محسن الرملي يكتب رواية
التيه العراقي
ممدوح فرّاج النّابي
ليس
خافيًا على أحد أن رواية تجارب السيرة الذاتية صارت هي الأكثر رواجًا بين
الكُتَّاب في الألفية الجديدة. لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه هؤلاء الكتاب
تتمثل في كيفية تمرير جوانب من السيرة الذاتية داخل أعمالهم، وما هو المهم في هذه
المسيرة العظيمة الذي يستحق أن يُروى؟ وما هي حدود المسموح به في نص وسم بأنه
روائي؟ وهل ثمّة محاذير تمنع مِن قول ما يُريده في السيرة الذاتية فيلجأ إلى رواية
السيرة الذاتية؟ كل هذه الأسئلة جوابها في رواية «ذئبة الحُبّ والكُتب»
الصادرة عن دار المدى للعراقي المهاجر والمقيم في مدريد محسن الرملي.
في
رواية «حدائق الرئيس» للروائي العراقي مُحسن الرملي، وهي الراوية السابقة
«لـذئبة الحُبّ والكُتب»، تحدث الكاتب عن جيل الآباء في الحروب التي خرج منها بلا
طائل، سوى معاناة أكثر وحصار مقيت، ثم توالت هزائم جيل الآباء وجيل الأبناء بعد
الاجتياح الأميركي للعراق، وصولا إلى ما هو عليه الآن من تغريبة.
سيرة
غيرية
القهر
والاستبداد اللذين عَانى منهما الآباء يعاني منهما الأبناء هنا في رواية محسن
الرملي الأخيرة «ذئبة الحب والكتب»، ولكن مع مستبد جديد هو الاحتلال الأميركي
للعراق، إذ يواصل الكاتب تشريح سنوات الاستبداد والقهر التي جمعت بين الجيلين معا،
عبر شخصيتين محوريتين محسن وهيام، وإن كانت مساحة القهر والمعاناة تشغل مساحة
كبيرة من سرد هيام، على الرغم من أنها ابنة أحد رجال النظام السابق، استفاد منه،
وبعد رحيله لاقى الهوان حتى مات في سجنه، لذا لجأ الاثنان إلى البحث عن الحب للخلاص
مما يعانيان، فكان لهيام شقاء وكانت لمحسن متاهة قادته إلى الاغتراب.
تبدو الرواية في أحد أوجهها توثيقا لزمن الاستبداد والخيانات
والجواسيس، ثم في مرحلة لاحقة توثيقا لزمن الحرب، وهو الذي أجادت السّاردة في
تصويره، حيث تزامنت لحظة الاحتلال وسقوط بغداد مع لحظة اغتصابها من قبل صديقها خلف
مرعي، الذي تبين أنه جاسوس مدسوس من النظام على الأدباء. وهذا التوازي مثل معادلا
موضوعيا لحالة البلد التي انتهك عرضها.
باعتراف الكاتب أنّه صاحب النص، وهو
ما يعدّ قرينة من قرائن عقد السير ذاتي كما هي عند فيليب لوجون وجورج ماي، فيحدث
تطابق الهويات الثلاث (المؤلف/ السارد/ الشخصية)، فقد مرر الكاتب جزءا من سيرته
الشخصية داخل النص، إلى جانب سيرة أخيه الكاتب حسن مطلك الذي أعدم بتهمة قلب نظام
الحكم، وهي تأتي كسيرة غيرية. فمنذ بداية الرواية يقر المؤلف بأنه محسن الرملي أخو
حسن مطلك، ثم يعود في الفصل الأخير ليقول “هي أنا والعكس صحيح”.
الجامع
المشترك بين كل الشخصيات الواقعية والمتخيلة هو البحث عن الحب؛ فسبب أزمة هيام
وفشل علاقاتها المتعددة حتى تزوجت من زوجها عبود بطريقة تقليدية، هو غياب الحب
الذي يجب على حدّ قولها «أن يكون حبا من كل قلبي». وتارة أخرى تتمنى «حبيبا يحب
الثقافة ويحاورني بتفاصيل الشعر والروايات وجديد الكتب» وعندما تفشل تقول لقلبها
«كفى كفى بحثا عن الحب» إلى أن عثرت على محسن الذي أسمته حسنا كما كانت تخاطبه.
فصارت عبر هذا الحب تحيا حياة موازية تعيش بها لمواجهة الحياة التي تحياها مع «زوج
انفصلت عنه روحيا منذ زمن». تتكرر مأساة الحب لدى رفاعي الصعيدي، فهو الآخر فجع في
الحب وانتهى مصيره إلى إصابته بالإيدز، فرحل عن الأردن إلى أن وافاه الأجل في
بلدته.
حياة موازية
ثمة خيطان متوازيان في السّرد وإن
كانا مختلفين زمانيا ومكانيا، الخيط الأول هو سيري حيث السرد بعنوان الضمير الأنا
المتطابق مع هوية المؤلف/ محسن الرملي، فيحكي من خلاله عن حياته في العراق ثم
انتقاله إلى العمل بالأردن مع العمال المصريين، وفي هذا الخيط جانب توثيقي يغلب
عليه الجانب الثقافي، حيث علاقات الراوي بالمثقفين وأحوالهم، إضافة إلى مقاطع من
أعمال أخيه حسن مطلك، وأيضا ثمة مقولات لكتاب كبار مثل شكسبير وسارتر وشوبنهاور عن
الحب وعن الإنسان وعن الآخر، وآرثر رامبو عن الشعر، وعن الشاعر البرتغالي فرناندو
بيسوا والشاعر مظفر النواب، ومع الجوانب التوثيقية التي قدمها الكاتب، إلا أن
السرد غلب عليه التداعي الحر.
أما الخيط الثاني فهو خاص بهيام ويسند
فيه ما يسرد عنها إلى الضمير هي، وفي هذا الجزء يعود الكاتب إلى سيرة أخيه حسن
مطلك أيضا وكتاباته التي شغفت بها صاحبة الإيميلات، حيث كانت أقواله طوق النجاة
بالنسبة لها للخروج من شرنقة المأساة التي تعيشها مع زوجها.
يتراوح في هذا الجانب الزمان والمكان، حيث ثمة تنقلات
كثيرة لها حسب الأماكن التي عاشت فيها كبغداد والبصرة، ونينوى، ثم السعودية واليمن
والمغرب وغيرها من البلاد التي انتقلت إليها أو درست فيها، وصولا إلى أسبانيا حيث
تعيش مع زوجها وأبنائهما، وزمانيا فالزمن متشعب في الماضي البعيد حيث طفولتها، وفي
الماضي القريب حيث زواجها وعلاقتها بزوجها المضطربة إلى حدّ وصفه بالمستأجر، ويمتد
تشعبه إلى الحاضر حيث زمن الرسائل، والاتصالات بينها وبين مُحسن الرملي.
بل إن صيغة الخطاب السردي تختلف أيضا تبعا لهذه الأزمنة فبينما السرد يكون في
الزمن الماضي وهو أقرب إلى التداعي في سردها عن الماضي البعيد حيث ذكرياتها، يكون
الخطاب في الزمن الحاضر إلى مروي حاضر، سواء بضمير الأنت والعائد عليه مباشرة، أو
باستحضاره عبر الاتصال والسرد له مباشرة. وهذه التقنيات كسرت حدة السرد الذاتي،
حيث رغم أن النص كله يميل إلى السرد الذاتي إلّا أن هذا التنوع أعطى مساحة للتخيل.
في مقابل ذلك نجد السرد الغنائي الذي تميز به جانب كبير من الوحدات حتى غدت في
البعض منها مرثية حزينة يرثي من خلالها العراق، وما آلت إليه. ثم هناك غلبة لطابع
اليوميات، خاصة في سرد هيام لزمنها الحاضر وهي تعيش في مدريد حيث دائما تسرد له ما
يحدث لها في يومها كزيارتها لطبيبها وعلاجها، وجلوسها مع ابنها حامد المريض،
واتصالاتها بصديقتها ياسمين، وأيضا خلافاتها مع زوجها.
يعمد المؤلف إلى توزيع الحكايات المتناوبة بين حسن وهيام عبر وحدات سردية أشبه
بالفصول، يحمل كل منها عنوانا مستقلا يتراوح بين العناوين الوصفية التي تلخص مضمون
الفصل، أو يحمل اسم إحدى الشخصيات الواردة والطارئة على النص مثل ابنة الذئب،
والبجعة الجميلة، السريلانكية الطيبة.
«بالحُلْم يتجدّد كلّ شيء» هكذا صدّر الرملي روايته، وبالحلم استطاعت البطلة أن
تجدد حياتها وتعيد ذاتها، وبالحلم استطاع البطل أن يحقق ذاته وسار خلف حلمه غير
عابئ بشيء، وبالحلم كتب رفاعي روايته إلى حبيبته التي هجرته، ومثلما كان التصدير
دعوة إلى الأمل كان الإهداء لضحايا الحب والمتورطين فيه، فالرواية هي دعوة للحلم
والحب. فهلا تلقينا الدعوة وسط الأجواء الضبابية المسيطرة على حياتنا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نُشر في صحيفة (العرب) بتاريخ 05/03/2016، العدد: 10205، ص17
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق