صورة الأب ودلالاتها في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي
جواد السراوي
تحفل
روايات عديدة بتصوير الأب من حيث هو موضوع سردي، غير أنه من اللافت للانتباه أن
نجد رواية تحتفي به من فاتحتها حتى نهايتها، إلى درجة القول إن شخصية الأب هي من
تحرك خيوط السرد وتتحكم فيها. ضمن هذا السياق، سنحاول مقاربة رواية «تمر الأصابع»
للروائي العراقي محسن الرملي، من خلال التركيز على صورة الأب الذي تجمعه صلات
متشابكة ومعقدة مع وسطه الأسري من جهة، وبمحيطه الاجتماعي وببعض الأنساق من جهة
أخرى. «تمر الأصابع» هي الرواية الثانية لمحسن الرملي، وقد استطاعت أن تخلق تلقيها
الخاص في النسق العربي والغربي على حد سواء. إذ تحفل بموضوعات جديرة بالانتباه،
مثل العلاقة بين الشرق والغرب، الحب، الهجرة، الحرية، والديكتاتورية، ولعل هذا ما
جعلها محط اهتمام منذ صدورها بالإسبانية في مدريد 2008، قبل ترجمتها للعربية 2009.
ليتم ترشحها ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام
2010.
الرواية
تبدأ أحداث «تمر الأصابع» باصطحاب
إستبرق إلى المدينة لتلقي العلاج بعد مرض ألمّ بها، وفي الطريق يتجرأ عليها شاب
ويلمس مؤخرتها وهو ما حمل آل مطلق على جمع رجال القرية والهجوم على «تكريت» حيث
نوح الذي تم القبض عليه جراء محاولة غرزه الرصاصة في مؤخرة الشاب، ثأرا لإستبرق.
وبعد الاشتباكات بين الطرفين، تحكم الشرطة سيطرتها على القرية فتبدل ألقابهم، من
«المطلق» إلى «القشمر» هذه التسمية التي توحي في العامية بالاستخفاف والإهانة.
يستغيث الجد مطلق بأصدقائه من القرى المجاورة، وبعد معرفة الحكومة بذلك تطلق سراح
نوح بعد تعذيبه، وهو ما تسبب في عدم إنجابه مذاك. يسافر نوح إلى مدريد، يعقب ذلك
سفر سليم الذي يصادف أباه هناك، وفي خضم ذلك يكتشف الأصدقاء الجدد لأبيه (من
الألمان والإسبان والإنكليز). يود استفساره في وفاة (أو قتل) مطلق جده، لكن بدون
جدوى. يزداد ارتياد سليم للمرقص حيث يعمل الأب، وينخرط في الحديث مع فاطمة، المرأة
المغربية. بعد ذلك يستحضر سليم أيامه في القــــرية مقارنا إياها مع ما يعج في
المرقص، حيث تجتمع كل المتناقضــــات ليسترسل في قصة فرض الحكومة تجنـيد الشــباب
العراقيين واستبدال تسمية قرية القشامر باسم قرية الفارس. وستشكل هذه الحادثة
الحدث المفصــلي الذي أثر على الجد مطلق. عاود رجال
هذا الأخير بمن فيهم نوح الهجوم على الجبهة، جيء بسيارات حكومية، توقفت وسط القرية
حاملة لسبعة عشر تابوتا فيها جثت شباب القرية الذين قتلوا في الهجوم الأخير على
الجبهة، وكان من ضمنهم صراط حبيب إستبرق. بعد ذلك، لم يأذن الجد مطلق لرجال القرية
بدفن الجثت إلا بعد الثأر لها، وهو ما جعلها تتعفن وتنبعث رائحتها. في
الصباح، وبعد نقاش صاخب بين الأب (مطلق) والابن (نوح) يموت الأب (أو يقتل) ويقرر
نوح السفر إلى إسبانيا للأخــــذ بالثأر، وغرز الرصاصة المتبقية في مؤخرة
الشاب/الدبلوماسي الذي تجرأ على لمس مؤخرة إستبرق. في الأخـــير، يكتشف نوح
بمساعدة من صديقه الكردي أن الشاب الذي تجرأ على إستبرق قد تم تعيينه ملحقا في
السفارة العراقية في إسبانيا، يعدل عن ثأره ويسافر رفقة حبيبته روسا إلى ألمانيا
التي كان متيما بها تاركا مرقصه لابنه الذي تزوج هو الآخر بفاطمة.
تصوير
شخصية الأب
لا تخفى الإمكانات التي يثيرها التصوير
الروائي في فهم العالم وتعقيداته وتشــــابكاته. تحتفي الرواية بثلاث شخصيات
جوهرية تتحكم في مسار السرد وهي على التوالي: الابن (سليم) والأب (نوح) والجد
(مطلق). هذه الشخصيات الثلاث تنتظـــــم في علاقــــــات متشابكة ومعقدة في ما
بينها، بحيث يعسر فهم أحدها بمعزل عن الآخر، إنها تتشابك في ما بينها، في الوقت
الذي تؤسس فيها لاستقلاليتها.. علاقة السارد (سليم) بأبيه (نوح)، علاقة نوح بأبيه
(مطلق)، ثم علاقة السارد بنفسه.
علاقة السارد سليم بأبيه نوح
يمكن أن نميز فيها بين مرحلتين.. قبل
سفر الأب إلى إسبانيا وبعده. وتتكشف علاقة السارد بأبيه في النص عبر مجموعة من
الصور الجزئية التي تنتظم في ما بينها لتشكل في ما بعد صورة كلية، قوامها
الازدواجية التي طبعتهما معا، فغدا كل واحد منهما «آخر» بالنسبة للآخر. تغيرت
نظرتهما إلى القرية المهجورة، وإلى عالم الآخر (إسبانيا) الذي سيصبح في مستقبل
السرد فضاء للحرية والانعتاق من سطوة التقاليد وكل أشكال السلطة، سواء الداخلية
(سلطة الأب/سلطة الأسرة) أو الخارجية (سلطة القرية بعاداتها وتقاليدها). كان الأب
نوح يختزن في داخله ذلك الآخر الذي لم يرد أن يكشف عنه في نسق «محافظ»، يعج بأشكال
الطاعة والولاء، حيث يجسد الأب مطلق المركز الذي تنتظم حوله العائلة ما يجعل من
العلاقة الأولية بينه وبين الابن نوح والحفيد سليم علاقة هرمية. وسيتضح في ما بعد
أن هذه العلاقة ستخضع لانعطافات جديدة بفعل عوامل خارجية مساعدة، منها السفر نحو
«الآخر» وتمثل قيمه ونمط عيشه. يقول
السارد واصفا العلاقة القبلية التي كانت تجمعه بأبيه نوح: «في أثناء صعود الحمار
للجبل يضعني أبي أمامه كي لا يميل جسده الضخم على جسدي الصغير، وعند النزول يردفني
خلفه كي أستند إلى ظهره. وكانت لحظات تطويق ذراعي لجسده واحتضانه هي أحب اللحظات
إلى نفسي، حيث الإحساس بقربي لأبي واتحادي به. كنت أشعر بحنان لذيذ وثقة ودفء
لأنها أشد حالات التصاقي به، أشعر بحب كبير له وبحبه لي». هذه العلاقة التي قوامها
التقدير والاحترام بين الابن سليم والأب نوح، ستعرف تغيرا لافتا، بل إن ذلك سيؤثر
على علاقة السارد بنفسه، كما ستساهم في تغيير نظرته للأمور وللنسق الذي يقطن فيه.
في خضم هذه المتغيرات سيطفو نوح الجديد، نوح المنبهر بالنسق الإسباني، الولوع بترف
الحياة والبذخ وقيم الحرية والديمقراطية، المهووس بالثقافة الألمانية الحافظ
لديوان غوته «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». يقول السارد واصفا أباه الجديد: «أنا
مشغول جدا يا سليم… ولا يقول ابني ـ كما ترى، ولكنني أعدك غدا.. غدا بالتأكيد ـ
ولا يقول إن شاء الله». «أفكر بأن أبي في داخله اثنان، هناك كان يخفي الذي يمارسه
هنا، وهنا يخفي الذي كان يمارسه هناك، بدون أن يتخلى عن أحدهما نهائيا، وأحيانا
يطعم أحدهما بالآخر». إن الاستشهادات المنتقاة تومئ بالتبدل
النوعي الذي طرأ على شخصية الأب نوح، وهو ما أثر على علاقته بابنه سليم الذي انبهر
بهذا «الأب الجديد». وعبر أطوار السرد يظل السارد في سعي حثيث نحو فهم هذه
الازدواجية التي طرأت على شخصية أبيه. لذلك ما فتئت الرواية ترسل في السمة
التركيبية بين الأب والابن، وهي خليط من التقليد والحداثة، فيها شيء من الماضي
وشيء من الحاضر، كحال المجتمع العربي المعاصر الذي ما زال يرزح تحت وطأة الحنين
إلى الماضي والتوق إلى عوالم الحداثة، فلا يملك إلا أن يزاوج بينهما. ذلك حال
الشخصيات الثلاث في الرواية، إنها تعود إلى ماضيها الغابر، لكنها تقيم مسافة بينها
وبينه.
علاقة
نوح بأبيه (مطلق)
يكشف السارد منذ فاتحة السرد وحتى
نهايته عن العلاقة الوطيدة التي تجمع بين أبيه نوح والجد مطلق، وهي علاقة يتم
تصويرها بالاستناد إلى أساسيين متلازمين معقدين هما: الطاعة والولاء من جهة،
والتمرد والتحرر من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فإنه يمكن النظر إليها بالمقياس
السابق، أي قبل السفر وبعده. يقول السارد: «أبي لم ينظر في عيني جدي أو حتى حدّق
في وجهه على الإطلاق، دائما ينظر إلى الأرض مستمعا إلى كلامه بانتباه، تجاوز عمره
الأربعين عاما وهو يقول إنه يستحي من النظر إلى وجه أبيه». «وأعترف لك الآن وحدك،
ولأول مرة في حياتي.. بأنني كنت غالبا ما أرى الرب مجسدا فيه». تدلنا
الأمثلة المنتقاة بطبيعة العلاقة التي تجمع بين الأب والابن في بعض الأنساق
العربية، علاقة قوامها الهيبة والاحترام والرهبة في آن، لا سيما في الأوساط
القروية، فرمزية الأب فيها تتجاوز الوظيفة البيولوجية المتمثلة في التربية
والإعالة، لتغدو سلطة رمزية فوقية، وتصير له «الوصاية» على كل من تحت ولايته من
أفراد أسرته. لكن الأب مطلق لا يبرز من موقع الأب المتسلط الذي يفرض خضوعه وطاعته،
بل كشخصية مثقفة وقارئة، شخصية تمتلك من مؤهلات التواصل ما يجعلها تعقد صلات مع
إثنيات متعددة. وعليه، فإننا لا نقرأ في الأمثلة السالفة نوحا واحدا، بل ذلك النوح
الجديد المتجدد؛ فيه من رواسب النسق الذي تربى فيه (إحدى قرى العراق) وفيه من عالم
الآخر وما يعج به من قيم الديمقراطية والحرية والانفتاح، إنه شكل من أشكال
الانفلات من سلطة الأب الرمزية، فيكتشف القارئ أمارات التغيرات التي طرأت على هذه
الشخصية، إذ خرجت من انطوائيتها وأصبحت تنعم بحرية الرأي وحرية الاختيار.
علاقة
السارد بنفسه
من عاديات الأمور أن تحدث شقوق في
البناء الداخلي للسارد، وهو ما سيؤثر على علاقته بنفسه ومحيطه الخارجي، لا سيما
بعد وفاة الجد مطلق، علاوة على التأثر بـ»الأب الجديد» نوح الذي خلق مسافة بينه
وبين ماضيه. علاقته أيضا بجده مطلق مبنية في كافة أطوار السرد على الاحترام
والهيبة والرهبة والخوف في الوقت ذاته. يقول: «لا أدري ماذا أفعل، وقلبي يدق بشكل
لم أعهده من قبل إلا في حالات الخوف من جدي». وفي مستقبل السرد، خاصة بعد رحيل
سليم إلى إسبانيا، بعدما خنقته رائحة الجثث المتعفنة، نقرأ ساردا جديدا هو ذلك
المعجب بإسبانيا المنبهر بقيمها، يفسر ذلك التوق الشديد لتمثل قيم هذا الآخر
والرغبة الجامحة في التموضع ضمن هذا النسق، يقول: «صار يعجبني العيش هنا وسط هذه
الحرية وهذا السلام لذا فأنا منهم، من هنا حيث أكون خارج شقتي».
صورة الأب المثقف
تضعنا الرواية أمام شخصيات مثقفة تعبر
عن وجهة نظرها ومنظورها للأمور، استنادا إلى مقولة دمقرطة الحكي. سننصت للرواية من
زاوية تصويرها للابن (سليم) والأب (نوح) والجد (مطلق) باعتبارهم شخصيات تتمتع بذخيرة
معرفية، إنهم قارئون لتراثهم وتراث الآخر. يقول السارد: «وربما كنت مدفوعا إلى
الشعر بسبب أبي أيضا، الذي يحفظ (الديوان الشرقي الغربي) لغوته بالألمانية». «تعلم
أبي الألمانية والإنكليزية من الأجانب في شركات النفط، وكان يحفظ أيضا مقاطع من
هاملت وشكسبير، وبالطبع يحفظ القرآن كاملا». فالشخصيات الثلاث وعبر مسار السرد
تكشف عن ذخيرتها وخلفياتها المعرفية التي تتأرجح بين المعرفة بالنسق ومعرفة أخرى
تنهل من الآخر وتتفاعل معه في الوقت ذاته، لتشكل صورة كلية أرست ما يمكن أن نسميه
بـ»بلاغة التناقض»، فالرواية تغرق في أشكال الازدواجية التي طبعت شخصياتها.
*نشرت في صحيفة (القدس العربي)، العدد 8980 بتاريخ 19/10/2017
لندن.
**جواد السراوي: كاتب وباحث مغربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق