محسن الرملي… عنف التخييل وسيميائية الانتهاك
علي حسن
الفواز
تضعنا سرديات محسن الرملي أمام واقعية الانتهاك الجسدي، مثلما تضعنا أمام سردية الانتهاك الرمزي، والفعلان يرسمان مخططا سيميائيا لفكرة «انتهاك الإنسان» بوصفه مجالا رمزيا يحيل إلى انتهاك المكان/ الوطن، والمعنى والذاكرة، ففي سرديته الكولاجية «ليالي القصف السعيدة» الصادرة عام 2003، يتقصى الروائي وقائع العمليات العسكرية لقصف العراق، التي مهدت لاحتلاله، وانتهاكه، إذ يضع نفسه عند عتبة من يرى العالم مكشوفا على الكارثة، وما يساقط منها من تداعيات، تجعل من فعل الكتابة وكأنه مراقبة، واستقراء للحدث، ولمقاربة «تضادات العنوان» بوصفها حمولة رمزية يتضاد فيها الواقع مع السرد، فضلا عن ما تكشفه من انتهاك لكينونة الذات، والمكان والهوية، وصولا إلى ما التجوهر في انتهاك الإنسان العراقي ذاته، بوصفه الحامل الرمزي لشيفرات البلاد والمكان والهوية.
وفي رواياته «حدائق الرئيس» و«فتيت» و«أبناء وأحذية»، تتبدى سردية الانتهاك، عبر جملة من الإحالات، حيث مقاربة تاريخ السلطة والإنسان والمكان والذاكرة، وحيث مقاربة سردية الإنسان البسيط، المهمّش بوصفه ضحية وشاهدا، ليبدو الواقع أشد مرارة وتوحشا، وليتحول السرد إلى لعبة في تجاوز فضاء التخييل، إلى مراقبة موت التاريخ، وتقوّض المكان، وتغول السلطة عبر توحشها، واغتصابها، أو عبر الحرب والجنس، حيث يعيش معها الإحساس بالهزيمة، والانكسار في لعبة السحق والمحو.
هذه الرؤية المركبة،
تبدأ من مقاربة «سيميائية العنونة»، بوصفها عتبة تمثيلية للتحولات التي يتعرّض لها
المكان/ الحدائق، والتي تُحيل إلى نقيضها، إذ تتحول إلى مقابر، وميادين حرب،
يتشابه فيها القتلى/ الضحايا، وحيث يجد «إبراهيم قسمة» نفسه وكأنه واحد منهم، وأن
حضوره كشاهد يجعله يعيش رعب تلك النقائض، وكأنه ساردها الوحيد، السارد الذي ينسحب
من التاريخ والأسطورة، إلى لحظته اليومية الفاجعة، حيث يستعيد صديقه «عبد الله
كافكا» الذي يعيش الفقد الرمزي للأب، والمعنى والأصل، مقابل إحساسه بالانتهاك الذي
أفقده وجوده عبر الأسر في الحرب، حيث يعيش انتهاك الآخر والفقد الواقعي والإحساس
المرعب بالموت «أنا الضحية ابن الضحايا، أنا ابن القتلى حتى هابيل، لذا أستغرب
كوني لم أقتل فيها حتى الآن».
الزمن الدائري في الرواية هو زمن الشخصيات، تلك التي يتحول
وجودها إلى بؤر سردية تتفجّر مستويات حكاياتها عبر ثيمة ما يقترحه الروائي من
صراع، وعبر ما ينطوي عليه من إحالات وانزياحات تقوم على لعبة الخرق السردي، بوصفه
معادلا سيميائيا لخرق التاريخ، وتعرية ما صنعته الحرب والسلطة والاحتلال، حيث
الموت والقتل والاغتصاب والانتهاك والإخفاء. هذا الزمن، هو زمن المحذوف، حيث لا
يضاهي وجود الشخصية سوى موتها، وسوى ما يقترح لها الروائي من وقائع، هي شهادات أو
حكايات ثانوية للفضح، ولأسطرة ما يجري في «العوالم الرئاسية» من حروب صغيرة، أشدّ
وقعا وبشاعة، وأكثر إثارة للقراءة في تقصّي الإبهام والغموض، وفي مقاربة الشخصيات
ذاتها، بوصفها شخصيات مضطربة، تعيش الفقد والاستلاب الوجودي، ولتجد نفسها جثثا
صالحة للدفن، كما حدث مع شخصية الموسيقي المعروف «نبيل» الذي اصطنع له الروائي
وجودا رمزيا، دالا على قمع فكرة الصوت، والجمال، وإخضاعه بعد محاكمة ساخرة إلى
خيار أن يتحول إلى جثة تشبه الآخرين «تحولت هذه الجثث الليلية، هؤلاء القتلى إلى
كونهم الغالبية من البشر، بحيث يشعر بأنه واحد منهم».
إنّ اهتمام الروائي بمقاربة ثيمة الانتهاك الذي تتعرض له
شخصياته، يتحول إلى سردنة لمقايسة التحولات الحادثة في الواقع والسرد، ورصد تنويع
أفعال السرد مــــن جانب على مستوى البناء والتمثيـــــل والـــــروي، أو على
مستوى تنويع وظائفها، وهــــي تقـــارب ما يحــــدث في الواقع من جانب آخر، فبقدر
هذا التنوّع، لكنه يصطنع لها اتجاها واحــــدا، حيث الإبــــانة عن سرديات ما
تهجـــس به الشخصــــيات، وما تكون شاهدة عليه في الحرب وفي حدائق الرئيس، إذ تقوم
اللعبة السردية على تشابه تمثيلي، بين لحظة الفقد وساحة الحرب، وغرفة الرئيس وحديقة
الرئيس، ولحظة الأسر والاحتلال.
الحراك السردي في هذه
الرواية يقوم على وحدات، أو لقطات تؤدي مهام بناء سيناريو عمل سردي يقوم على فعل
المراقبة، وعلى مقاربة ما يتبدى من علاقات مشوهة، إذ يتضاعف فعله عبر المراقبة
اليومية لإخفاء الأجساد في مقابر الحدائق، حول ثيمة إخفاء الجسد، وهي أداور تقوم
بها شخصيات ثانوية، غامضة رغم أناقتها، لها قاموسها الاستلابي، ولها طاقة
استثنائية من السرد، حيث تمثيل الخوف والرعب والطاعة، وحيث تماثل الوظائف التي
تتشابه في النسق الذي تصنعه السلطة، والذي يجعل من الرئيس والجنرال والرفيق الحزبي
فلاح الحديقة، كائنات هي أقرب للخرافة، ولصورة الطاغية الذي يجد في لعبة السحق
تعبيرا عن شراهته للسلطة، وللسيطرة على الآخرين عبر انتهاك أرواحهم وأجسادهم.
في رواية «حدائق
الرئيس» يخضع توصيف فعل الانتهاك إلى رقابة السارد، إذ لا إيهام لها، حيث تتحول
الوظيفة إلى بؤرة سردية للوحدات الأخرى، وإلى محصلة دلالية تُحفّز على تتبع
وظيفتها وتحولها، من «فلاح» في حدائق البيت الرئاسي إلى وظيفة «دفّان» في الحدائق
ذاتها، وهذا ما يمحنها فرصة للرصد والتلصص، ورؤية العالم الخلفي للقصور والضحايا،
ولفضح أسرارها وجرائمها، تلك التي يبدو فيها فعل الانتهاك وكأنه استمرار لفعل
الحرب، بوصفها قناعا يتكرر وجوده في حكاياتها الطويلة، حيث يتحول الوجود إلى نقيضه
السيميائي، وإلى باعث للإشباع الغرائزي، وإقصاء الآخر، أو ربما لإخصائه الرمزي،
عبر إخضاعه لنسق السلطة، وصولا إلى اغتصاب ابنته من خلال إيقاعها في فخ متاهة
القصر الرئاسي، وهي لعبة سردية يشتبك فيها السحري مع المثيولوجي، مع الإيروسية
الفرويدية، حيث استحضار السرير، يعني الاغتصاب والمحو والسيطرة وطرد الآخر من
النسق.
استهلال الرواية هو
توصيف لتشكيلها المعماري، إذ تؤشر عبر زمنها الدائري التفاصيل، وهي تحمل نوعا من
السخرية، حيث شيفرة الموز، مقابل شيفرة صناديق الرؤوس المذبوحة، ولتقترح هذا
الموازاة «حكاية موازية» تحكيها الرؤوس للأحياء الذين صدمتهم اليقظة، وكأنهم
انتبهوا لما يمكن أن يجري، أو مراجعة للذي جرى، حيث فقد هوية عبد الله كافكا، وجثة
إبراهيم قسمة، ومتاهة طارق المندهش، واغتصاب قسمة وفقدان زوجها، وحيث عنف التخييل
السردي الذي تهجس به اللغة، وهي تضع واقعية الصورة الفاجعة أمام استعارة الفكرة
التي تجعل من إحالات «تشوهت، تمثيل، تعذيب، لقطعها» إحالات سردية تُحرّض على
قراءتها لكي يُعيد فك اشتباك الزمن الدائري، الذي هو زمن الحكي أيضا.
«في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة
صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية
التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها، أو بسبب تمثيل
بها بعد الذبح، فلم تعد ملامحها التي عرفت بها على مدى أعوام حياتها المنتهية،
كافية للدلالة عليها».
فعل التحول في الوظيفة، هو الذي يسمح بتشييد الرؤية السردية،
وعلى النحو الذي يجعل من صور العنف والقتل التي تضج بها الرواية، بدءا من
استهلالها، وحتى نهايتها ليس بعيدا عن الدائرة السردية التي تشبه دائرة الزمن،
وبما يجعل من تلك الصور وكأنها معادل رمزي لصناديق كثيرة، فيها رؤوس لا أسماء لها،
وربما تبحث عن حكايات لها، وأن ما يجمعها هو قيموتها على رمزية الانتهاك/ الموت،
وأن ما يجعل من حكاية «الرؤوس التسعة المذبوحة» هو شهادتها الفجائعية على موت
الوجود الذي صنعت أشباحه الحرب والسلطة والاحتلال «لكلٍ رأس حكايته، لكلِّ واحد من
هذه الرؤوس التسعة عائلة وأحلام، وفجيعة نهائية ذبحا مثل مئات الآلاف من قتلى هذا
البلد الملطخ بالدم».
-------------------------
*نشرت في
صحيفة (القدس العربي) العدد 10109 بتاريخ 7/12/2020 لندن.
https://pdf.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2020/12/Alquds-2020-12-07.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق