الرملي ينصِّب الكلمة
كمتْن أول لهذا العالم
«ذئبة الحُب والكتب»..
مديح الأدب العالي
صالحة عبيد
يقول الروائي البيروفي
«ماريو فارغاس يوسا»: تأتي الأعمال الأدبية في البداية كأشباح بلا شكل... في أثناء
لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة، بقوة مشتركة بين كل من وعي
الكاتب وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت، وهي ذاتها تلك الأمور التي
يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات، لينتج بشكل تدريجي شكل النص،
وإيقاعه وحركته وحياته.. صنعت اللغة هذه الحياة المصطنعة، وللدقة هي حياة متخيلة..
وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة.
فور قراءتي هذه الجزئية من مقال «يوسا»، حول
القراءة والكتابة وما حولهما، عاد ليسطع بذهني عمل الدكتور والروائي العراقي محسن
الرملي.. «ذئبة الحب والكتب» الصادر مؤخراً عن «دار المدى». الذئبة هي تلك الرواية
التي تراوح بين شخصيتين رئيسيتين، أولهما «الرملي» نفسه.. الذي يجعلك تبدأ القراءة
وأنت تعتقد أن ما يذكره هنا، هو مجرد توطئه للعمل لتتفاجأ بعد الفصل الأول، بأنك
قد دخلت العالم الروائي فعلاً، العالم الذي تجعله اللغة هنا متخيلاً حتى وإن بدأت
بفكرة معاكسة.. لتنسل بعد ذلك في الفصل الثاني إلى الشخصية الأخرى، حيث «هيام»
السيدة الأربعينية المتزوجة، والمهاجرة العراقية إلى إسبانيا التي تعتاش على
الكتب.. الأدب، وما يبقيها على قيد الشغف في ذلك العالم المتخيل الذي تتوق إليه
بشدة وشراسة، ربما هي أقرب للذئبية، إلى الدرجة التي تقرر أن تجعل منه عالماً شبه
واقعي، من خلال مجموعة رسائل تصوغها إلى حبيب متخيل. وهذه الرسائل، شكلت القاعدة
التي بني عليها العمل، حيث المسرح العريض، الذي يحوي كل ما يحتاجه العمل السردي من
مراحل زمنية وحكاية وحبكة وشخوص.
هناك أيضاً شخصية رئيسية ثالثة لا يذكرها
العمل بصراحة، لكنها تلعب دوراً محورياً في ربط الفصول ببعضها، وصياغة حبكة
العمل.. فـ«حسن مطلك الرملي» شقيق «محسن الرملي» والأديب العراقي الجميل جداً
والمبتكر إلى حد لا يصدق، والذي جرى للأسف الشديد إعدامه في 1990 ميلادية، هو
الرابط الذي أوصل «هيام» بـ«محسن» بين الفصول، وهو الذي يجعل العنوان متسقاً مع
فكرة العمل، فالكتب التي قرأتها «هيام» لحسن مطلك، والتعلق الشديد بلغة «حسن»
الذكية والمرهفة والملغزة في آن، هي نفسها الرغبة اليائسة الأخيرة، التي حدت بمحسن
الرملي إلى إنشاء مدونة إلكترونية لحفظ أعمال شقيقه، وإعادته دائماً إلى الذاكرة
رغماً عن أنف المستبد. امتزاج الرغبات هنا أتى بتلك المصادفة الإلكترونية، مهدها
اختيار الشخصيتين لبريد إلكتروني، يحمل اسم إحدى روايات «حسن مطلك»، رواية
«دابادا»، مع بعض الاختلافات، تلك الصدفة التي مكنت «محسن الرملي»، من قراءة رسائل
«هيام»، التي كانت توجهها لحبيب مجهول الاسم بداية، قبل أن تطلق عليه اسم «حسن»
تيمناً بـ«مطلك» الراحل.
شذرات سيرة ذاتية
وبين صوتين، «هيام» و«محسن الرملي»، ودور
«حسن مطلك» الخفي، تراوح الفصول وتتمازج. هنا ربما شذرات سيرة ذاتية مجتزأة لمحسن
الرملي في الفصول الذي يتحدث فيها بصوته. وهناك على الجانب الآخر، حيث صوت هيام
الأنثوي، تشع المرأة المثقفة التي تحب الحياة، رغم كل ما مر بها من العراق ثم
الأردن وصولاً إلى إسبانيا، في صور وتداعيات للذاكرة والأحداث، والانعطافات المهمة
وما يشملها من قضايا حول الوطن والحب والحرب، وغيرها مما هو مسكوت عنه في المجتمع
الذكوري الممتد، والذي ينقل ذكوريته الشرقية تلك بشكلها السلبي حتى إلى البلاد
التي لم تعد تؤمن إلى حد كبير بسيادة الرجل على المرأة، وهو نقد ضمني قد يحاول
الراوي من خلاله أن يشير إلى أن التغيير والنضج الفكري والاجتماعي لا يحدث بمجرد
الانتقال الجغرافي للمكان، وأن الأمر يستعد استعداداً معرفياً تراكمياً، هو الذي
حول هيام بثقافتها الذاتية التي تنمو في الوقت الذي توقف من حولها عن ذلك النمو،
هيام التي تمارس في العمل فصلاً من الثرثرة طويلة جداً.. بعضها مكرر إلى الدرجة
التي قد تجعلك تتساءل: هل عمد الدكتور «محسن» كروائي إلى ذلك، من باب تقمصه المتقن
لشخصية الأنثى، التي تقرر أن تتحدث عن كل شيء بأدق تفاصيله، حتى لو تكررت الأحداث
وبات ترديد بعض المواقف واضحاً ومستهلكاً، أم أنه تكرار سقط سهواً، فذهب بصبر بعض
القراء على فصول هيام الطويلة، كما أن هناك ملاحظات تبديها هيام، قد تجعلك تبصر
صوت السارد الرجل، وليس صوت هيام الأنثوي، لتتساءل مرة أخرى: هل هي خشونة المحطات
التي مرت بها امرأة، كان جل ما تريد أن تحب وتقرأ، هو ما حولها إلى تلك الشخصية،
بصوتين أنثوي وآخر ذكوري، أم أنه سقوطٌ ساه آخر من الروائي الرجل؟
هناك على الجهة المقابلة، جو إنساني جميل
مصاحب للعمل، يستعرض فيه الراوي بشكل غير مباشر أحوال نماذج متنوعة من شخوص العالم
السفلي، وعندما نشير للعالم السفلي هنا، نذهب إلى أولئك المهمشين، الذين يتم
التعامل معهم باعتبارهم زوائد بشرية طارئة لا يتم الالتفات لها لخلفية حيواتها
الكاملة، ولهمومها التي قد لا يبصرها إلا من تعايش معهم بشكل يومي، ففي تلك الشقة
المكتظة التي انتقل إليها «محسن» بطل العمل في الأردن، كانت هناك سير قصيرة ومؤلمة
للبسطاء المهاجرين، بحثاً عن عيش يستمر بكرامة، وحالات يأس وجذل متشابكة في اليوم
الواحد، ونهايات منكسرة لبعضهم هم الذين لا ينفصلون عن السيرة الكبرى لهذا الشرق
الملتهب، بالوجع الإنساني المستدام، ثم هناك عاملة المنزل السيرلانكية، في استقراء
لحالة إنسانية خاصة، حول ذلك الآخر الذي نختلف معه في اللغة والسحنة، ونشترك في
الهشاشة، والاغتراب، وأسئلة الوحدة والحب والألفة، إن شيئاً ما في العمل، كان
يستند بشدة على هذه الشخوص، على فكرة أنك في بحثك عن الإنسان الذي تحب والذين
تلخصهم «هيام» في بحث «محسن» عنها، ستتعثر بآخرين.. يُقَوُمُونَ عودك أثناء ذلك
السعي، لأنك محاط بهم، ستكتسب شيئاً من التوهج الإنساني الخارق، والفهم الأصدق
لهذا العالم، بداية من أولئك الذين لا يعيرهم العالم نفسه انتباهاً، فيما لا
يدركون هم أيضاً، أنهم يشكلون دعامته، وسبب استمراره، لأنهم الندرة الذين يعيد من
خلالهم فهم الصدق والبساطة والوفاء، وهنا تتمنى أيضاً كقارئ لو أن عالم «هيام»
البعيد، قد حمل شيئاً من هذه الشخوص البعيدة، فشخصية «هيام» كانت ذاتية جداً في
واقعها في أرض المهجر وأعني هنا في مرحلة استقرارها الأخير في الأراضي الإسبانية،
لا الماضي الذي ترويه في استحضار لذاكرة سابقة، فالشخصيات التي جاءت في حاضر
«هيام»، وقت رواية العمل، جاءت بحضور باهت لم يميز لها ملامح نفسية، تساعد القارئ
على تكوين وجهة نظر حولها.. كالدكتور والشاعر الذي حرص على أن يمنحها رواية «حسن
مطلك» الأولى، أو شخوص الضفة الأخرى، في حيوات عائلة زوجها، الذين يتقاسمون معها
تلك الغربة القسرية.
الحقيقي والمتخيل
أخيراً يأتي ذلك الفصل الأخير وتلك الخاتمة
المدهشة، بعد أن ينتقل «محسن الرملي»، في جغرافية العمل من الأردن إلى إسبانيا،
حيث يدور في حلقة مفرغة لا تقوده إلى حبيبته المنشودة، ليعود إلى العراق في رحلة
أخيرة من باب أن ما تبحث عنه قد يعود ليبحث عنك، نجد أن النهاية تعيدنا وبقوة إلى
مدخل «ماريو فارغاس يوسا» الذي تناولته في مقدمة هذه القراءة.. فما الذي صنعته بنا
اللغة/ الكتاب/ الأدب في «ذئبة الحب والكتب»؟ وما الحقيقي من المتخيل؟ أين
«هيام» أخيراً؟ أو ما هي «هيام» بالأحرى؟ وهل صنعت هي حسن الحبيب المتخيل، أم أن
«حسن مطلك» هو الذي زرع صورة شبحية لها في وعي «محسن الرملي» بطريقة غير مباشرة
سببها الأساسي هو إصرار «محسن الرملي» على أن لا يموت «حسن مطلق» أبداً، فهل هذه
المشاعر المتضاربة كلها، هي ما يقوم عليه الأدب؟ هو ما يُعجن داخل كل كاتب بصبر،
لتتشكل مواقفه الكبرى عن العالم وملامحه التي يذيلها بتوقيعه الخاص؟ كلها تفاصيل
وأسئلة يطلقها «الرملي» – الروائي هنا- بشكل يجعلك متحيراً ومعجباً في آن واحد.
في المجمل، هذه رواية ترغب في أن تعيد الاعتبار للثقافة
وللأدب عن طريق إثبات قدرتهما على الإتيان بما يعجز عنه الإنسان الحديث
والتكنولوجيا التي ابتدعها رغم تطورهما البارع. هو عمل ينصب الكلمة كمتن أول لهذا
العالم، ويحاول أن يعيد ثقتنا، نحن المتشظين في كل مكان أمام الخوف والخرائب،
والمنطق الجاف، بذلك الحب الصادق، بالحب لأجل الحب، ككيان إنساني مستقل، تماماً
كما يؤمن كاتب الرواية وبطلها، وهو فيما يتعلق بخط الدكتور «محسن الرملي» السردي،
يأتي مختلفاً عما سبق من حيث القتامة ومن حيث المعالجة العامة للمحيط الاجتماعي والسياسي،
ومن ناحية صناعة الشخوص نفسها، فهو عمل منعش يجعلك تبتسم.. تتأمل.. تتحسر.. أو
تنتشي.. بكثير من الخفة والحيوية.
بحثاً عن أمل
عراقيان، امرأة ورجل، يبحثان عن الحُب في
ظِل الحُروب والحِصار والدكتاتورية والاحتلال والمغترَبات. إنها رواية حُب تدعو
للحُب في أزمنة تُهمش الحُب، لذا يهديها كاتبها الى كل الذين حُرِموا من حُبهم
بسبب الظروف. ذِئبَة الحُب والكُتُب رواية مُثقَّفة عن مُثقَّفين، تَمنح المتعة
والمعرفة لقارئ يجيد الانصات إلى بوح الدواخل وانثيالاتها. إنها بمثابة بحث عميق
في الخفي والمكبوت. تتقصى العواطف والجمال والأمل الإنساني وسط الأوجاع والخراب.
مكتوبة بلغة وأسلوب وتقنية مختلفة عما عهدنا عليه محسن الرملي في أعماله السابقة،
حيث يمزج فيها بعض سيرته الذاتية بالخيال، متقمصاً صوت المرأة، ومتعمقاً أكثر في
جوانح شخصياته بعد أن وصف ما مر به بلده من أحداث قاسية وتحولات عصيبة في رواياته
السابقة التي تُرجِمَت إلى أكثر من لغة: (حَدائق الرئيس)، (تَمْر الأصابع)
و(الفَتيت المُبَعثَر).
الناشر.... كتابة الحياة
أحلم بكتابة هي نمط آخر من الحياة، فالحياة
أهم من الكتابة، وعلى الكتابة أن تتحول إلى حياة لتكسب أهمية أكبر. عندما كنت صبية
وفي مرحلة المدرسة المتوسطة، كنت أعيد كتابة كل ما يعجبني من الأفلام والمسرحيات
التي أشاهدها، حيث أشعر بمتعة رؤيتها بعينيّ أنا وبكلماتي، وكم استهلكت من الدفاتر
المدرسية في ذلك، وأمي تسألني: كل يوم تريدين دفاتر جديدة.. أين تذهبين بها.. هل
تأكلينها؟. فأضحك وأقول لها: نعم، آكلها وتأكلني. وفي الجامعة وبعدها، كثيراً ما
كانوا يسألونني لماذا لا تكتبين؟.
أبحث عن حياة تجعلني أكتب أو كتابة تجعلني
أحيا، لا فرق... أحلم بأصابع تمتطي الحرية وتلك كانت المعضلة... أنا مثل حسن مطلك
وهو يقول: «لا فرق بيني وبين ما أفكر به... بما أنني سقت نفسي بقسوة إلى الاعتراف
بعدم الكذب. أنا والكتابة شيء واحد!»، وهو يتساءل: «كيف أصطاد التجربة بالكتابة؟.
يبدو أنني لم أعد أستطيع أن أكتب عن أي شيء، لأنني سوف أستغرق في تأمل الأشياء
التي تتحول إلى ما هو أكبر مني». وأحياناً أقول: بما أن في العالم كتب كثيرة تستحق
القراءة فلا مبرر لأن أكتب أنا... ويكفي أني أقرأ.. ليتني أجد الفسحة الزمنية
الكافية لقراءة كل ما أريد قراءته.
بعيداً عن القتامَة
فيما يتعلق بخط الكاتب السردي، يأتي عمله هذا مختلفاً عما سبق من حيث القتامة
ومن حيث المعالجة العامة للمحيط الاجتماعي والسياسي، ومن ناحية صناعة الشخوص
نفسها، فهو عمل منعش يجعلك تبتسم.. تتأمل.. تتحسر.. أو تنتشي.. بكثير من الخفة
والحيوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (المحلق الثقافي) لصحيفة (الاتحاد)
الإمارتية، بتاريخ: الخميس 25 أغسطس 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق