روايتان عن الحب الصادق رغم الحروب
د. بسام مرعي
عبد الله كافكا في حديثه لأنور:"الحقل
ثابت والحُب مُتحرك... فتحرَّك. ليس هناك أي حقل في العالم أهم وأجمل وأخصب من حقل
الحب، وهو الأحق بالرعاية والري والغرس كي يعطي ثماره".
الروائي الجيد قد يغنيك عن زيارة بلد ما، أو معرفة مجتمع ما، لأن معرفته بالواقع وبالتاريخ وبسمات مجتمعه وناسه، أمر قد يختصر لك المسافات والأزمنة، ليكون دليلاً إضافياً على معرفة واقعه وظروف بلاده والمفاصل الرئيسية التي عايشها.
في قراءتي لروايتي /حدائق الرئيس/ و/بنت دجلة/ للكاتب محسن الرملي، وعلى الرغم أن (بنت دجلة) هي الجزء الثاني، فقد يستطيع القارئ قراءتها كرواية منفصلة، ولكن ذلك التكامل والترابط مع الجزء الأول، يشعر به جيداً قارئ الجزأين في تلاحم يكتمل عراه في (بنت دجلة)، حيث الغوص أكثر في نفسية الإنسان العراقي المتأذي بشكل أو بآخر من ويلات الحروب التي عاناها، ومن الوجود الأمريكي الذي مازال جاثما يتجرعون إفرازاته وسموم وجوده.
هذا الكاتب العراقي حتى النخاع، العاشق لهواء الريف ومياه دجلة، تلمست مدى تعمقه في تفاصيل المجتمع العراقي الريفي، حيث النهر والأرض وخيراتها، ورائحة خبز التنور وبساطة الإنسان وحكم الزمان والمكان.
وبراكين الغضب من خلال حقبتين متتاليتين مختلفتين بالتفاصيل والسمات وطريقة الحكم، حيث زمن النظام السابق وسياساته من خلال حروبه مع إيران، واحتلال الكويت وتجنيد أرواح الشباب وأمالهم وبتر أحلامهم في سبيل ذلك، ومحاولته قضم الخرائط المجاورة، وما خلفتها تلك الممارسات من مآسي وكوارث على الشعب العراقي، والتي مازلت آثارها واضحة إلى الآن، وذلك من خلال رسم تلك الحقبة في لوحة عراقية موجعة، لكنها واضحة المعالم، وسردها في شكل روائي شيق ومثير، وعاكس للأحداث الدراماتيكية التي عاشها الأنسان العراقي، إبان تلك الأحداث والمفاصل الهامة في حياة العراق، ثم الدخول الأمريكي بعد سقوط النظام السابق، والإفرازات التي تركها هذا الدخول، وتأثيراته على الحياة الاجتماعية والسياسية، في تدخل مباشر للبلاد مكملاً مشهد الوجع وتشويه خارطة الوجود العراقي.
الروايتان تعكسان بشفافية معاناة الأهل، ويظهر ذلك جلياً في شخصيات محورية ثلاث، وارتباطاتها بما حولها، طارق بن ظاهر إمام المسجد، عبد الله بن شق الأرض الملقب بكافكا وإبراهيم بن سهيل الدمشقي، لتدور أحداث الرواية ملتهبة في جزأين مليئين بالأحداث والتناقضات، تتراوح بين سوداوية المشهد العراقي السياسي، ووطأة الواقع المعاش، ضمن سرد روائي سلس ممزوج بين الوجع والتشاؤم، ومشاهد كوميدية ساخرة وبين طغيان حكم العادات والتقاليد إلى التمرد عليها، التمرد الذي طفى على وجه الرواية من خلال شخصية قسمة، التي سادت في (بنت دجلة) واحتلت العنوان وتحريك الحوار والأحداث، مكملة أنفاس والدها التي اختنقت في الجزء الأول، لتنتعش من خلال بحث ابنته عن جسده المنزوع عن رأسه، تمرد واضح، تجلى في لغة أحاديثها مع الشيخ طافر، بوجود الضابط الامريكي وزوجها وضيوف الشيخ، عندما اقتحمت عليهم مجلس الضيافة في مشهد غير مشهود ومعتاد عليه للمرأة، لتبدأ بعدها مبارزة غريبة، هي مبارزة تفوق الأنوثة أو الرجولة، متجاوزة الأعراف في مشهد هزلي ساخر.
كعكة العراق تقضم من قبل الكل، والكل محموم للحصول على حصته، بدءاً من المتدخل
الخارجي، ومن قبل بعض أبناء الشعب المستفيدين الذين يتنافسون عليها، حيث الفساد
يستشري في كل مفاصل البلاد، لتتحول إلى مستنقع متعفن مليء بالأزمات والفساد
السياسي والطائفية.
لا تخلو الروايتان من مشاهد دموية بشرية صادمة وخطف وتناقصات عدة، ليتحول
السرد إلى مشهد سينمائي مرعب، والذي عاش في العراق، لا يستغرب هذه المشاهد، سواء
الذبح منها أو الخطف والقتل والسلخ والسحل.
و بالرغم من قتامة المشهد الروائي وسوداويته، لكنه لا يخلو من بصيص أمل، ليتم
التأكيد في أكثر من موقف على كرامة الانسان العراقي المهدورة، والتي يحاول من خلال
بعض شخصيات الرواية الحفاظ عليها، كموقف عبد الله كافكا مع والده جلال الدين،
وموقف طارق بعد قراره الرجوع إلى قريته، وشعوره بالراحة عندما اقترب من القرية،
وكأني به قد تخلص من شرور كادت تنهك نفسه التي كادت تقوده إلى غير ما يرغب، وكذلك
ترك قسمة لمصيرها المشكوك فيه والمليء بالتناقضات، وقسمة التي عاقبت نفسها
المتناقضة، لتنعم أخيراً بذبح كانت تتوق له لتعيش مشاعر أبيها الراحل.
تنطوي الروايتان على مشاعر الحب الصادقة التي تعيش وتكبر رغم شبح الحروب،
مؤكداً عليها في الجزأين كمثال عبد الله وسميحة، وكدليل على أن الحب قد ينمو رغم
الظروف وبه نتحدى الواقع وفلسفته العبثية... وكأني بالكاتب يحاول بهذه الطريقة، أن
يضيء النفق المظلم ليؤكد أن الإنسان أمل وحب وحياة.
https://www.facebook.com/1675483022721843/photos/a.2055899981346810/2703588643244604/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق