قصة
عُـطـلَـة
محسن الرملي
عند فجر صياح ديـ.. مذياع جارتنا، كررنا الحب.. تحاببنا.. ثم نهضتُ عنها ونهضنا معاً عن فراش صباح العُطلة، توجهنا صوب الحمّام، ثم طاولة الإفطار، ثم قهوة الشرفة، تصفحنا الصحف وألقمناها لصفيحة الزبالة.. ليس لدينا ما نفعله، وليس لدينا أية مشكلة.. لم نتكلم، كنا نشعر بالشبع؛ كلاماً وحباً وطعاماً وقهوة وصحفاً وخواء.. نظرنا إلى بعضنا بصفاء وحيادية وبرود.. أو بلا معنى. أعدتُ نظري إلى الشارع، حيث لا أحد سوى العطلة قد تمددت فيه والناس غابت في البيوت وغابت زوجتي في البيت لتتشاغل بغسل صحون الإفطار وملابس أسبوع الوظيفة وترتيب فراش الحب لتكرار الحب في ليل قادم، في فجر قادم بلا مشكلة، فيما بقيت أنا والشرفة والصمت وكرسيها والصفيحة والصحيفة والصمت والشارع والبيوت والمدينة والصمت والعالم وفنجان القهوة والشمس والصمت الذي فكرت بأن أتشاغل بطرده مثلاً.. ولأنني بلا مشكلة ورغبت بالكلام سمعتني أهمس بلا قصد ولا تنظيم.. هكذا: يا حمدان إن جدتك أفضل منك.
تلفتُ حولي؛ لا أحد. وزوجتي تقرقع في المطبخ.. استلذذتُ بالجملة على الرغم من أن اسمي "سليم" وليس "حمدان" .. وليس ثمة مناسبة أو مقاربة للمفاضلة بيني وبين جدتي الميتة منذ بعيد.. يعني منذ حوالي أن عظامها الآن قد صارت رميم، ولكنني عزمتُ على مواصلة التسلي بالدفاع عن هذه الجملة وتبريرها.. هكذا.. فكل شيء أصبح قابلاً للتبرير والتأويل والتحليل والصحيفة والصفيحة والبنيوية والتفكيكية والحداثة والتمشكلية والتمزيفية.. وخرج طفل الجيران وبال على وردتهم في شرفتهم ودخل.
قلت: ربما أن لذتي لمخاطبة نفسي باسم آخر.. لأنني تحررتُ للحظة من قيد اسمي الذي أُجبِرتُ على حمله طوال ثلاثين عاماً.. ولكن لماذا حمدان وليس اسم آخر؟.. ربما.. ربما.. ها.. أذكر قصيدة لأديب شنقوه بتهمة محاولة قتل الرئيس.. علماً أنه لا يعرف استخدام المسدس؛ كانت تقول القصيدة:"يا حمدان إنك شوكة في عين التلفاز".. وأذكر أن حمدان الذي كان يناشده في القصيدة: راعياً مبتهجاً بالحياة، متوهجاً بحب نعاجه والمراعي والسفوح الخضر والناي والشواطئ وملتزم بالدروب والصدق لا بالوظيفة والأيديولوجيات لأنها لا تعنيه.. وأذكر أن المشنوق قد توصل في قصيدة أخرى إلى: أن حكمة العصفور أصوب من حكمة أرسطو وهيجل وماركس وباقي الشلة.. أما عن أن جدتي أفضل مني فإنني أبرره.. لحظة واحدة، من فضلك، حتى أطل من الباب المطل على الشرفة وأتأكد من أن زوجتي ما تزال منشغلة بالتفاهات كي لا تصيدني متلبساً بمحاورة نفسي أو الأصح بمهلوستها.. قلت لحظة واحدة فقط. نهضتُ، مددتُ عيوني من حافة الباب حتى الداخل، ثم عدتُ قائلاً: إنها كذلك.
ها.. أين وصلنا؟.. نعم: يا حمدان إن جدتك أفضل منك.. نعم.. نعم.. لأن جدتي كانت حقيقية أكثر مني.. كانت تنفذ كينونتها كإنسان في كل لحظة.. كانت جادة في ممارسة الحياة، مقتنعة فعلاً بقناعاتها.. تعمل عند العمل بشكل حقيقي وتضحك عند الضحك بشكل حقيقي. وحين قلت لها: أنتِ زوربا يا جدتي. قالت بحزم:" زَربَة عليك وعلى أبوك يا حمار يا ابن الحمار". فضحكتُ منها وقلت: على أبيك وليس على أبوك.. لأن أبي مجرور يا جدتي. فضحكت مني وقالت: أهو مجرور بحبل أم من لحيته أم من خصيتيه؟. وأذكر أنها ضحكت مني ذات شتاء حين رأتني أجاهد لإدخال ساقيّ في بنطلون ضيق.. كانت متدثرة جوار المدفأة بعباءة صوف، حاكتها لنفسها بنفسها، ومسندة رأسها على ذراعها.. ضحكت بقوة حتى بان نابها الوحيد الذي بقي من دون أسنانها، نابها الطويل الجميل بصدأه الأصفر والنيكوتين والشاي وتاريخ اخضرار الخباز وعصيدة الذرة الصفراء.. ضحكت مني حتى انقلبت على ظهرها ثم استعادت استنادها على ذراعها وقالت: لماذا تفعل بنفسك كل ذلك؟. قلت لها: إنها الموضة يا جدتي. قالت بمتعة وقناعة: (....) عليك وعلى الموضة.. فالمهم أن تتدفأ وترتاح.. ولو بجلد عنز.
وأذكر أنني سألتها عن الشَعر الذي استطال في ساقيها حين رأيتهما لأول مرة، حين سربلتهما بالحناء: لماذا لا تحلقينه يا جدتي؟ فأجابت على الفور دون أن تنظر إليّ: ولمن أحلقه مادام جدك قد مات؟. ولم أستطع حينها فهم علاقة جدي بشَعر ساقيها. أذكر أنها كانت تبتهج وتمتعنا في سهر شتائي حول موقد الجمر، تردد على مسامعنا أشعار شعبية تُشبه عيون النساء بعيون البقر ونهودهن بالقطن أو أقراص الزبد وأحضانهن بالجنة أحياناً وبالجحيم أحياناً.. وأشعاراً عن الشاي والدخان والثريد والأحذية والمزابل ومشاكل الزراعة وعمامة المختار والجنس وأشعاراً عن الحمير الحساوية وبائع العلك والحناء وتوابل الهند ومالك الحزين.. فيما أنا لا أجد المتعة الآن في أشعار الصحيفة في صباح العطلة في شرفة بيتي الذي فيه زوجتي وسيارتي وطفلي ووحدي في هذا الكون.. وحدي الذي يعرف، من دون الأقمار الصناعية وأجهزة المخابرات، أن طفل الجيران قد بال على وردتهم في شرفتهم.. وقررت أن أكون حقيقياً كجدتي وسوف أسمي ابني القادم "حمدان" ولن أجامل وسأجلس جوار المدفأة في الشتاء وأتلو القصائد التي.. رن جرس الهاتف وردت زوجتي ثم صاحت بي: يا سليم.. تعال. فذهبتُ وقالت لي قبل أن أصل: صديقتي أنجبت طفلة أسمتها "كارولين" فالبس بدلتك الجديدة وربطة عنقك البنفسجية، لنحمل إليها باقة الورود وبطاقات التهنئة.
----------------------------------------------------------------
*نشرت في موقع مجلة (فوبيا) الثقافية بتاريخ 3/4/2010م.
تلفتُ حولي؛ لا أحد. وزوجتي تقرقع في المطبخ.. استلذذتُ بالجملة على الرغم من أن اسمي "سليم" وليس "حمدان" .. وليس ثمة مناسبة أو مقاربة للمفاضلة بيني وبين جدتي الميتة منذ بعيد.. يعني منذ حوالي أن عظامها الآن قد صارت رميم، ولكنني عزمتُ على مواصلة التسلي بالدفاع عن هذه الجملة وتبريرها.. هكذا.. فكل شيء أصبح قابلاً للتبرير والتأويل والتحليل والصحيفة والصفيحة والبنيوية والتفكيكية والحداثة والتمشكلية والتمزيفية.. وخرج طفل الجيران وبال على وردتهم في شرفتهم ودخل.
قلت: ربما أن لذتي لمخاطبة نفسي باسم آخر.. لأنني تحررتُ للحظة من قيد اسمي الذي أُجبِرتُ على حمله طوال ثلاثين عاماً.. ولكن لماذا حمدان وليس اسم آخر؟.. ربما.. ربما.. ها.. أذكر قصيدة لأديب شنقوه بتهمة محاولة قتل الرئيس.. علماً أنه لا يعرف استخدام المسدس؛ كانت تقول القصيدة:"يا حمدان إنك شوكة في عين التلفاز".. وأذكر أن حمدان الذي كان يناشده في القصيدة: راعياً مبتهجاً بالحياة، متوهجاً بحب نعاجه والمراعي والسفوح الخضر والناي والشواطئ وملتزم بالدروب والصدق لا بالوظيفة والأيديولوجيات لأنها لا تعنيه.. وأذكر أن المشنوق قد توصل في قصيدة أخرى إلى: أن حكمة العصفور أصوب من حكمة أرسطو وهيجل وماركس وباقي الشلة.. أما عن أن جدتي أفضل مني فإنني أبرره.. لحظة واحدة، من فضلك، حتى أطل من الباب المطل على الشرفة وأتأكد من أن زوجتي ما تزال منشغلة بالتفاهات كي لا تصيدني متلبساً بمحاورة نفسي أو الأصح بمهلوستها.. قلت لحظة واحدة فقط. نهضتُ، مددتُ عيوني من حافة الباب حتى الداخل، ثم عدتُ قائلاً: إنها كذلك.
ها.. أين وصلنا؟.. نعم: يا حمدان إن جدتك أفضل منك.. نعم.. نعم.. لأن جدتي كانت حقيقية أكثر مني.. كانت تنفذ كينونتها كإنسان في كل لحظة.. كانت جادة في ممارسة الحياة، مقتنعة فعلاً بقناعاتها.. تعمل عند العمل بشكل حقيقي وتضحك عند الضحك بشكل حقيقي. وحين قلت لها: أنتِ زوربا يا جدتي. قالت بحزم:" زَربَة عليك وعلى أبوك يا حمار يا ابن الحمار". فضحكتُ منها وقلت: على أبيك وليس على أبوك.. لأن أبي مجرور يا جدتي. فضحكت مني وقالت: أهو مجرور بحبل أم من لحيته أم من خصيتيه؟. وأذكر أنها ضحكت مني ذات شتاء حين رأتني أجاهد لإدخال ساقيّ في بنطلون ضيق.. كانت متدثرة جوار المدفأة بعباءة صوف، حاكتها لنفسها بنفسها، ومسندة رأسها على ذراعها.. ضحكت بقوة حتى بان نابها الوحيد الذي بقي من دون أسنانها، نابها الطويل الجميل بصدأه الأصفر والنيكوتين والشاي وتاريخ اخضرار الخباز وعصيدة الذرة الصفراء.. ضحكت مني حتى انقلبت على ظهرها ثم استعادت استنادها على ذراعها وقالت: لماذا تفعل بنفسك كل ذلك؟. قلت لها: إنها الموضة يا جدتي. قالت بمتعة وقناعة: (....) عليك وعلى الموضة.. فالمهم أن تتدفأ وترتاح.. ولو بجلد عنز.
وأذكر أنني سألتها عن الشَعر الذي استطال في ساقيها حين رأيتهما لأول مرة، حين سربلتهما بالحناء: لماذا لا تحلقينه يا جدتي؟ فأجابت على الفور دون أن تنظر إليّ: ولمن أحلقه مادام جدك قد مات؟. ولم أستطع حينها فهم علاقة جدي بشَعر ساقيها. أذكر أنها كانت تبتهج وتمتعنا في سهر شتائي حول موقد الجمر، تردد على مسامعنا أشعار شعبية تُشبه عيون النساء بعيون البقر ونهودهن بالقطن أو أقراص الزبد وأحضانهن بالجنة أحياناً وبالجحيم أحياناً.. وأشعاراً عن الشاي والدخان والثريد والأحذية والمزابل ومشاكل الزراعة وعمامة المختار والجنس وأشعاراً عن الحمير الحساوية وبائع العلك والحناء وتوابل الهند ومالك الحزين.. فيما أنا لا أجد المتعة الآن في أشعار الصحيفة في صباح العطلة في شرفة بيتي الذي فيه زوجتي وسيارتي وطفلي ووحدي في هذا الكون.. وحدي الذي يعرف، من دون الأقمار الصناعية وأجهزة المخابرات، أن طفل الجيران قد بال على وردتهم في شرفتهم.. وقررت أن أكون حقيقياً كجدتي وسوف أسمي ابني القادم "حمدان" ولن أجامل وسأجلس جوار المدفأة في الشتاء وأتلو القصائد التي.. رن جرس الهاتف وردت زوجتي ثم صاحت بي: يا سليم.. تعال. فذهبتُ وقالت لي قبل أن أصل: صديقتي أنجبت طفلة أسمتها "كارولين" فالبس بدلتك الجديدة وربطة عنقك البنفسجية، لنحمل إليها باقة الورود وبطاقات التهنئة.
----------------------------------------------------------------
*نشرت في موقع مجلة (فوبيا) الثقافية بتاريخ 3/4/2010م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق