حدائق الرئيس.. بين التناص والإيحاء..
لمحسن الرملي
صباح
هرمز
هذه
هي الرواية الرابعة لمحسن الرملي التي أقرأها، كما قرأت الروايات الأخرى بتمعن
وأكثر من مرة. وهي الرواية الأطول، بعد روايته (ذئب الحب والكتب) من بين رواياته
الثلاث الأخرى البالغ عدد صفحاتها (324) صفحة، بينما روايته (الفتيت المبعثر) هي
أقصر رواياته الخمس، والبالغ عدد صفحاتها ست وثماني صفحة، بعد إضافة الجزء الثاني
من روايته (حدائق الرئيس) التي من المؤمل صدورها عن قريب. جئت بهذه المقدمة وفي
داخلي أقول، كلما تناولت رواية لمحسن الرملي، وبدأت بقراءتها، أجد نفسي من السطور
الأولى، أسيرا لها، ومشدودا لمتابعة أحداثها إلى النهاية. وندرة من الروايات
العراقية والعربية بوسعها أن تشد المتلقي اليها، وإنما بالعكس، بقدر ما تجعله ينفر
منها. وهذه إحدى أهم وأبرز إشكالات الرواية العراقية على وجه الخصوص، والعربية
عموما. ذلك أن مفتاح نجاح أي رواية، مرهون في ماهية صياغة استهلالها، وعدم غلق
مفاتيح نهايتها، وفي معظم رواياته، تحديدا هذه الرواية، فقد أهتدى الرملي إلى هذا
المفتاح. وهذا ما سنتناوله لاحقا.
تدور أحداثها في إحدى القرى التابعة لمحافظة
الموصل، وهذه القرية تكاد أن تكون القرية نفسها التي تناولها في روايتيه: (أصابع
التمر) و(الفتيت المبعثر). ولعل تكرار وقوع أحداث رواياته في قرى تتشابه بعضها مع
البعض، دليل واضح على أنه يستمد أحداث رواياته من واقع حياة قريته (سدرة) التابعة
لقضاء الشرقاط، حيث تدور أحداثها حول ثلاثة أصدقاء هم: عبدالله كافكا، إبراهيم
القسمة، وطارق المندهش، الذين تجمع بينهم صداقة قوية منذ صغرهم، إذ ولدوا الثلاثة
في العام نفسه 1959. ولشدة أواصر هذه العلاقة ومتانتها، لا يمكن لأي قوة أن تفرق
فيما بينهم إلا قوة الظلام التي تلف القرية ليلا، ما يضطرهم لأن ينصرف كل واحد
منهم إلى منزله للنوم، بعد قضاء طول النهار معا. ولهذا: ((أطلقت عليهم تسميات
مختلفة، مثل (الثلاثي الأبدي)، أو (الثلاثي المرح)، أو حتى (الثلاث مؤخرات في لباس
واحد)، أو (الثلاث خصيات)، ما عدا التسمية التي اشتهروا بها والأكثر تداولا كانت:
(أبناء شق الأرض)): (معا أصيبوا بمرض الحصبة ومعا شفوا منها، معا تعلموا المشي والسباحة
وصيد العصافير، تربية الحمام، سرقة البطيخ والرمان وألعاب الرماية والاختباء
والقفز العالي وكرة القدم. معا دخلوا المدرسة وكانوا يدافعون عن بعضهم أمام اعتداءات
بقية التلاميذ، ويدرسون للامتحانات وسط الحقول أو في غرفة أحدهم.).
وعلى
الرغم من الألفة والمحبة التي تجمع بين الأصدقاء الثلاثة، إلا أن كل واحد منهم
يتمتع بمزايا تختلف عن مزايا شخصية صديقيه. فعبدالله كافكا مثلا: (كل شيء عنده
أسود، فهو شيخ المتشائمين بلا منازع)، وقوعا تحت تأثيرات أفكار سارتر الوجودية،
ذلك أنه فضلا عن ذلك يجهل والديه، وظل عشرين عاما أسيرا في سجون إيران، أبان الحرب
العراقية الإيرانية. أما إبراهيم الذي كان: (أقواهم بدنا وأكثرهم هدوءً وطيبة)،
فقد بترت إحدى ساقيه في حرب الخليج، وعمل فلاحا في حدائق الرئيس، فحفار قبور، واغتيل
مع ثماني جثث أخرى من قريته، لتوثيقه الأماكن التي دفنت فيها ضحايا النظام في
حدائق الرئيس التي تحولت إلى مقبرة للدفن الجماعي قبل حرب الخليج. بينما كان طارق:
(أكثرهم عناية بمظهره وشغفا بالقراءة والبنات، يشبه والده في الكثير من الصفات،
لكنه أطيب منه قلبا، ودرس في المدرسة التي درس فيها والده بعد أن تحولت إلى معهد
للشريعة). كما إن والد طارق، (ظاهر)، ووالد إبراهيم (سهيل الدمشقي) صديقان، ولكن
ليس على غرار صداقة طارق وإبراهيم ومستوى حجمها، وذهبا مع قطعات القوات العراقية إلى
حرب فلسطين عام 1948. ولهذا الحدث حكاية طريفة، وإن بدا هذا الحدث كذلك، أي بقالب
كوميدي، ويدعو إلى السخرية، غير أنه من أهم أحداث الرواية وأبرزها، بتحوله إلى
تراجيديا، أثر اقترانه بمقتل أم عبدالله. (وهذا ما سنتناوله لاحقا أيضا).
تبدأ
الرواية من حيث تنتهي، والقرية تستيقظ على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس
مقطوع لأحد أبنائها، ومن بينها رأس إبراهيم. لتذكرنا هذه الصناديق بصناديق الأحذية
في روايته (أبناء وأحذية)، وأول من يراها، خال عبدالله كافكا، الراعي الأبله
إسماعيل: (ليتخلص من شعوره بالذنب الذي ظل يلاحقه في الكوابيس، بسبب قطعه للسان
عنزة أزعجته... بعد أن راح يصرخ... حتى أبصر بعض الناس يهرعون اليه، ثم كل الناس
من كل البيوت...).
تنبني
حبكة الرواية، لسعي معظم شخصيات الرواية في تخلصها من (الشعور بالذنب)، على هذه
الجملة، ولاسيما الأصدقاء الثلاثة الذين فرقتهم الحرب عن بعضهم البعض، أو تأنيب
الضمير التي رافقت بقية شخصيات الرواية في حياتها، لسوء تصرف بدر منها، وتتكرر ست
مرات. في المرة الأولى كما هو واضح من قبل إسماعيل الراعي، لقطعه لسان الماعز، وفي
المرة الثانية من قبل إبراهيم تجاه صديقه أحمد النجفي الذي أستشهد في الحرب، لأنه ترك
جثته في الصحراء ولم يأخذها إلى أهله، وفي المرة الثالثة من قبل قسمة، لتعاملها
بشكل جاف وسيء مع والدها، والرابعة لما سيتركه جلال من سمعة سيئة لوالده، نتيجة
طيشه وتهوره بممارسة الجنس مع(زكية) أم عبدالله كافكا، الأمر الذي يؤدي بها إلى
الحمل منه. والخامسة أثناء ذهاب عبدالله مع طارق وقسمة، بحثا عن جثة أبراهيم،
والسادسة، لتكرار ندم إبراهيم ثانية وشعوره بتأنيب الضمير، جراء تركه لجثة صديقه
في العراء.
لم
يأت شعور الشخصيات بالذنب أو تأنيب الضمير عن فراغ، بقدر ما جاء عن التحول الذي
طرأ عليها من فعل الشر إلى فعل الخير، واصطدامها بمفاجآت لم تكن تخطر ببالها، فقد
أدى بإسماعيل الراعي إلى تجاوز حالة الخرس التي أصابته أول رؤيته للرؤوس في صناديق
الموز، ربما لعدم توقعه لما يراه بأم عينيه، وأغلب الظن أنه لأول مرة يرى رؤوسا بشرية
بلا جثث، وبإبراهيم إلى مصرعه، وسقوطه شهيدا، لقيامه بتوثيق الضحايا في القبور
التي دفنت فيها، إخلاصا لصديقه أحمد النجفي الذي لم يستطع دفن جثته. وقسمة من
نفورها من والدها إلى البحث عن جثته بهدف دفنها في مكان يليق بتضحيته بوصفه بطلا
تفتخر به، مثلها مثل موقف أنتيجونا في دفن جثة شقيقها، وبجلال إلى الاعتذار من
أبيه.
وإذا
كانت هذه التقنية قد أدت إلى التحول في معظم شخصيات الرواية من السلب إلى الإيجاب،
ما عدا شخصية طارق، فإن أود زكية رجما بالحجارة وهي موثوقة اليدين والرجلين في
حفرة، حفاظا على سمعة المختار لحملها من أبنه، لا تقل شأنا عن تقنية ماركيز في
مائة عام من العزلة في أسلوبه المعروف بالواقعية السحرية، وهو يجعل من (ريميديوس)
تطير محلقة في السماء، وهي تنشر الملابس فوق سطح المنزل. ويتطابق كلا النموذجين،
نموذج الرملي مع نموذج ماركيز، بتهمة الزنا التي ألصقت ببطليهما ريميديوس وزكية،
ولكن بقتل بطلة الرملي، وصعود بطلة ماركيز إلى السماء، حفاظا على سمعة كلا
الفتاتين والأسرتين. وبالمآل صعود كليهما إلى السماء.
مائة
عام من العزلة:(في اللحظة التي بدأت فيها ريميديوس الجميلة ترتفع في الجو. كانت
أورسولا هي الوحيدة التي احتفظت بالهدوء لتحدد طبيعة تلك الريح التي لا راد لها،
فأفلتت الملاءات، وهي ترى ريميديوس تلوح لها بيدها مودعة... ظن الغرباء أن
ريميديوس قد استسلمت أخيرا لمصيرها المحتوم كملكة نحل، وأن أسرتها تحاول إنقاذ
شرفها بخرافة صعودها.).
حدائق
الرئيس:1- وأد زكية: (أوقفها في وسط الحفرة وتناول من تحت أبطه قطعة قماش بيضاء،
وحين فتحها كانت على شكل كيس كبير. كانت كفن. ألبسه في رأسها فبدت كشبح واقف في
وسط الحفرة.. فارتعبت هي حين احست بقوة الشد والربط على جسدها، تململت محاولة
التملص لكن المختار صرخ بأذنها عاليا أن تتوقف، فيما ظاهر يقول لها: هذا من أجلك
انت ومن أجل روحك.. ما هي لحظات قليلة وينتهي كل شيء فتجدين نفسك في عالم أكثر
راحة... ثم رأيتهما يتناولان حجارة ويشرعان برجمها وهي تصيح حتى سقطت، أو أسقطوها ممددة
في الحفرة...).
وهذا المشهد، مشهد رجم الحجارة، ليس جديدا لا
على الرواية العالمية ولا العربية، لأنه سبق وأن وظف قبل هذه الرواية بروايتين
أخريين، هما (الإغواء الأخير للمسيح) لكازانزاكي، و(عزازيل) ليوسف زيدان. وبهذا
فإن هذه الرواية إلى جانب تناصها مع مائة عام من العزلة، فهي تتاخم بالتناص مع
هاتين الروايتين أيضا.
كما
أن تأجيل جدة عبدالله كافكا لموتها لحين عودة حفيدها من الأسر، هو الآخر يدخل ضمن
أسلوب ماركيز في الواقعية السحرية، ذلك أن تحكم الإنسان بمصيره، كما في جدة
عبدالله، مثله مثل طيران ريميديوس، لا يمكن تصديقه على أرض الواقع، ولكن بالعكس يصبح
مقبولا هذا اللا واقع، عندما يترجم إلى الفن، أو يصير فنا: ((لم يكن عبدالله كاذبا
حين قال بأنه أبن شق الأرض، فهذا ما كان يعرفه آنذاك، وهذا ما يعرفه الجميع. أما
الآن وهو يقترب من الخمسين من عمره، فهو الوحيد الذي يعرف أصل الحكاية، أعلمته
بحقيقته زوجة المختار التي كانت تؤجل موتها حتى عودته من أعوام الأسر الطويلة في
إيران.).
مثلما
تعول هذه الرواية بالتناص مع رواية مائة عام من العزلة، كذلك فهي تعتمد على النهج
نفسه في تناصها مع مسرحية (أنتيجونا) لإسخيلوس وسوفوكليس، وذلك من خلال إصرار قسمة
على دفن جثة والدها، شأنها شأن أنتيجونا التي تطالب خالها كريون بدفن جثة شقيقها. وكلاهما
أنتيجونا وقسمة يلاقيان العقبة ذاتها، وهي عقبة السلطة، متمثلة في أنتيجونا
بكريون، وفي روايتنا هذه بالرئيس.
مسرحية
أنتيجونا:
-
أنتيجونا: وعلى ذلك فإن أحد هذه الأوامر هو الذي منعني من أن أترك جثة أخي بدون
دفن، فلو أن أمرا عد عملي هذا حماقة لكان هو نفسه الأحمق.
حدائق
الرئيس:1- (وحدها قسمة الأرملة التي صارت يتيمة الأبوين منذ هذا الفجر، اعترضت
وأرادت الإبقاء على رأس والدها إلى أن يتم العثور على جثته، لكن اعتراضها ذهب سدى
حين واجهها الرجال بالرفض.) ص10- 11
2-
(في النهاية حسمت قسمة الأمر وقررت أن تذهب إلى بيت عبدالله كافكا، فهو الوحيد
الذي بإمكانه مساعدتها على تنفيذ نيتها بالبحث عن جثة أبيها.) ص31
تتمركز
هذه الرواية في محورين، أولهما دكتاتورية الرئيس، والثاني في تخلف الدين، وكلاهما
يلتقيان مع بعضهما في نقطة واحدة، ألا وهي كبت حرية الفرد، من أجل إعلاء شأنهما،
خدمة لمصالحهما الشخصية، كما حدث للمغني المعروف الذي قتل على يد الرئيس، لأنه صرح
بعدم وجود الديمقراطية في البلد، أو لأن التقرير الذي وصله عن المغني، يحتوي هذا المعنى.
وكما حدث لزكية التي قتلت على يد المختار وظاهر باسم الدين، لتضل الفضيحة التي
أرتكبها أبن المختار بحق والدة عبدالله (زكية) شبه المعتوهة. هذا من ناحية الحد من
الحرية الممنوحة للفرد لكلا الطرفين، وإن يعد الفرد أنموذجا في الفن. أما من ناحية
الحد من الحرية الممنوحة للعامة، فتتمثل في الحروب التي خاضها الرئيس مع إيران
ودول الخليج، دون أن يأخذ رأي الشعب بها، وهو يقود شباب العراق نحو هاوية الموت.
وإذا كان الرئيس يبيد شعبه علانية، فإن الدين متمثلا بشخصيتي ظاهر والمختار، يبديه
خفية، لتغطية مثالبه، وإبراز نفسه بالأنموذج، كما حدث في التهدئة السحرية، وحرب
فلسطين، وحمل زكية، ورفض زواج سميحة بعبدالله. ولبلوغ السارد التناقضات القائمة في
فكر الشخصيتين اللتين تمثلان الدين، يعمد إلى إجراء وجه المقارنة بين كل أثنين من
هذه الأحداث. التهدئة السحرية مع حرب فلسطين، وحمل زكية مع رفض أبنته سميحة التي
تحب عبدالله الزواج به.
لعل
إطلاق السارد للصفقة التي عقدها ظاهر مع أهل العريس والعروس، ليتزوج العروس في
الليلة التي قتل فيها عريسها بالتهدئة السحرية، أنسب توصيف لخداع الناس السذج، عبر
ترديد بعضا من الآيات القرآنية. ذلك ان مثل هذا الزواج لا يتم إلا عن طريق السحر
والدجل والضحك على ذقون الناس البسطاء، وظاهر يمتلك هذه القدرة، قدرة أن يظهر
بمظهر الرجال الأكابر، مع أنه من أجبن الناس على الكرة الأرضية قاطبة. ولجبنه هذا
حكاية أخرى، مع سهيل الدمشقي، والد إبراهيم، في حرب فلسطين عام 1948: (حين انفجرت
قنبلة قربهما قذيفة مدفع بال ظاهر في سرواله، وأنقلب سهيل على ظهره من شدة الضحك،
فيما أنقلب ظاهر على بطنه من شدة الخوف، وهو يرتعد ويبكي بهستيريا. وبعد عشرة أيام
نبتت دملة في أنف سهيل، أدت إلى تآكل أنفه... كان لابد لهما أن يتفقا على ما
سيقولانه عند عودتهما إلى القرية، وكان اكثرهما حرصا على هذا الأمر هو ظاهر،
ففضيحة أن يبول الرجل في سرواله جبنا أشد وطأة من فقد الأنف بسبب دملة وسط ظروف
المعركة... وتعاهدا عهد رجال أبدي بأن يستر أحدهما الآخر ويتكتم على سر صاحبه حتى
الموت.). ولم يكتفيا بهذا العهد فحسب، وإنما قررا أن يظهر الواحد الآخر، أمام أهل
القرية بالبطل من خلال دفاعهما المستميت عن فلسطين.
وهنا
يتجلى التناقض في شخصية ظاهر، من خلال هذه المقارنة، مقارنة بين قوة إقناعه للناس،
عبر الآيات التي يحفظها عن ظهر قلب، وبين ضعفه في ساحة الحرب، أي أن ظاهرا لو جرد
من هذه الآيات، لعاد إلى طبيعته الأصلية، وأصبح إنسانا عاديا كأي إنسان آخر، بدون
سحر، وزواج بعروسة في سن أبنته. والمقارنة الثانية التي يلجأ اليها السارد لتوضيح
هذا التناقض في شخصية ظاهر هي في رفضه لعبدالله الزواج بأبنته، تحت ذريعة كونه أبن
الزنا، وما زاد بلة هو أن أقرب أصدقائه وهو طارق شقيق سميحة، ضاعف من إصرار والده
على رفض طلب عبدالله، بمسوغ التشاؤم والكآبة اللتين لا يستطيع التخلص منهما، فضلا
عن الكسل الذي هو واحد من أبرز صفاته، ولكنه لم يذكر السبب الثالث الذي إن دل على
شيء، فإنما يدل على تخلف الإنسان الشرقي بامتياز، وهو ضخامة عضو عبدالله. وهذا ما
لا يستطيع طارق تصوره واحتماله.
إن
السارد بإحاطته لما يدور في دواخل شخصياته، بقدر ما يعتمد هذا الأسلوب على السارد
العليم الذي يستعين بضمير الغائب، فهو بالقدر ذاته يلم الوجه الآخر المخفي للشخصية
العراقية بوجه خاص والشرقية المتخلفة عموما. بالأحرى أن ما أود بلوغه هو أن ظاهرا
لم يجد نفسه أبن زنا، عندما بال على نفسه، وهو يخوض غمار عمل مقدس على أرض فلسطين،
بينما وجد في عبدالله أبن زنا الذي لم يأت إلى الدنيا بإرادته، كما أنه يعد
عبدالله كذلك، ويبرئ نفسه بوصفه أبن زنا، عندما جلب معه العروس وهي ملطخة ببعض
قطرات من دمها ومخدوشة الوجه. وأخيرا أنه لم يجد نفسه أبن الزنا وهو يقتل الضحية رجما
بالحجارة، ولا في أبنه طارق أبن زنا الذي أعتدى عليها، لتصبح قربانا لآيات الأب
وشهوانية الأبن.
كما
في روايته أبناء وأحذية، كذلك في هذه الرواية، أستخدم الرملي تقنية الإيحاء، لتتكرر
خمس مرات. يأتي هذا الإيحاء في المرة الأولى من قبل أحمد النجفي الذي أصبح صديقا
لإبراهيم في جبهة القتال أبان حرب الخليج، وهو يخاطبه بهذه الجملة قائلا: (أنا
حزين هذه المرة يا إبراهيم، حزيييييييين وفي صدري هاجس غير مريح، ربما قلق، ربما
هو خوف.. لا أدري بالضبط، ولكن قلبي منقبض وينبئني بما هو أسوأ.). وبغض النظر عما
جاء في حواره مع إبراهيم من معان دالة على أن النجفي يشعر بدنو موته، فإن مفردة
حزين بتعدد ياءاتها وتطويلها، كافية لأن تمنح الإيحاء إلى الموت.
وفي
المرة الثانية عبر الإيحاء إلى نفور أبنته (قسمة) وهي طفلة صغيرة منه، بعد عودته
من الحرب بساق واحدة: (فيما أبنته قسمة احتضنته، أو في الواقع هو الذي أحتضنها ثم ابتعدت
تنظر اليها بغرابة وإلى ساقه الممددة كالعصا الغليظة بلا قدم.). وفي المرة الثالثة
بالإيحاء في انجذابها إلى طارق: (إعجابا بأناقته وعطره النفاذ، وثقته العالية
بنفسه وهو يتبع الحكاية بأخرى والنكتة بأقوى...)، ليستمر نفور قسمة من والدها حتى
بعد زواجها، تحديدا إلى مقتل زوجها على يد الرئيس، حيث كانت تتعامل معه طوال هذه
الفترة بشكل جاف وحاد، كما أدى إعجابها بطارق منذ طفولتها إلى القبول بطارق زوجا
لها بعد مصرع زوجها.). وفي المرة الرابعة عندما تقول جدة عبدالله لحفيدها: (يا
سبحان الله، إن الدم يعرف الدم، إن القلب يعرف القلب ويحن إليه.). في إشارة واضحة إلى
أنه ينحدر من دمها. ويرد عليها قائلا: لم أفهم يا خالة. عندها تقول له: (أنا لست
خالتك، إسماعيل هو خالك الحقيقي. أما أنا فجدتك). ولكي يتيقن من السر الذي باحته
له، ولا يعرف بحقيقته إلا شخصين آخرين، هما المختار وظاهر، فقد أخذته إلى قبر أمه،
حيث دفنت.. وفي المرة الخامسة بالإيحاء إلى موت زوجة إبراهيم، وبلغت عدد الصفحات
الذي أحتله هذا الإيحاء بحدود ثماني صفحات، وهي مجموع الصفحات المكرسة للرقم (20) للعنوان
الفرعي الموسوم (باقة ورد وبرتقال). ولزحمة تضمين أعداد الإيحاءات الكبيرة في هذا
المقال والبالغ أكثر من ثلاثين إيحاء، سأحاول الاكتفاء بما أجده ضروريا، بعد إيجازها:
-
ما ان رأته زوجته مقبلا عليها حتى تهلل وجهها...
-
فيما تفتح قلب إبراهيم كبيت أضيئت مصابيحه...
-
كانت مستلقية على سرير المرض واستقامت جالسة...
-
أشرعت ذراعيها لاستقباله على الرغم من ان إحداهما كانت موصولة بخرطوم مغذ.
-
ابتسمت بعذوبة، سحرت إبراهيم...
-
كأنهما يلتقيان لأول مرة...
-
انحنى وأحتضنها طويلا، وشمت رقبته وشم رقبتها...
-
وبفضل ضوء الصباح رآها كأجمل امرأة في الدنيا...
-
أصر إبراهيم على أن يطعم زوجته بيده...
-أخبرته
بأنها أفضل ولكنها بشوق إلى بيتهم في القرية...
-
سارا في الممر الأبيض كطفلين شاعرين بلذة هذه اللحظات..
-
وحال جلوسها في الحديقة قالت أنها ترغب بلمس العشب، فأراد أن يحش لها قبضة منه،
فمنعته قائلة أنها ترغب بلمسه في أرضه...
-
أنا اسامحك عن كل شيء يا إبراهيم...
-
تعانقا وهمست لأول مرة في أذنه في حياتهما: أنا أحبك...
-
استعادا بعض ذكرياتهما في القرية وطرائف من طفولتهما والجيران والفلاحين وضحكا
لأكثر من مرة.
-
طمأنها على أنه بخير وان الشيء الوحيد الذي ينقصه هو شفاؤها وعودتها إلى البيت
-
وصيتي الوحيدة لك أن تكون صبورا مع قسمة.
-
كما أوصيك أنت بنفسك...
-
أمضى اليوم كله بصحبتها ولم يتركها حتى نامت وكفها نائمة في كفه...
-
قبل جبينها وعاد ماشيا إلى البيت.
-
نظر من هناك إلى مبنى المستشفى وحاول أن يخمن خلف أي من تلك النوافذ المتراصة ترقد
زوجته. ظن أنه حددها فركز بصره.
-
قالت: كل شيء قسمة ونصيب.
-
أفطر، أستحم، تعطر، وأرتدى بذلة الأمس. أشترى عشر برتقالات من دكان الحارة... توجه
إلى كشك بيع الورد...
-
أبسما حد الضحك تقريبا، كأنهما يتآمران.
-
دلف إلى المستشفى مسرورا...
-
ولكنه عند وصوله إلى سريرها وجده فارغا...
يذكرني
هذا العدد من الإيحاءات برواية (بغداد مالبورو) لنجم والي، لأنه هو الآخر أستخدم
عددا غير طبيعي من الإيحاءات في روايته، ولكن ليس بالحجم الموظف في هذه الرواية.
قلت
في بداية المقال، أن نجاح أي رواية مرهون في ماهية صياغة استهلالها، وعدم غلق
مفاتيح نهايتها، وفي معظم رواياته، تحديدا هذه الرواية، فقد أهتدى الرملي إلى هذا
المفتاح.
يقول
الدكتور جودت هوشيار :((مفتاح الرواية أمر حيوي وبالغ الأهمية،
ويجب ألا يضجر القارئ بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وألا يقحم الكاتب
فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الاستطراد غير الضروري بل أن
يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها وأن يكون مركزا
وقصيرا وواضحا وضروريا في سياق الرواية ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة عل نحو
يثير الاهتمام والفضول... الاستهلال هو الذي شكل عند المتلقي الانطباع الفوري عن
الرواية وهل تستحق أن تقرأ؟))1.
أبدأ
من السؤال الأخير الذي يطرحه الدكتور هوشيار، وأقول هل حقا أن رواية (حدائق
الرئيس) تستحق القراءة؟ إن الإجابة على هذا السؤال بسيط جدا، لو جاء بالصيغتين
التاليتين، وهما لو لم تكن كذلك لما قرأتها وتصديت لها، أو أنها تطبع للمرة
الثالثة. يقينا لا أقصد مثل هذه الإجابات الجاهزة، بقدر ما أبغي قراءة ما وراء
سطورها.
يستهل
السارد روايته بجمل قصيرة في السطور الخمسة الأولى منها، وبحدث يثير فضول المتلقي،
وبسرد يبلغه شروعها من حيث انتهت، مانحا لكل جملة من السطور الخمسة معناها الخاص
بها، لتصبح على النحو التالي بعد تجزئتها:
-
في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز.
-
في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها.
-
ومع كل رأس بطاقته التي تدل عليه.
-
لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق أو لقطعها أو بسبب تمثيلها بعد الذبح.
-
فلم تعد ملامحها التي عرفت بها على مدى أعوام حياتها المنتهية كافية للدلالة
عليها.
بغض
النظر عن قصر الجمل التي تجذب الانتباه، فإن حدث مصرع تسع جثث لقرية صغيرة، يعرف
الكل آخر طفل ولد فيها، ليس حدثا طبيعيا، إن لم يكن في منتهى الغرابة، وتزداد
غرابته عندما تقترن مشاهدته من قبل شخص شبه معتوه، ألا وهو إسماعيل الراعي، ذلك أن
هذا النمط من الشخصيات أكثر اندهاشا من الشخصيات الاعتيادية في اصطدامهم لمثل هذه
المواقف. لذلك فإن صراخ إسماعيل الذي خلصه من شعوره القديم، جاء وقوعا تحت تأثير
هذا الاندهاش.: (راح يصرخ بأعلى صوته حتى جفلت حمارته، توقف قطيع أغنامه، وطارت
الحمائم والعصافير من على الأشجار والسطوح. ظل يصيح دون أن يدرك تحديدا ما الذي
كان يقوله في صرخاته التي بدت شبيهة بثغاء تلك العنزة التي قطع لسانها وشواه.. حتى
أبصر بعض الناس يهرعون اليه من بعض البيوت القريبة، ثم كل الناس من كل البيوت بعد
أن رفع أحدهم النداء عبر مكبرات صوت المسجد.).
واتساقا
مع وجهة نظر هوشيار، فقد حقق الرملي الجانب الأول في استهلال روايته، وهو إعطاء
معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسة فيها، وأن يكون مركزا أو قصيرا
وواضحا في سياق الرواية، وذلك من خلال شخصيتي، إبراهيم وإسماعيل الراعي، ويليهما
عبدالله كافكا، باعتباره شخصا متشائما: (يرى كل شيء بأنه تأريخ قديم ميت، ميؤوس
منه، ولا وجود لشيء أسمه حاضر أو مستقبل، وإنما ثمة ماضي وكله أسود..). والشخصيات
الثلاث تثير الفضول عند المتلقي، لما تتميز به من صفات غريبة، أو ما حدث لها، ليس
أمرا عاديا ويدعو إلى المتابعة، ويثير التساؤل، فإبراهيم مقطوع الرأس، وإسماعيل
عدا كونه أخرسا، فهو شبه معتوه، أما عبدالله، فهو الآخر فضلا عن نظرته السوداوية
للحياة، فهو (ابن زنا).
ويستطرد
الدكتور جودت هوشيار عن الاستهلال في الرواية قائلا: (أحيانا يكون الاستهلال صورة
حية يسهل تحويله إلى لقطة سينمائية تركز على التفاصيل التي تدعونا للتعرف على حياة
شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الاستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا إلى
المشاهد الأخرى، صورة تستخدم فيه الإضاءة والنبرة لنقل المزاج السائد في الرواية إلى
القارئ.).
ولو
أعدنا قراءة الرواية من بدايتها (الاستهلال)، حيث تشرع بجملة: (في بلد لا موز فيه)
إلى نهاية الأسطر الخمسة الأولى، لنتلمس فيها أجمل ما يمكن جعله، استهلالا للقطة
سينمائية، ذلك أن الجمل الخمسة كل واحد منها صورة قائمة بحد ذاتها، ولكن مع بعضها
البعض تتحول إلى لقطة سينمائية، أي تكسب معنى معينا وواضحا. وكلما توغلنا في قراءة
الرواية، وعلى نحو خاص في صفحتها الأولى، تتبدى تكوينات هذه الصور أمام أعيننا
أكثر ألقا، ولقطاتها أكثر قوة وعمقا، كما في الأسطر السبعة التي تلي الأسطر الخمسة
الأولى، وإسماعيل الراعي يدنو من الصناديق ويجس الرؤوس بعصاه، دون أن ينزل من
حماره، والصورة التي تلي هذه الصورة، وهو يفرك عينيه ليطير النعاس منهما، ليتأكد
من صحوه، ويتيقن من وجوده في قريته وليس في مكان آخر. بالإضافة إلى وصف الفجر في
القرية، وهو في أواخر ضيائه، اتساقا مع الإضاءة التي يشير اليها هوشيار، والجو
السائد فيها، في إشارة أخرى إلى النبرة التي يؤكد عليها، وذلك من خلال: (الدكاكين
الموصدة في القرية، وصياح ديكة ونباح كلب بعيد، يرد عليه كلب آخر في طرف أبعد.).
أي تكوين لقطتين نقيضتين إحداهما للآخر، عبر مجموعة من الصور لكلا اللقطتين،
الأولى تتسم بالقبح، والثانية بالجمال، للتأكيد على ان الحرب والإرهاب، يدمران البراءة
والنقاوة السائدين في القرية، ليس بأجوائها وطبيعتها السحرية فحسب، وإنما كذلك
بإنسانها الطيب أيضا متمثلا بإبراهيم وإسماعيل الراعي.
أما
بالنسبة لنهايات الروايات، يقول روبرت إيغلستون: (إن طرح النهايات المقفلة واستبعادها
يعني الولع بالمحاججات المفتوحة النهايات، وهو ما يعني أن ثمة رغبة ملحة لدى
الكاتب في التلميح بأن ثمة الكثير مما يمكن قوله في هذا الشأن.)2.
إن
التحول الذي يطرأ على شخصية قسمة، وانجذابها إلى والدها، في الوقت الذي كانت فيه
تتعامل معه بشكل سيء سابقا، يأتي هذا التحول بفعل بطولة والدها في أرشفة قبور
ضحايا الرئيس، وبعد اغتياله تلجأ إلى طارق للعثور على جثة والدها في بغداد، فيستغل
طارق هذا اللجوء ويقنعها بالزواج منه، وفي طريقهما إلى بغداد ومعهما عبدالله،
تلاحظ قسمة ان طارقا يتسم بتفاؤل مفرط، يبلغ حدا أنه لا يحس بما تحس به، ولا يرى
الذي تراه هي. فمن هنا، من هذه النقطة التي لاحظتها قسمة في طارق، تتضح رغبة
الرملي بالنهاية المفتوحة في روايته هذه. وذلك من خلال جعل قسمة أن يطرأ عليها
تطورا آخر في الرواية إلى جانب التحول الأول، وهو رفض طارق، لعدم لفت نظره لكل
الخراب والدمار اللذين أحدثهما الرئيس في حروبه بالمدن العراقية، وهما في طريقهما إلى
بغداد. هكذا: ((تتحسس رأس طفلها النائم في حجرها فتقرع طبول الأسئلة في رأسها:(ترى من أي
نطفة هو؟ ترى مثل من سيكون؟ مثل أبيه زوجها؟ مثل الرئيس المخلوع؟ مثلها هي؟ مثل
ابيها؟ أم مثل هذا الطارق الذي سيترعرع هذا الصغير في كنفه؟)).
وإذا كانت هذه الخطوة الأولى للرملي بالنهاية
المفتوحة، فإن الخطوة الثانية هي في قول طارق بأن جلال أبن المختار الذي يعمل
وكيلا في وزارة الأمن القومي ومسؤول الجانب الأمني في هيئة النزاهة سيساعدنا
بالعثور على جثة إبراهيم: (ما جعل عبدالله يشعر بصعقة حقيقية في جسده وروحه كرد
فعل على كلمات سمعها.). ورد عليه بصوت مسموع: (ها هو مغتصب أمي يعود سيدا لاغتصاب
القرية والبلد. ها هم عائدون مرة اخرى، ها هو تحالف القتلة المجرمين يكرر نفسه،
التأريخ يكرر نفسه... ما العمل؟ ماذا أفعل؟ لا بد أن أفعل شيئا!
في
الجملة الأخيرة، في (لا بد أن أفعل شيئا) يكمن فعل النهاية المفتوحة الذي جاء
نتيجة تحول طارق من إنسان عدمي إلى الشعور بالمسؤولية: (وفي شعور قسمة بطبول
الأسئلة التي تحولت في رأسها إلى خليط غير متجانس... يضبب رؤيتها ويضيق تنفسها حد
الدنو من الإغماء، يثير الغثيان في أحشائها وتحس برغبة عارمة في التقيؤ... فوجدت
نفسها تقول: توقف توقف أريد النزول). في هذه الجملة، الجملة الأخيرة التي تنطقها
قسمة: (توقف أريد النزول) مثل جملة: (لا بد أن افعل شيئا) يكمن فعل النهاية
المفتوحة فيها.
أعتمد
السارد على النظام الترقيمي، بدلا من الفصول في توزيع روايته على ثمان وعشرين رقما،
مصحوبا كل رقم بعنوان مدون تحته، شارعا ومنهيا إياها بالعنوان ذاته وهو (أبناء شق
الأرض)، نسبة إلى الصداقة المتينة التي تجمع بين الأصدقاء الثلاثة: عبدالله،
إبراهيم، وطارق.
تعتمد
الرواية عموما على السرد الموضوعي وهو الأسلوب الذي يعول على السارد، ويستعين
بضمير الغائب، كما أنها تمنح لشخصياتها حرية الكلام، وهي بهذا تعتمد على السرد
الذاتي أيضا الذي يعتمد فيه السارد على ضمير المتكلم (أنا). وشخصيات هذا الضمير
هي: طارق الذي يعبر عن ذاته في الرقم (1)، بعد صفحة ونصف الصفحة من بداية الرواية،
تحديدا من جملة:( ولو تكلم عبدالله كافكا عن هذا الحادث لقال)، ويعود ثانية للكلام
في الرقم (9)، عبر مفردة:( قال)، حيث يستلم دور ضمير المتكلم من بداية هذا الرقم إلى
نهايته، وهو بصدد الحديث عن أسره في السجون الإيرانية، أبان الحرب العراقية
الإيرانية، وهكذا في الرقم(10) كذلك يستمر عبدالله ساردا معاناته في الحرب. وفي
الرقم (8) يسرد إبراهيم لعبدالله ما جرى له في الحرب العراقية مع إيران والكويت،
عن أحمد النجفي، عن قدمه الجديدة، عن مقتل اخيه وديع، عن موت والده. وتحت عنوان :(
سر الفضيحة التي لم تفضح، وحياة في قبو) يتحول السرد من الموضوعي في الرقم (11) إلى
الذاتي في (12 و 13) حيث ينسب الكلام إلى جدة عبدالله (زينب) في كلا الرقمين من
بدايتهما إلى النهاية، وهي تسرد لعبدالله عن حقيقة والديه، وطريقة مصرع والدته على
يد المختار وظاهر. وفي الرقم (26) إلى قسمة. باختصار أن كل الشخصيات الرئيسة في
الرواية، يعبرون عن آرائهم، ما عدا شخصية طارق، لأنه الشخصية الوحيدة التي لم يطرأ
عليها التغيير، لتربيته على يد ظاهر، وتلمذته في المدرسة نفسها التي درس فيها
والده، وتعاطفه مع جهات مشبوهة، إن لم يكن في الغالب منتميا اليها. وهنا يدور في
ذهن المتلقي هذان السؤالان، ترى هل تزوجت قسمة بطارق؟ ثم هل تم العثور على جثة
إبراهيم، سيما وعبدالله لأول مرة يكشف المستور المخفي عن قسمة وطارق، بصدد اغتصاب
جلال لأمه؟
إن
هذين السؤالين وغيرها من الأسئلة التي بقيت دون الإجابة عليها، يبدو لي أن الرملي
سيرد عليها في الجزء الثاني من هذه الرواية والذي يحمل عنوان (بنت دجلة).
المصادر:
1- الرواية بين الخيال والواقع، تأليف جودت هوشيار.
الفصل الموسوم:(سحر الاستهلال الجاذب).
2- الرواية المعاصرة- مقدمة قصيرة جدا، تأليف روبرت
إيغلستون، ترجمة وتقديم لطيفة الدليمي. دار المدى. الطبعة الأولى.
------------------------
*صباح
هرمز: ناقد عراقي، من أعماله (روايات عشتُ معها) و(بنيات السرد في
روايات محسن الرملي).
**نشرت
في (الحوار المتمدن)، العدد 6642 بتاريخ 10/8/2020م
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=687937