الفَتيت المُبعثَر. . بين التواتر
والشخصية
صباح هرمز
إذا
كانت روايتا محسن الرملي (تمر الأصابع) و(أبناء وأحذية)
تركزان على الشخصية بالدرجة الأساس، مقارنة بالعناصر الفنية الروائية الأخرى، فإن
روايته (الفتيت المبعثر) قياسا بهاتين الروايتين من حيث تركيزها على
الشخصية، تعد رواية الشخصيات بحق. ابتداء من شخصيتي سعدي وعبود، مرورا بشخصيتي
قاسم وحسيبة، وانتهاء بعجيل ووردة.
تدور
أحداثها في إحدى القرى التابعة لقضاء شرقاط، وهي على الأغلب القرية التي كان يعيش
فيها المؤلف. وتصور حياة عائلة عمة السارد وزوجها (عجيل) التي عاشت في ظروف
مأساوية، مع أهالي القرية، تحت نير الحرب، ودكتاتورية النظام من جهة، ومديات تأثير
القائد على الفرقة والتشرذم بين صفوف العائلة الواحدة من جهة أخرى، وتلقي الضوء
على شخصياتها المتباينة المنحى والغريبة الأطوار.
تكاد
تخلو هذه الرواية من الأحداث الكبيرة ومن الصراع الى حد ما، والصراع الوحيد فيها
هو الصراع القائم بين أهالي القرية مع النظام على الشباب الذين يساقون الى الحرب،
وهروب البعض منهم من أرض المعركة، وملاحقتهم من قبل أزلام النظام. وهذا الصراع لا
يظهر على سطح الأحداث من خلال المواجهة بين أهالي القرية والنظام، بقدر ما يظهر
بين عجيل الأب وأبنه قاسم. والخلاف القائم بين عجيل وأبنه الأكبر قاسم، لرسم صورة
القائد وتعليقها في المنزل، ورفض قاسم لطلب أبيه، لا يرتقي هذا الحدث الى مستوى
الصراع، بقدر ما هو سوء فهم من الأب في فهم فكر وتوجهات القائد، نتيجة وقوعه تحت
تأثير ما يردده الإعلام من شعارات طنانة، وانسياقا لغابر جده الذي قتل في العشرينيات
من القرن الماضي ضابطا انكليزيا، بدليل أنه وبعد إعدام أبنه قاسم وتركه لثلاثة
أيام في العراء، يعود الى رشده، ويفهم طبيعة هذا النظام وقائده الضرورة.
إن
عدم بروز الأحداث الكبيرة فيها، يعود لسببين، أولهما هو التركيز على رسم معالم وأبعاد
الشخصيات، وثانيهما هو الاختزال في أحداث الرواية، من خلال نأيها عن الحشو والاستطرادات
الزائدة، ولعل بلوغ عدد صفحاتها الى ست وثمانين صفحة، أثبت دليل على ذلك، ويؤكد
أنها أقرب الى القصة الطويلة، منها الى الرواية.
أتبع
السارد مع روايته نظاما ترقيميا، موزعا إياها على عشرة أرقام، لا يتجاوز كل منها
على ثماني صفحات كحد أعلى، شارعا ومنهيا روايته بعنوانين، الأول تحت عنوان (صفر
الروي) والثاني تحت عنوان (صفر اليدين) ويبلغ عدد صفحات كل واحد منهما أربع صفحات
ونصف الصفحة.
تتمركز
حبكة الرواية في الجملة التي يطلقها السارد في بداية السطر الأول من الجزء المكرس
لعنوان (صفر الروي)، حيث تستهل الرواية، بجملة:( حالما بأن نفعل شيئا ما، ونصبح
رجالا يستحقون الاحترام. . .). ضاربا هذا المثل، احتذاء بنماذج ثلاثة من أهالي
قريته، وهم :(محمود، إسماعيل الكذاب، ووردة). والنماذج الثلاثة غريبو الأطوار.
محمود من خلال عدم الاهتمام به من قبل أحد، ونسيانه من الجميع، لا وبل لعدم ظهوره
على سطح الأحداث، إلآ ما يأتي السارد على ذكره عنه بشكل عابر، وإسماعيل الكذاب عبر
هروبه من الحرب، وسمعته المعروفة بالكذب، ووردة بانتقالها من زوج الى آخر الى أن انتهت
تحت إسماعيل الذي كان زوجها الرابع.
هذه
هي الشخصية الأنموذج عند الرملي، الشخصية الهامشية التي خرجت بعفوية من بين أبناء
الصفوف الكادحة، وقاع المجتمع الريفي العراقي، وشقت طريقها بالتعويل على ما تعلمته
من تجارب الحياة المريرة. لذلك فهي تستحق الاحترام، لأنها صاحب موقف، وموقفها هو
رفض الحرب، الأول من خلال الهجرة، والثاني بالتعهد لوردة برفض الحرب أيضا، والثالث
زواج وردة بإسماعيل تنفيذا لعهده.
تعتمد
هذه الرواية في بناء تقنيتها الفنية على تكرار الجمل فيها. وتأتي الجملة التي تعول
فيها على الحبكة في مقدمة هذه التكرارات وهي جملة: (الرجل الذي يستحق الاحترام)، إذ
تتكرر أربع مرات، في المرة الاولى لمغادرة السارد قريته بحثا عن محمود، مانحة هذه
الجملة معنيين في آن. المعنى الأول هو أن السارد ومحمود يقيمان حاليا في اسبانيا،
والمعنى الثاني هو أنهما قد أتخذا موقفهما الرافض للحرب، وبالمآل أنهما يستحقان
الاحترام. ومع ما يستحقه السارد من إحترام، غير أنه يجد نفسه وحيدا وسط الأجانب
وهو يتنقل من بلد الى آخر، ويتوق الى سماع أخبار أهله، لذلك تعويضا عن هذا النقص،
يسعى اللقاء بمحمود في اسبانيا. ولكن لأن محمود أكثر المخلوقات عرضة للنسيان، لذا
فما عليه إلا أن يستعين بوجه عمته كي يستطيع التعرف عليه إذا ما صادفه، فمن باب
وجه عمته هذا، يدخل السارد المتن الحكائي لروايته.
وفي المرة الثانية عندما تطلب وردة من شقيقها
قاسم الرافض للحرب أن يبدي رأيه بعريسها (فوزي) في ليلة زفافها، إن كان رجلا يستحق
الاحترام، أي أنها سترفض الزواج به، إن لم يكن أهلا لذلك، أهلا لرفض الحرب، وأهلا
لإنقاذهم من الكائن الدموي (القائد). وفي المرة الثالثة عندما تتأكد وردة من كره
إسماعيل الكذاب للغريب البعيد، ويحلم بالخلاص منه، ومشغول بالخطة، لتفاجئه
بسؤالها: (هل تتزوجني؟). فبهره اكتمال
تفتح وجهها. شهق، أجاب موافقا. بمسرة وعزم: (سأنفذ الخطة.). وفي المرة الرابعة،
أثناء سعي شقيقها (سعدي) اللوطي، ثنيها عن الزواج بإسماعيل الكذاب، بمسوغ لا صنعة
له غير عزف الربابة، لتقول له أنه يستحق الاحترام لأنه يحلم ما أحلم به.
وإذا
كانت جملة يستحق الاحترام قد تكررت أربع مرات، فإن مفردتي (القنفذ) و(الإبرة) قد
تكررتا خمس عشرة مرة في الرواية، بنصيب أثنتا عشرة مرة للأول، وثلاث للثاني،
ومفردة (الجرذ) ست مرات، و(بياض الذراع) عشر مرات، و(القائد) اثنتي عشرة مرة،
و(العواء) خمس مرات، و(الألوان) ستا.
تأتي
مفردة القنفذ، بوصفها رمزا للقائد الضرورة، وذلك من خلال وجوده في كل مكان على
الرغم من أنوف ليس أهالي قرية السارد فقط، وإنما أنوف الشعب العراقي بأسره، إن لم
يكن العالم كله، لأن أشواك القنفذ من كل الجهات، والأرض كروية، عليه فإن إبر
أشواكه مصوبة نحو كل الجهات في العالم. بدليل أنه أشغل ثلاث وثلاثين دولة في حرب
الخليج. ولأن (عجيل) زوج عمة السارد، كان أول من تجاسر العبث معه، فقد بح صوته،
لأن إبر القنفذ انتثرت في كل مكان، ومنها باتجاه بلعومه، وصار أسير القائد، عبر
تأييده للحرب التي أشعل فتيلها مع إيران. إن القنفذ والقائد صنوان، لسبب واضح
وبسيط جدا، وهو أن الأول قضم أذن قاسم بحثا عن الطعام، والثاني يسعى الى بترها لكي
يلتحق بأرض المعركة: (أنفجر بالضحك حتى أنقلب على ظهره وهو يسمع القائد في التلفاز
يصدر قرارا بقطع أذن كل هارب من الجيش. . . فوضع يده على أذنه الناقصة وقال: الجرذ
قضم نصفها وسيقضم هو نصفها الآخر.)
للسارد
قدرة متميزة على الربط بين الفعل وما يتمخض عنه من نتائج، مانحا إياه فرصة التعبير
عن نفسه عن طريق الشفرة اللغز، أو المعنى المخفي والمستور وراء ما تكسبه هذه الجمل
من مدلولات عميقة وكبيرة، من الصعب اكتشافها، كما في المثال السابق، حيث أقترن بح صوت
عجيل بنثر القنفذ (القائد) بإبر صوب بلعوم عجيل، ليعديه بأفكاره المسمومة، ويرددها
مثله. والربط بين قضم الجرذ لأذن قاسم... وبين رش المبيدات، ليؤدي الأخير الى موت
البقرة، لأن عمة السارد: (استخلصت الدهن الحر من حليب بقرتها، لانشغال عامل الرش
بسحر وجمال وردة، ما أدى به أن يرسم على جدار كوخها قلبا يخترقه سهم، ناسيا أن
يوقف تدفق السائل الأبيض من رأس العصا الحديدية، ليصطبغ الماء في الطست الذي تشرب
منه البقرة.).
إن
الجرذ الذي قضم أنف قاسم، بسبب الثريد المنقوع بالدهن الحر، هو القنفذ ذاته
الموجود على الرغم من أنف الكل، إذن فالجرذ لم يقضم أذن قاسم فحسب، وإنما قضم آذان
كل أهالي القرية، لأنهم يطعمونه بالدهن الحر، وتأتيهم يوميا قافلة من الشهداء: (يطيب
للجرذ أن يخرج حين ينام الجميع. يتجول في أرجاء البيت، يتشمم الارضية الترابية
الرطبة، باحثا عن حبة رز أو كسرة خبز... لا أحد يفكر بتفكيك الدكة لمجرد البحث عن
جرذ تافه...) إن فعل الخطأ غير المقصود الذي قامت به عمة السارد، أدى الى بتر
الجزء العلوي من أذن قاسم من جهة، والى موت البقرة من جهة أخرى، إلا أن هذا الخطأ
أنعكس إيجابا على قاسم وعلى أهالي القرية، الأول من خلال انصرافه الى تصليح
الأجهزة الدقيقة والكهربائية وإتقانه صنوف الخط العربي وفي اختراعاته وأحاديثه
وهروبه من الجيش وذكائه، والثاني عبر ابتسامة وردة لراسم القلب المجروح: (... حتى
استيقظوا ذات صباح وهم يتسابقون لتحطيم الدكة.. بل مستعدون لتحطيم الجدار الذي تتكئ
عليه الدكة، وتحطيم الدار كلها لو أستوجب الحال من أجل الظفر بذلك الجرذ الذي قضم
أذن قاسم في الليل قضمة واحدة بعد أن تشمم الدسم في أعلاها.)، أي أن تشويه جزء من
أعضاء شباب القرية في الحرب العراقية- الإيرانية، واستشهاد قسما آخر منه فيها، باعتبار
قاسم نموذجا للأول، والبقرة نموذجا للثاني، أدى الى تكوين نوع من الوعي لدى شباب
القرية باتجاه التمرد على توجيهات القائد من خلال رفضهم للحرب، سواء كان ذلك عن
طريق فرارهم من أرض المعركة، أو عدم التحاقهم بجبهات القتال، وذلك عبر انقلاب
تفكيرهم من عدم تحطيم دكة المنزل الى هدم المنزل، وقلعه كليا ومن الأساس.
أما
الجملة الثالثة التي أعتمدها السارد الى جانب توظيفه لجملتي: (الرجال الذين
يستحقون الاحترام، والقنفذ)، فهي جملة (الذراع البيضاء لحسيبة)، وذلك من خلال انجذاب
قاسم الى ذراع أبنة عمه. إذ بالرغم من اختلاف طبيعته الهادئة مع طبيعتها الشرسة،
الا أنه تزوجها وقوعا تحت تخدير ذراعيها التي فقدته السيطرة على حواسه، دون أن
يتخلى عن زيارة شاطئ القرية حالما بهما. ومثلما جاء توظيف التقنيتين السابقتين
لرفض الحرب، كذلك فقد وظف هذه التقنية للغرض نفسه، وذلك من خلال القرار الذي أتخذه
بعدم الالتحاق بجبهات القتال على الشاطئ، وقد جاء هذا القرار لسببين، ولكليهما صلة
مباشرة بالقائد، أولهما أن عكس ما أتخذه يحرمه التأمل بذراع حسيبة، وثانيهما أن
تنفيذ قراره، يكمل النقص في أذنه. ما معناه أن الحرب في الوقت الذي ستأخذ فيه منه
زوجته، ستردعه في الوقت ذاته من صناعة الأجهزة الدقيقة والكهربائية وصنوف الخط
العربي واختراعاته وأحاديثه وذكائه...
إن
أجمل مشهد في الرواية هو المشهد الذي يسبق إعدام قاسم بلحظات، حين يود أن يقول:(أريد
أن أرى شاطئ دجلة أو أقتلوني هناك حيث كنت أذهب منذ طفولتي حيث ذراع حسيبة الأبيض
في فجر أبيض، الوطن الأحمر في قلب أخضر...). وللتأكيد على دور (ذراع حسيبة) باتخاذ
قاسم قراره برفض الحرب، فقد تكررت هذه الجملة، عشر مرات في حدود صفحتين فقط، وعلى
النحو التالي:
-
رغم تميز قاسم بهدوء طبعه الا أنه تزوج أبنة عمه سليطة اللسان القادرة بشتائمها
على تهجير مدينة، ذلك أنه لم يستطع مقاومة بياض ذراعها التي رآه فجأة ذات فجر مفاجئ.
-
كانت تلك أول مرة يرى فيها ذراعا عارية لامرأة، فصعقه بياض اللحم.
-
فكر في بولها وتخيل اللحم الأبيض والذراع الأبيض.
-
ترجرج صدرها، التمعت ذراعها البيضاء.
-
أيعقل أن يكون اللحم أبيض الى هذا الحد؟؟! بضا الى هذا الحد؟؟!
-
ولكنه كان نهارا أبيض كبياض ذراع حسيبة.
-
فكيف عرف أبوه بأنه يريد ذراع حسيبة تحديدا وليس حسيبة؟! أو الأهم هو الذراع، ثم
بعد ذلك، يأتي الكتف الشعر، تأتي حسيبة.
-
هل لوالده كل هذه الفراسة؟! أم أنه هو الآخر قد رآى ذراعها ذات فجر؟
-
أم أنه قد سمعه هاذيا ببياض ذراعيها للنهر أو هو نائم؟
والتقنية
الرابعة اتسمت بتغيير الألوان في العلم الوطني، للدلالة على ما سيحل بالبلاد من
كوارث، جراء الحرب، أثر إعلان القائد، أن الأرض بحاجة الى الدم، وذلك من خلال رسم
خارطة الوطن على لوحة بالأحمر، محاطة بدائرة قلب أخضر، ورسم النهرين بالأبيض. وهذا
التغيير في الألوان لا يومئ الى استشهاد عبدالواحد شقيق قاسم، واستشهاد فوزي زوج
وردة، بل الى استشهاد راسم اللوحة أيضا وهو قاسم، وذلك عندما تأتي اليه حسيبة: (وتدعوه
الى تناول شيء، تراه ساقطا على الأرض، ملطخا بالأحمر والأخضر والأبيض، كأنه ملفوف
بعلم، مثل كل الذين عادوا من الحرب في توابيت النصر.).
وفي
هذا المشهد لأهمية الحدث فيه، يتحول السرد من ضمير الغائب الى ضمير المخاطب، ليغدو
السارد كما في مشهد آخر والذي سنعرج اليه، جزءا من الحدث، اقترانا بمقولة القائد،
بحاجة الأرض الى الدم، ابتداء من جملة: (وعضت سمكة إبهام قدمك يا قاسم، فقفزت وصحت
بالأحمر ((وجدتها)) حين وجت الوطن مغطى بالأحمر...) الى نهاية الجملة، حيث تنتهي
بجملة:(لماذا النهران تحديدا).
والخامسة
في التحول (المسخ) الذي طرأ على عبود، من كونه أجمل أطفال القرية حتى من شقيقته
وردة التي يعدها السارد أجمل فتاة في العالم، الى كائن أشبه بحيوان، يحبو على
أربع، ويعوي كالذئب. وجاءه هذا التحول، ربما لأنه مولود في زمن الحرب، أو لأنه
ألتقط من الحرب بعض من مقاطع أناشيدها في لحظات الصحو. مثله مثل والده الذي تعرض
الى عدوى القنفذ، فبح صوته، ذلك أن الحرب كالقنفذ صنو القائد، وأن القائد هو الذي جاء
بالحرب.
أثرت
التحولات التي طرأت على عبود، على وردة أكثر من أي شخص آخر في العائلة، لأنه
يشبهها كما توأم، وذلك خوفا من احتمال تحولها مثل عبود. وما زاد من خوفها هو عدم
إقدام الراغبين الزواج منها على هذه الخطوة، لاحتمالات توقعهم انسحاب التحول الذي
طرأ على عبود اليها، أي انتقال ما كان في نفسها الى نفوسهم، لذلك: (كلما استيقظت
هبت الى المرآة، فقادها ذلك الى تحسس تكورات صدرها، امتلاء الردفين، رمانتي
الكتفين وتفاحتي الخدين. كانت تطمئن نفسها بما طمأنتها به أمها...).
تكرر
عواء عبود خمس مرات في الرواية، فإذا كان في المرة الأولى، أيقظ القرية، وهب
الرجال بسلاحهم الى دار عجيل، ظنا منهم بأنه ذئب، ففي المرة الثانية عندما أرتفع
عواءه مرة أخرى، تحددت جهته، وهالهم ما شاهدوه: (عبود يحبو على ذراعيه وإحدى
ركبتيه رافعا ساقه الأخرى بمثابة ذنب، مشرئب الرأس، مشرب الرأس الى السماء يعوي
كعواء الذئب تماما.). وفي المرة الثالثة عندما: (ضمت والدته رأسه الى صدرها بقوة
ووجع أمومة، خفض عبود من عوائه بالتدريج حتى صار يموء كقطة)، وفي المرة الرابعة،
عندما: (لطخت والدته وجهها بالسخام وهالت رماد التنور على رأسها، في الهجوم الذي
سقط فيه فوزي هو الهجوم نفسه الذي سقط فيه عبد الواحد. لم يفهم عبود شيئا فعوى.).
وفي المرة الخامسة، وهو أكثرهم تأثيرا: (لأن وردة تود أن تعوي مثل عبود: لكن
صراخها على فقيدين أفقدها صوتها طويلا.). وتتكرر هذه الجملة مرتين. في المرة
الثانية: (عندما يختفي عبود ليلا من حفرته/القبر الى حيث لا يدري أحد، ولا حتى كيف.
أنقطع عواؤه الليلي الى الأبد: (وتطلعت عمتي الى حفرته صباحا عشرات المرات.. مئات..
ولم يكن فيها عواء.. بكت عمتي حتى أهتز الماء الأزرق في عينيها وتمنت وردة لو تعوي
بدلا عنه..).
ما
من شخصية من الأشقاء السبعة مع شقيقتهم وردة، تتشابه شخصياتهم مع بعضها البعض، بل
بالعكس لكل شخصية معالمها الخاصة بها وتختلف عن الشخصيات الأخرى، مانحا هذا
الاختلاف، انطباعا مؤداه، أن كل فرد من أفراد عائلة عمة السارد بمن فيهم عجيل،
ينتمي الى عائلة عراقية معينة، وبعدد نفوس الشعب العراقي أبان اندلاع الحرب
العراقية- الإيرانية، وبتمثيل كل شخصية بنسبة معينة من أفراد الشعب.
يعمد
السارد الى هذا المنحى، بلوغا لعدم إنقاذ ولو فردا من العوائل العراقية من بطش
القائد ونظامه، أو كما يحلو للسارد أن يطلق عليه (التفتيت المبعثر). فلم يسلم أبنا
من أبناء عمة السارد من هذا البطش، أو التبعثر، ما عدا أحمد، ابتداء بقاسم النبيه
الذي راح ضحية موقفه الرافض للحرب، وولهه بذراع حسيبة، وحبه لنهر دجلة، مرورا بعبد
الواحد الذي بعكس شقيقه قاسم، أنصاع لطلب أبيه وشارك في الحرب حتى أستشهد، أما
أحمد فإن تفوقه في الدراسة، جعل منه قاضيا وبالتالي معفيا من السوق الى الحرب، أي أن
فردا واحدا من بين سبعة أو ثمانية أفراد، تسنح له فرصة البقاء في ظل الحرب وتحت
سطوة القائد الضرورة. بينما تحول عبود الى كائن آخر، ومحمود الذي لا لون له ولا
طعم ولا رائحة، صار تائها في دولة اسبانيا لا يراه أحد ولا يرى أحدا. وسعدي حبذا لو
كان ميتا ميتة الكلاب، لكان أفضل بكثير من سقطته في أحضان النظام، وانسياقه وراء شهواته
القميء. ولم يبق سوى شخصية سعدي الغريبة والمختلفة كليا عن الشخصيات الأخرى، فبالرغم
من أنه شخصية سلبية في الرواية، لا من خلال ممارسته لعملية اللواطة، وإنما عبر
ولائه للقائد ومن ثم تقديم الخدمات له، بالرغم من سلبيته من هذه الناحية، فقد
أستطاع السارد عبر التزاوج بين لوطيته وولائه للقائد، أن يرسم أجمل صورة له،
بوصفها نموذجا للشخصيات التي كانت تعتلي سدة الحكم وتقود العراق، وذلك عبر فقدانها
لأخلاقيتها، وانتهازيتها لاستغلال فرص العيش الرغيد على حساب الآخرين، وبما يجعل
المتلقي أن يشمئز منها، وهو يرى بأم عينيه أن من لا يعرف النطق إلآ ب :(هذا شي حلو)،
أو: (غير حلو) ويدير مؤخرته لأقرب الناس له ليولج فيها أصبعه، يصبح بين ليلة
وضحاها غنيا لأنه يعمل مع أقرباء القائد. وبالمناسبة، مناسبة الاشمئزاز الذي يخلفه
السارد لدى المروي له تجاه شخصية سعدي وأمثاله، وهو ينعت سلوكه الشاذ، لكي يتخذ
منه موقفا مناوئا وسلبيا، أن السارد لا يتدخل في الأحداث، وإنما يترقبها من بعيد،
وأحيانا يكتفي بالتعليق عليها، بيد أنه في هذا المشهد الذي يتحرش به سعدي، يغدو
السارد جزءا من الحدث الى جانب مشهد (تغيير ألوان العلم الوطني):
(كانت
يدي ترتجف وجسدي يتفصد عرقا وسعدي يهتز ثم صاح: (هيا). فغرست يدي في ظلمته السوداء
على عجل، ثم وليت نافذا الى خارج المخزن... نظرت الى أصبع
التي كانت لا تزال منفردة، فتقلبت احشائي واجتاحني
غثيان كريه حين وجدت أصبعي مغمسة بالغائط حتى منتصفها فتقيأت... لا أحد يعرف كيف
أصبح سعدي فيما بعد من أضلاع القيادة! تقيأت ورحت أمسح أصبعي بالتراب وبالحائط، ثم
زحفت الى حوض ماء الدجاجات وغسلتها فيه كثيرا، وخرج سعدي بدشداشة كاملة وابتسامة
بلهاء وملامح ميتة، لوح لي برضى وأبتعد يحمل زاوية رأسه العجيبة.).
إن
السارد ليس لأهمية المشهدين فحسب، يصبح جزء من هذين الحدثين في الرواية، وإنما
لتناقضهما مع بعضهما أيضا، من حيث سقوط سعدي في أحضان الرذيلة، وسمو قاسم الى مصاف
الشهداء.
إن
أجمل ما في هذه الرواية، هو اقتران بدايتها بنهايتها، وبالعكس نهايتها ببدايتها،
لا فرق بينهما، وتطابق شكلها الفني مع مضمونها، من حيث اتخاذ موقف واضح تجاه
القائد، وعودة عجيل الى وعيه في فهم فكر وتوجيه القائد، وذلك من خلال الربط بين السهم
الأبيض المسموم الذي قتل الشاب الكردي وهو يغازل وردة، بقرة أمها في بداية
الرواية، وبين سهم وردة الأسود، وهو يخترق في نهاية الرواية، منتصف القلب الأخضر
وقلب الوطن الأحمر، وذلك بعد أن لاحظت وردة، بأنها تفقد أشقائها الواحد تلو الآخر،
وأن والدها صار ضئيلا، هزيلا ويزداد صغرا يوما بعد يوم: (دخلت غرفة الضيوف عائدة
من التنور وطبق أرغفة الخبز الساخن على رأسها، وجدته لا زال محدقا في اللوحة..
عينان وخيط دم. كانت اللوحة عالية، فوضعت تحت قدميها مخدتين وارتفعت على أصابعها،
وبحافة الخبزة المحترقة أنزلت سهما أسود أخترق منتصف القلب الخضر وقلب الوطن
الأحمر...).
كما
عمد السارد الى لعبة اللغز بالكلمات والجمل، وبث نمط من الكوميديا الخفيفة، وذلك
من خلال تصريف الأفعال، الأول لتعميم معنى الكلمة والجملة على الكل، أي سحبها من
الشخص المعني الى المروي له، والمحيطين وغير المحيطين به، ممن هم خارج اللعبة، كما
مثلا في الكلمات والجمل التالية: أما محمود، فهذا الولد يحيره/ يحيرنا/ يحيركم..
لأنه غالبا ما ينساه/ ننساه/ تنسونه/ وينسى نفسه. أو كما في: تنساه العائلة كثيرا/
ننساه/ تنسونه/ وينسى نفسه.. لا أحد يحتاج اليه، لا يحتاج هو الى أحد، لا يكره
أحدا ولا أحد يكرهه، لا يحب أحدا ولا أحد يحبه.. لا يذكرونه/ لن تتذكره إلا عندما
تراه، ثم تنساه فور ابتعاده... وكما في الكلمات الثلاث التالية: ذاكرتك/ ذاكرتي/
ذاكرتكم.
والثاني
عبر الجمل التالية:
-
حينذاك لم يكن عجيل قد تزوج عمتي ولا أبي زوجا لأمي (فأين كنت أنا؟!).
-
عمتي هي التي بكت على البقرة وليس العكس، لأن البقرة ماتت قبلها.
-
ودخلت البقرة، شربت من طست شربها دون أن تفكر ببياض الماء، وهي لا تفكر، لأنها
بقرة.
-
ونسيت إبرة القنفذ تقريبا، فيما ظل عجيل يضع النظارات الطبية على عينيه حتى في
ليلة عرسه، والعروس عمتي.
عم
التبئير الصفر، أو اللاتبئير في هذه الرواية، حيث ينفذ السارد الى داخل الشخصيات،
ويعرف كل شيء عنها، كما جاء في هذه الجملة مثلا: خمشت وردة خديها، شقت ثوبها وارتدت
الأسود، (وودت لو تعوي مثل عبود). أو كما في الجملة التالية: رفع قاسم رأسه وتطلعت القرية، والعالم تطلع اليهم (وود لو يقول: أريد أن
أرى شاطئ دجلة أو أقتلوني هناك حيث كنت أذهب منذ طفولتي.). كما وفي الجمل التالية
أيضا: (أراد قاسم أن يوضح لأبيه أمورا كثيرة)، (أراد أن يحتضن أباه ويعتذر عن
طوفان أحزانه)، (فكر أن الملا صالح سيضرب بأحمد مثلا لأبنه الفاشل.).
إن السارد في التبئير الصفر على اطلاع تام لكل ما يدور
في ذهن شخصياته، كما في معرفته لرغبة وردة العواء مثل شقيقها، والشيء نفسه بالنسبة
لقاسم قبل إعدامه، يفطن السارد بأنه يريد أن يعدم حيث شاطئ دجلة، وهكذا في الجمل
الأخرى أيضا... إن سطوة التبئير الصفر لا يعني أن
السارد يحد من أن تعبر الشخصية عن رأيها، كما مثلا في زمجرة عجيل وهو يصرخ
محتجا:(إني أعبد وطني).
مثلما
ساد التبئير الصفر في الرواية، كذلك فقد سادها التبئير الداخلي، ذلك كما تقول أشواق
عدنان شاكر النعيمي:(أن التبئير داخلي ثابت من وجهة نظر مؤبر واحد هو بطل الرواية
الذي يعبر عن ضجره وخوفه وما يراه أمامه بضمير المتكلم.)1، كما في المثال التالي
وهو ينتقل من التبئير الخارجي الى الداخلي: (بعدها توالت الأعوام عليّ من بلد الى
بلد، قي المحطات، ولا غرابة في ذلك لأن المحطات وجدت للنوم والانتظار والنهايات.
ها انا وحيد أجنبي. وسط الأجانب، الهواتف مقطوعة، والرسائل لا تصل دائما، وليس ثمة
أخبار عن أهلي في الصحف الاسبانية: هل شفيت أختي الحزينة؟ ماذا حدث لأبن عمي
المحاصر في الجنوب؟ كيف يعيش جارنا الذي قطعت ساقه في الحرب؟ أين أصبح أصدقائي؟
تبدأ
الرواية بضمير المتكلم (أنا) وتنتهي به أيضا، في كلا الصفرين من بدايتهما إلى
النهاية، وفي الرقم (1) تبدأ كذلك بضمير المتكلم الى جملة:( ثمة شاب كردي) حيث من
هنا تنتقل الى ضمير الغائب الى (هذا ما صرح لي به قاسم) حيث تنتقل ثانية الى
الضمير المتكلم، وفي جملة:( تقول هو الوحيد الذي أخاف منه في هذه الدنيا...)، يمنح
السارد حرية التعبير عن وجهات نظر شخصياته (تعدد الأصوات)، ومن هذه الجملة الى
نهاية هذا الرقم، ينتقل السرد الى الضمير الغائب.
*المصدر:
تقنيات السرد من منظور
النقد الروائي، أشوق عدنان النعيمي، الناشر دار الجواهري. الطبعة الأولى2014.
--------------------------------
*صباح هرمز: ناقد عراقي، من
أعماله: (روايات عشتُ معها) و(بنيات السرد في روايات محسن الرملي).
**نشرت في (الحوار المتمدن) بتاريخ
10/6/2020م