وموته، ثم مرض زوجته وموتها، ومعناته مع ابنته في
التعامل، إلى ما شاهد من أهوال داخل حدائق القصور الرئاسية، ثم موته بهذه الطريقة
دون معرفة الفاعل.. أهو هذا أم ذاك وإلى أي طائفة ينتمي؟
*(طارق المُندهِش) وإن
كان عذابه من سيطرة أبوه فقط عليه، لكنه تمتع بحياة أفضل منهم.
*ألوان العذاب والمرارة، والتي نجح الكاتب في جعل القارئ يتذوقها حد الشبع...
**الحروب المتكررة
والتي لا نهاية لها وما ينتج عنها؛ خسائر مادية تخص البلاد، الشهداء، الأرامل
والأيتام، العاهات التي تحدث للجنود، الأضرار النفيسة، العقم، وعود الزواج التي
تهدم لأن الشاب سيتزوج أرملة أخية لصيانة أسرته.
**مواقف الأبناء من الآباء
(قسمة) كانت ترى أن أبوها (إبراهيم) ناقصاً بعد فقده لقدمه، لا يدير حوار ولا يهتم
بمظهره ولا عطره، وكانت تقارنه دوماً في رأسها بـ(طارق) لأنه أنيق يفوح منه عطره،
يتحدث مع ابنه ويأخذ رأيه، لكنها أغفلت أن أبوها شارك في حربين، أهوال معارك هنا
وهناك، شارك أبوه مسؤولية الأسرة مبكراً بعكس (طارق)، فلم يشارك في الحرب وكان
أبوه ميسور الحال، فإنها لم تكن منصفه مع والدها وهذا حال الكثير من الأبناء مع آبائهم
في هذا العصر.
**الحصار الاقتصادي
الذي فُرض على العراق، وشح الكثير في المستلزمات وخاصة الطبي منها.
**مرض السرطان؛ وقد أصبح بمثابة السوس الذي ينخر في جسد
مجتمعاتنا العربية للأسف، لقلة الضمير ولكثرة الغش في كل شيء، لم أكن أتخيل أن
العراق هو الآخر يعاني أهله مثل ما يعاني المصريين من ذلك المرض اللعين، فقد أصبح
ظاهر للعيان أكثر من قبل.
**المعتقلات أو السجون، والحديث عنها هنا يتشابه كثيراً لما في روايات أدب
السجون لكبار الكتاب ولأكثر من جنسية عربية، ولكن المختلف هنا أن تتغير عقيدة
الشخص ويخرج ليحارب في صف إيران، بعد أن انسلخ عن جلده القديم، بعد إجراء (غسيل
مخ)، واستخدام المؤلف لفظة (إن ظهر عبدالله محروث).. عميقة، موجعة بشدة، أن تظل
العلامات والأثار ملازمة له، تذكره ليل نهار بما حدث معه.
**معاملة ذوي الاحتياجات
الخاصة؛ وهو ما حدث مع (زكية) من استغلال لحالتها (البَله) واغتصابها.
**طريقة مختار القرية في التستر على جريمة الاغتصاب، فقد
عاقب ابنه بالضرب الموجع مع إصابات، ثم نفيه خارج القرية أو البلاد طوال الحياة، والانتظار
لبعد ولادة (زكية) ولفترة أخرى ثم رجمها وقتلها بالرصاص ودفنها، مع أن علمي (أنها
لا تقع عليها عقوبة، فهي بمثابة المجنونة وقد رفع عنها التكليف فكيف بعقابها)
والأولى أن يُعاقب العاقل، ولكن للأسف أصبحت هذه هي موازين الحياة على أيامنا.
**فوارق القرية
والمدينة في الحياة والتجهيزات وغيرها، وتطلع الأجيال الحديثة للمدينة والبعد عن
القرية ومجهودها في الفلاحة وغيره.
**في العادة دوماً نبحث
عن المال ومعنا الصحة، ثم نفقد الصحة في مشوار البحث عن المال بمجرد وجوده، فنستغل
المال بعد ذلك للبحث عن الصحة والراحة، ولكن للأسف قد لا تأتي.
**الصداقة مواقف؛ فنجد موقف(إبراهيم) مع (عبدالله) وقت رد
عائد انتفاعه بالأرض والبيت، الأمانة التي صان بها حق صديقه وكيف تعامل (عبدالله) معه
موقف دامع للعين - وعلى النقيض موقف (طارق) من عرض زواج (عبدالله) بأخته وكيف أقنع
أبيه بالرفض (طبعاً دون علم صديقه) وإن لم يغير من صداقتهم شيء.
**العلاقة الزوجية؛
أساس البناء، فيها التعاون والتشاور والحنان، لا قسوة الهجران، الإخلاص لا
الخيانة... (إبراهيم وزوجته ولحظاتهم الأخيرة قبل وفاتها).
**اعتياد العمل وهو
مغلوب على أمره، وهو ما حدث مع (إبراهيم) حيث انتقل من بستاني في حدائق القصر إلى
حفار قبور، وما دفعه للاستمرار أمرين
1-إنه مغلوب على أمره،
ومعرفته بأنه لو طلب ترك العمل سيكون أحد المقبورين في قبور القصر.
2-وحتى يكفر عن ذنبه
نحو رفيقه (أحمد النجفي) الذي لم يستطع دفنه، بعد موته، فيقوم بدفن الأموات بطريقة
تليق بهم.
**لكل ذي سلطة ولا يسخرها إلا لخدمة نفسه وملذاته، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [ابراهيم: 42]
**اكتشفت عراقاً آخر غير الذي كنت أعرفه وأتعايش مع أخباره من خلال الصحف
والتلفاز، ولم أكن أتصوره بهذا الشكل أبداً.
**حتى أكون منصفاً؛ استمتعت بالرواية، فهي قمة في الروعة، من حيث الصياغة وبلاغة
الجمل ولغتها الفصحى بعيداً عن العراقية غير المفهومة.
**الكاتب أبدع وأخذنا
في جولة داخل بلاده، وإن كانت سريعة على المدن، دون وصف صريح لكل ما فيها، طباع
العراقيين في التعامل فيما بينهم، الحضر والبدو...
**جزء من الإهداء:
.."إلى كل
المظلومين في العراق:
.. أيها الأموات...
اعذروا حزننا المر عليكم... وارقدوا بسلام.
.. أيها الأحياء...
افعلوا كل ما بوسعكم من أجل التسامح والسلام".
*****عمل رائع جداً...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق