في ضيافة محسن الرملي
أسامه
محمد صادق
في احدى ليالي أيار، اتفقنا أنا والقاص جمال نوري
والناقد كفاح الالوسي بأن نعد أمسية هادئة ومثمرة في مقهى وكازينو زيونة بتكريت.....
ومن بين
ما أعددناه، قراءة نص للمغترب الدكتور محسن الرملي، ولأنني أصغر الثلاثة وصاحب الفكرة
وأتمتع بقوة النظر، نصبوني عريفا للأمسية.. فألقيت على مسامعهم قصة (القصف في غرفه
آمي)....
وما أن
وصلت إلى (فيتفجر جبل مكحول في الضفة الأخرى من النهر وتهتز جدران الطين هنا.
يرتجف سعف النخلات المتبقية، تفزع الأبقار والحمير والنعاج ، وتنبح الكلاب، وتقوقئ
الدجاجات) حتى استوقفني الناقد كفاح الالوسي بعد ان أشعل سيكارته وعب وزفر منها أول
الأنفاس وعاد بذاكرته الى حقيقة تلك الكهوف التي كانت الحكومة تحفرها تحت المدينة
الاثرية مدعية بأنها مصنع للسيارات فيما قالت الإذاعات الأجنبية بأنه مصنع لأسلحه
الدمار الشامل......
في حين
بدت على القاص جمال نوري ابتسامه حذرةً وإصغاء نادر (حين شرعت الام تسرد لهم الحكايات
التي كانت تسمعها من امها عن السعلاة والحنفيش ونصف النصف والطنطل والسندباد وانها
لا زالت تذكر الكثير من الحكايات التي قبرها التلفاز بحضوره منذ أعوام) ومن بين ما قصته لهم واقعة أسر زوجها مع ثلاثين من رفاقه في ثورة
العشرين ودور الامير عبدالله في منع قائد الانكليز غلوب باشا (ابوحنيك) من اعدامهم
قائلا:
ـ العراقيين
زلم خشنة ما يستاهلون الموت.
بعدها
حاولت أن أتوقف عن القراءة طلباً للاستراحة وخوفا من أن يتسرب الملل على جلستنا
فالقصة محتشدة بالأحداث لكن صاحبيّ لم يرق لهما توقفي وطلبا مني مواصلة القراءة،
وسرعان ما تحولت أمسيتنا إلى قهقهات منتظمة، كلما تقدم الحدث بنا وصولاُ الى
المقطع التالي:
"مر النهار ثقيلاً، طويلاً حتى حلول الليلة الثانية
بعد أن أصبحت الحجرة خانقة بفعل بخار ودخان الطبخ والفانوس وفساء الأولاد فسمحت
لزوجتي أن تزيح البطانية من تحت الباب وأقنعت الأطفال بعدم الضحك على من يضرط منهم
(لأن الذي لا يضرط يموت).. لذا لم يعد أحدهم يجاهد في كبت غاز بطنه إذا ما ضايقه..
بل أن بعضهم كان يطلب من الآخرين الصمت كي يستمعوا إلى ضرطته ليتلقى بعدها التصفيق
والتهنئات منهم على نجاته من الموت..".
ومن بين
أهم المحطات التي استوقفتنا في قصة الرملي
".. وإننا لابد أن نموت وسنموت مرة واحدة فقط فمن
العبث قضاء الحياة خوفاً من الموت الذي هو في كل الأحوال سيصيبنا عاجلاً أم
آجلاً.. ثم أن صعوبات الحياة ليست مشكلة مادمنا أحياء وإذا متنا فلا مشكلة على
الإطلاق.. تنتهي المشاكل ولكل شيء نهاية.. فلماذا الخوف؟".
...........
...........
لقد ذهب الخوف، هذا ما قالته العجوز: "هيا
اخرجوا.. لقد ذهب الخوف... فسألتها الجارة من ثقب البلاستك: هل انتهت الحرب؟.
وأجابت أمي: لا.. ولكن أنت إنسان ولست نعجة"!!.
وما ان
طويت أوراقي ورميتها على الطاولة الخشبية وقلت لصاحبي:
ـ انتهت
القصة.
حتى لمحت
في عينيهما احتجاجاً ورغبة لو أنها لم تنته.
وما أن
تبادلا النظرات فيما بينهما حتى انبرى كل منهما يثني على حُسن صنيعي بتخصيص هذه
الجلسة لقراءة هذه القصة. بعدها التفت الالوسي لصاحبه قائلاً:
ـ ابدأ
أنت أولا... ما هو رأيك فيما سمعت يا جمال؟
فقال:
ـ لاشك ان القصة كانت ملئى بالحركات المتقنة والجميلة
وان القاص تنوع في سرده، من سارد عليم، الى سارد ذاتي، الى سارد موضوعي، وهذا كله
يحسب للقاص الذي أبدع في جعل نصه وحدة متماسكة بذروات متعددة، لكل ذروة قمة، ما ان
تنتهي حتى نجد ذروة أخرى تنتظرنا صوب فضاء آخر....
أما
الناقد كفاح الالوسي فعاد بنا الى أصل الحكاية وبذرتها الأولى، في أوائل
التسعينيات من القرن المنصرم، وكيف واجهت الأم القروية بعد غياب أبنائها في الجبهات
تلك الإشاعات باستخدام الغازات الكيمائية السامة، وكيف استفاد القاص من تلك
الوقائع المأساوية، ملمحاً في سخرية مفضوحة لفساء الأطفال كمعادل رمزي لتلك
الغازات الكيماوية المزعومة، كما توقف عند التداخل الحكائي للنص وبراعة القاص في
الاستفادة من تقانة الفلاش باك وسرد الأحداث المتلاحقة بلغة بسيطة لا تحتاج من
القارئ الكثير من العناء لفهم النص والإمساك بدلالاته ومعانيه مؤكداً على ما قاله
جمال نوري...
ـ بأن كل
هذه الأمور مجتمعة تحسب لصالح القاص الرملي في بناء قصصي مقنع وممتع في آن،
معتبراً النص من النصوص الجريئة، وهو ما اعتدناه على الرملي في كتاباته السابقة،
خروجاً عن السكة التي التزم بها الكثير من القصاصين متجاهلاً في الوقت نفسه بأنها
الخلطة السحرية التي لا يجيدها إلا من يملك موهبة وفطنة الرملي.
ولم تنته أمسيتنا إلا بعد أن أبلغنا صاحب الكازينو بنفاد
، مع ذلك لم ينته الحديث عن القصة وذهبنا نكمل ما بدأناه أثناء عودتنا لمنازلنا.
ودعتُ
صديقي الحميمين، وفي نفسي أشياء كثيرة يمكن أن أكتبها عن محسن الرملي ليس أهمها ما
قلناه.. بل ما سنقوله في طالع الأيام....
قلوبنا
قبل أيادينا تصفق لك أيها الرملي احتفاء بمنجزك الإبداعي..
--------------------------------
*أمسية في حدائق مقهى زيونة في تكريت، بتاريخ 2012/5/11
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق