محسن الرملي
ما أن بدأت السنة الثالثة عشرة من عمري حتى بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وقبل أن تكمل عامها الأول قُتل أخي الكبير وأُسر أحد أبناء عمومتي، فصرت أسمع أبي يشتم (السيد الرئيس) كلما وجد نفسه منفرداً مع أمي في البستان أو في المطبخ وغرفة النوم أو وهي تحلب أبقارنا في الزريبة، فأصاب بحيرة لا أعرف لها حلاً بين هذه الشتم البذيء وتلك الصور والأناشيد الجميلة التي يعلموننا إياها في المدرسة مدحاً بالقائد، المعلم الكبير، البطل، الشجاع، العبقري، القوي، الضَرورة والمُلهَم.. إلخ من قائمة أسماء وصفات طويلة بكلمات كبيرة لم نكن نفهم معانيها كلها آنذاك، ومع ذلك صرنا نحلم أن نراه ولو في المنام ـ وكان بيننا من يدعي أن ذلك تحقق له ـ أو أن نكون أمثاله حين نكبر. كما سمعت أبي يشتمه بعد منتصف الليل حين كنت أستيقظ لأشرب ماء أو لأبول وأمُر من قربه جالساً في الصالون مع أمي وعمتي والدة الأسير التي كانت تجيء إليه بعد أن ينام الناس في القرية كي تستمع معه سراً إلى إذاعة طهران العدوّة التي كانت تبث برنامجاً يومياً لرسائل الأسرى إلى ذويهم، وما أن ينتهي دون ذكر ابنها حتى تنفجر بالبكاء وتشاركها أمي. عندها يبصق أبي على الأرض خلفه بحنق ومرارة، وأحياناً يسحب نعله ويروح يضرب بصقته بحقد كأنها عقرب، ويطلق شتائم قذرة وهو الذي كان يعاقبنا على مجرد نطق أحدنا بكلمة نابية.. وهذه حيرة أخرى من كثيرات أوقعتني بها شخصية أبي. لكنني لا أنكر مدى فخري به كونه الوحيد الذي كان يملك صندوقاً صغيراً يتكلم ويغني اسمه (راديو).. وإن كان لا يدعه يغني أبداً، فبمجرد سماعه لموسيقى سرعان ما يبحث عن أخبار أو قراءة قرآن، فهو يجيد تقليب خيطه الأحمر ويعرف محطاته ومواعيد برامجها، لذا كان محور المجالس والنجم اللامع في مقهى القرية صباحاً حيث يلتف الرجال حوله يسألونه عن أخبار الدنيا البعيدة، وعن رأيه، فيجيد صياغتها بأسلوبه الخاص وهم منبهرون بسعة معرفته وفصاحته ويقدمون له أقداح الشاي وفناجين القهوة على حسابهم. وهذا أمر أثار حسد جليل الحداد فصنع صندوقاً حديدياً شبيهاً لكنه لم يتمكن من إنطاقه. اشترى أبي هذا الراديو إثر ذهابه إلى نينوى لبيع محصول الطماطم الوفير في أحد المواسم. وظل يمنع الجميع من لمسه. يخبئه في صندوقه الخاص ذو القفل الكبير، ولا أذكر أني قد لمسته إلا مرة واحدة حين قال لي وهو يخرج مسرعاً من البيت: احمله إلى أمك وقل لها أن تقفل عليه جيداً. ذلك حدث لا ينسى في حياتي. تفحصته بين يدي برهبة وألصقت عيني على ثقوبه كي أرى ما بداخله.. فتخيلت أكثر مما رأيت.
كانت قريتنا صغيرة لا يتجاوز عدد بيوتها الخمسين، بينها مسجد ومدرسة، وكلها مبنية من الطين والصخر، حيث تقع في فسحة سهل ضيق محصور بين جبل (مكحول) ونهر (دجلة)، لذا كان السفر منها وإليها نادراً. كلنا أقارب، نتزاوج فيما بيننا، نتعاون في البناء والحصاد والمآتم والأعراس، ونتخاصم حد القتل أحياناً لأسباب قد تتعلق بدجاجة أو ببيضة دجاجة، لكننا سرعان ما نتصالح. الوحيدة من أهل القرية التي تسكن بعيدة عنها في إحدى المدن منذ أعوام هي السيدة ليلى التي عشقت بائع عطور متجول مر مع بغله بقريتنا، ورفض أهلها تزويجها له لأنه غريب، فهربت معه وتزوجا، وحُكم ذلك في تقاليدنا هو أن يتم قتلها من قِبل من يراها من أقاربها على مدى سنتين، أما إذا مر هذا الوقت دون أن يحظى بها أحد، فعند ذلك يمكنها العودة ويتم الاعتراف بزواجها. وهذا ما حدث، حيث صارت تزور القرية في الأعياد مع زوجها العطار وهما يرتديان ثياباً جميلة التصميم والألوان وتفوح منهما روائح تسحر الجميع. وكانت زياراتها هي أفضل ما تجلبه الأعياد أو ما ننتظره فيها، فعدا ذلك كنا نكتفي بأكل الحلوى واحتساء الشاي وزيارة المقبرة وتكرار تبادل عبارات التهنئة المُكَرَّرَة. جميع العائلات كانت تتسابق لدعوتها إلى العشاء، فعدا عطرها ورنين ذهب أسوارها وقلائدها فهي تشد أسماع الناس بحكاياتها عن المدينة وقصص أخرى غير تلك الحكايات التي اعتدنا على سماعها قبل النوم من جداتنا عن السلاطين والأميرات والجن والملائكة والسحرة والحيوانات الناطقة والأفاعي الطائرة، فحكاياتها تتحدث عن أناس، بشر مثلنا وليس فيها خوارق ومعجزات ولكنها تشدنا بطبيعة تشابك علاقاتهم وسلوكياتهم، فتسهر القرية ملتفة حولها في صالون أو باحة بيت مُضَيِّفها الذي يدور باسماً على الجميع بالشاي والكيك المنزلي المعجون بالتمر والسمسم. كانت ليلى بالنسبة لنا هي العيد نفسه. وتطلب منها النساء النصح في كسب قلوب الرجال، والرجال في كسب قلوب النساء، ويتقرب منها الأطفال لأنها دائمة التقبيل والمسح على رأس القريبين منها في الجلوس. فيما بعد عرفنا سر هذا الحنان وهذه الحكايات. إنها عاقر لا تنجب فتمضي جل وقتها أمام التلفزيون فيما زوجها غائباً يجول مع بغله بين القرى، عرفنا ذلك في العام الثاني من الحرب حين أهدى (السيد الرئيس) تلفزيوناً لكل عائلة لا تملكه وذلك بعد زيارة له إلى قرية كردية، وهرب الناس منه حين حطت طائراته الهيلوكبتر في ساحة القرية، وعندما جلب له حمايته بعض الهاربين سألهم بتعجب: أنا السيد الرئيس القائد.. ألا تعرفوني؟!. فزاغت عيونهم خائفين وهازين رؤوسهم بالنفي. عندها أصدر قراره هذا كي يراه ويعرفه كل أبناء الوطن، وجاءت التلفزيونات مكتوباً على إطارها بالألمنيوم الفضي عبارة تشير إلى أن هذه هدية من السيد الرئيس القائد، واسمه وصورة صغيرة له وعلم العراق وشعار الجمهورية، ونُسخ من كراسات خطاباته بدل الكتلوغات التي تتعلق بالجهاز نفسه. ومن أجل التلفزيونات أمر بإيصال الكهرباء إلى كل القرى، بل وحتى إلى خيم البدو في الصحراء التي كنا نراها بعيدة في الأفق وراء الضفة الأخرى من النهر. ولأنهم رُحَّل فقد أهداهم مولدات كهرباء يحملونها معهم على ظهور جمالِهم هي والتلفزيونات أينما رحلوا. عندها تغير كل شيء.. كل شيء، وارتاحت شعور رؤوسنا من حرق الفوانيس لها حين نحضر واجباتنا المدرسية حولها مصارعين الحشرات والفراشات الحائمة حول نورها، وتخلصت أنوفنا من دخان فتائلها الخانق. ضوء الكهرباء أطفأ ضوء ليلى وإلى الأبد حيث اكتشفنا أن الحكايات التي كانت تُسمرنا بها لم تكن سوى الأفلام التي تراها في التلفزيون، فلم يعد لزياراتها طعم العيد، وخاصة أن الحكومة تبث لنا أجمل الأفلام والأغاني والرقصات في الأعياد، فيما تكثر في الأيام الأخرى من بث زيارات وخطابات السيد الرئيس وصور من المعركة وأفلام الحروب، جثث الأعداء ووجوه أسراهم الخائفة وأعلام الوطن ترفرف على قمم تلال في أراض مهجورة وموحشة. وراحت الحكايات القديمة تنطوي آيلة إلى النسيان ومن ثم إلى المقبرة مع العجائز. مات أبي بعد شهر من دخول التلفزيونات إلى قريتنا، وأمي تقول:" لقد قتلته الحسرة". ولا ندري ما الذي تقصده بنوع هذه الحسرة تحديداً!. أهي الحسرة على مقتل أخي وأَسر ابن عمتي؟ أم لكونه صار يشاهد صور السيد الرئيس بعد أن كان لمجرد ذكر اسمه أو سماع صوته في المذياع يشتعل بالحنق والغضب والبصاق؟.. أم لأنه هو الآخر قد فقد بريقه وأهميته بعد أن صار كل الناس يستمعون إلى الأخبار بل ويشاهدونها مصورة في بيوتهم ولم يعد يسأله أحد عنها في مقهى الصباح؟. في كل الأحوال، أمي لم تكف أبداً عن اصطحاب الراديو معها في كل زيارة إلى قبر أبي. أذكر أيضاً أن جارنا أبو حسون وبعد أن شاهد برنامجاً عن (عالم البحار) ومخلوقاتها الكثيرة العجيبة ومن ثم في الأخبار مظاهرات ضد الحرب لملايين الناس في شوارع عواصم العالم، جحظت عيناه وفغر فمه وقال: أي مزاج لك يا الله.. فما أكثر الكائنات والبشر الذين خلقتهم!! فأنا لا أحتمل أولادي بل ولا حتى نفسي أحياناً.. فكيف تحتمل كل هؤلاء؟!. ثم استغفر عما قال واعترف لله بأنه فعلاً كبير وعظيم ويستحق أن يكون الرب مادام يحتمل كل هؤلاء الأوادم وهذه المخلوقات الصاخبة. وسارع إلى تغيير الموضوع بالسؤال: مادام كل هؤلاء الناس ضد الحرب، فلماذا يتحاربون إذاً؟!، وحين انتبه إلى أهمية سؤاله حمل عكازه وعباءته وذهب إلى إمام المسجد، فأجابه الإمام: إن الحروب ليست بين الناس يا أبا حسون، إنما هي بين رؤوسهم. وحين وجد أن أبي حسون لم يفهم قصده، راح الإمام يشرح له منذ ما بعد صلاة العصر وحتى صلاة المغرب قائلاً بأن الأمراض في الرؤوس وليست في الأبدان وأن الرؤساء رؤوس أيضاً وهم الذين يشعلون الحروب وما هؤلاء الناس إلا مجرد حطب لها.
إن الذي لمع نجمه حقاً مع وصول التلفزيون هو إمام المسجد، الذي صار يناصب الجهاز العداء ويكرس كل خطب الجمعة ضده، بحيث أربكنا جميعاً في طروحاته حتى اليوم. فمرة يقول بأن هذا الصندوق هو النافذة التي تدخل منه سموم جهنم، ومرة يقول إنه الشيطان بعينه، وبأنه خراب للعقول وللعوائل وللبلاد، وأخرى يقنعنا بأنه (المسيح الدجال) والدليل أنه، كما تصفه الكتب القديمة، أعور وبعين واحدة، يغوي الناس بيسر نحو الفساد، وخاصة النساء، ومن هنا صار يسميه (المفسديون) فحتى اللغة العربية الأصيلة لغة القرآن الكريم تنزهت أن توجد له اسماً فظل يحمل اسمه الأجنبي (تلفزيون). البعض يدعي أنه (الرائي).. أي رائي هذا يا ناس! إنه المُعمِي الذي يعميكم عن رؤية بعضكم وأنفسكم والحقيقة والسراط المستقيم. كيف ترضون لأنفسكم أن يقودكم أعور وأنتم تبصرون؟!. عندها صار الجميع يطلق اسماً خاصاً على تلفزيونه الخاص أي مثلما يُوجِد اسماً لأحد أبنائه أو لكلبه أو بقرته، وذلك من أجل تجنب تسميته باسمه الأجنبي الغريب على لغتنا. وبالمقابل صار التلفزيون أيضاً يسمي أطفال القرية الجدد بأسماء لم تكن شائعة من قبل، ومن ذلك أن جليل الحداد المعروف بقوة عضلاته وعنفه مع الناس كعنفه مع الحديد ولعناده نصفه بصاحب المخ الحديدي، حين أنجبت له امرأته توأماً ذكرين أسماهما: رامبو وطرزان لشدة إعجابه بقوة هؤلاء. ولكنه حين أخذهما إلى المدينة لتسجيلهما في دائرة الأحوال المدنية، اعترض الموظف قائلاً له بأن القانون يمنع الأسماء الأجنبية وخاصة أن هذه أسماء لشخصيات من العدو الأمريكي. فغضب جليل وأصر على الاسمين وأصر الموظف على الرفض، عندها قام الحداد بتمديد طفليه على الطاولة أمام الموظف وأخرج من جيبه سكيناً وضعه على رقبة طفل قائلاً: إما أن تسجلهما بالأسماء التي أريدها أو أذبحهما هنا وأترك جثتيهما لك، فأنا أبوهما وأنا حر بتسميتهما وبأن أفعل بهما ما أشاء. فرضخ الموظف لطلبه. وهكذا صار عندنا في القرية رامبو وطرزان اللذين كانا في صباهما من أشد الأولاد مشاكسة وأبرعهم في سرقة البيض والدجاج وتين البساتين. وجليل هو نفسه الذي قال لطرزان، بعد أن قلب ذات مساء كل قنوات التلفزيون فكانت كلها تبث أفلاماً وثائقية عن الحيوانات في غابات أفريقيا: اذهب يا بني وانظر فيما لو كان الهوائي قد سقط في زريبة الدواب!.
في اليوم الأول درنا نحن الصغار حول هذه الصناديق وتحتها باحثين عن أرجل المذيعين وبقية أجسادهم، فيما كان الأهل يهددون الأصغر منا ويخيفونهم بالفرق السمفونية بكونها عصابة متجهمة الوجوه تحد سيوفها وتحمل عصيها، تصدر ضجيجاً غريباً ينخفض ويتصاعد فجأة، وإذا ما رافقها مغني أوبرا فالأمر أشد إخافَة بهذا الصراخ القوي، فيرتعبون ويطيعون؛ يبولون وينامون.
عمتي صارت تحدق بكل الوجوه التي تظهر على الشاشة ويخفق قلبها كلما رأت أحدها يشبه وجه ابنها الأسير. وكانت تعامل التلفزيون ببراءة معتبرة إياه كائناً حياً فتقدم له الطعام وتتحدث إليه، فما دام يتكلم ويتحرك فهو حتماً يسمع أيضاً. وكانت تدثره في البرد وتغسله بالماء ومسحوق الغسيل حتى تعطل.
أما زوجة الإمام المتدينة الخجولة المحتشمة فكانت إذا دخلت الصالون الذي فيه التلفزيون تغطي وجهها بالبرقع قائلة: من العيب أن أجلس مع رجال أغراب، وكل عائلة التلفزيون موجودين. تقصد المذيعين والممثلين، وكانت حتى لا تميز بين أناس التلفزيون أو الضيوف لأنها تتجنب النظر إليهم وتكتفي بالاستماع، لذا فهي ترد أحياناً على التلفزيون ظناً منها أن أحد الجالسين هو الذي خاطبها.
أما الشابات فقد كففن عن سؤال ليلى عن كيفية كسب قلوب الرجال وصرن يقلدن نساء التلفزيون في لبسهن وكلامهن ومشيتهن، وكانت الحوامل منهن يضعن كأساً من الماء فوق التلفزيون عندما يخرج مذيع أو ممثلة جميلة ثم يشربن الماء على أمل أن يكون المولود بجمال هذا الذي ظهر. بعضهن كن يقدمن باقات الزهور أمام الشاشة كلما غنى مطربهن المفضل، وأغلبهن قد خيطن من بقايا أوصال ثيابهن القديمة غطاءاً جميلاً مطرزاً ليدثرن به التلفزيون بعد إطفائه. ويعتنين به أكثر من عنايتهن بشؤون بيوتهن وأزواجهن، والفتيات يتغنجن ويتحدثن عن الحب وليس عن الزواج وصار الناس يجدون بعض الشباب في الزوايا ليلاً أو في البساتين وهم يقبلون بعضهم في الفم وهذا أمر لم يكن الناس يعرفونه من قبل أبداً، أو على الأقل في الظاهر. وهكذا تصاعدت حملة إمام المسجد ضد عدوه (المفسديون) رمز الخراب والفساد، هذا (المسيح الدجال)، الذي يغوي أولادنا ويحرفهم عن الأخلاق الحميدة، لذا أخذ يحث الآباء على التعجيل بتزويج أبنائهم وبناتهم، وازداد عدد الرجال المؤيدين له في حملته، فذهبوا إليه طائعين وقالوا: إننا نستغفر الله ونتوب إليه يا شيخ، فماذا نفعل؟.
طال التداول في الأمر وتعددت الاقتراحات على مدى أشهر حيث كان الجميع يعصر تفكيره لإيجاد سبل للتخلص من هذه المصيبة. البعض قال: نلقي بها إلى النهر. فأجابه البعض بأن ذلك سيفسد الماء الذي نشرب منه نحن وحيواناتنا، ويفسد أسماكه وضفادعه وحتى ثمار بساتين الشاطئ. قال آخر: نحرقها. فأجاب الإمام بأن العقوبة بالحرق هي من شأن واختصاص الله وحده وليس من حق أي كائن أو مخلوق أن يعاقب بالنار مخلوقاً أو كائناً آخر فالله وحده الذي يعاقب بالنار والجحيم، وفي هذا الصندوق كائنات تنطق وتتحرك وإن كنا لا نعرف ماهيتها ومن أية مادة مخلوقة، أي أنها أمم أخرى مثل الملائكة والجان والشياطين. قيل فلنكسرها إذاً بالعصي ونرجمها بالحجارة، لكن البعض حذر من ذلك لأن الحكومة لو علمت بالأمر فسوف تأخذنا جميعاً إلى السجن أو تعدمنا أو تقصفنا بالطائرات لأن هذه التلفزيونات مكتوب عليها اسم السيد الرئيس وفيها صورته. آخرون قالوا فلنبعها إذاً أو نهبها لأهل المدن. لكن الاعتراض كان هو أننا وفي عرفنا وأخلاقنا أن "الهدية لا تُهدى ولا تُباع"..
استمرت الحيرة والجدل إلى أن تم التوصل إلى الاتفاق بتفويض الأمر إلى الإمام كي يناجي ربه ويصلي صلاة استخارة عل الله يهديه إلى الحل الصحيح.وتأخر الإمام أيضاً في إبلاغنا بالحل وهو يجيب سائليه على أنه مازال يدعو الله، يُكثِر من الاعتكاف والصلاة وقراءة كتب الدين ويطيل النوم أيضاً فالحلول التي يلهمها الله لمستخيريه إما أن تأتي في المنام أو تحل فجأة في العقل والرأي بوضوح تام.
ثم جاء يوم الفتوى حيث جمع الإمام الناس في المسجد وقال لهم: لقد جاءني الإلهام ليلة أمس والحمد لله، فكما سبق وأن أخبرتكم إن هذا هو (المسيح الدجال) الذي سيجعل الفساد يعم في الأرض كلها، ومن بعد عهده سيبعث الله (المُخَلِّص) الذي سيحاربه وينتصر عليه ويجعل الخير يعم في الدنيا كلها وإلى يوم قيام الساعة. إنها إرادة الله إذاً ومن علاماته، لذا فليس لنا إرادة أو خيار أمام الإرادة الإلهية وخيارها إلا أن نستسلم لها، لذا ابقوا على (مفسديوناتكم) كي يعجل الله بقرب مجيء المخلص وتتحقق إرادة الرب. المؤمن مُبتَلى وهذا امتحان للمؤمنين، ولو شاء الله لما مَكَّن عقل الإنسان من اختراع هذا الشيء. له في ذلك حكمة. ثم ختم خطبته بإحدى عبارات السجع التي عودنا عليها:" لكَ بها إرادة يا خالق الجرادة".
وهكذا دخل صخب الدنيا إلى عزلة بيوتنا وصار التلفزيون رفيقنا الدائم إلى اليوم، نحدق فيه ليل نهار، بل أن البعض قد وضع أكثر من جهاز؛ في كل غرفة وفي المطبخ والحمام كي لا ينقطع البث أو لا تفوته لقطة، وكي يُعَجِل بظهور (المُخَلِّص). وبفعل كثرة المشاهدة والاستماع وقلة الحديث تغيرت علاقاتنا ببعضنا وبأنفسنا وبحيواناتنا وأشجارنا ونهرنا، وصارت عيون الناس جاحظة بنظرات بلهاء وخارجة من محاجرها مثل مصابيح التراكتورات، وآذانهم تطول كآذان الحمير وألسنتهم تقصر كألسنة العصافير ومؤخراتهم تتربع لكثرة الجلوس. وإن كانت زوجة الإمام الأولى، والتي كانت تخجل من التلفزيون في البداية، قد سربت ـ فيما بعد ـ سراً بين النساء تسرب بدوره إلى الرجال في أسرة النوم، وبالطبع أداروا رؤوسهم وناموا قائلين إنها تفتري على الإمام، هذه مجرد غيرة نساء. وهي تقسم على صدق قولها وإن كانت لا تنكر دافعها للانتقام من زوجها الذي تزوج عليها بثانية منذ دخول التلفزيون فسامحته، وتزوج بثالثة فسامحته لأنهما أقل منها عقلاً وجمالاً، كما تقول، ولكنها الآن وبعد أن تزوج برابعة صارت الأولى مهمشة كون الأخيرة هي الأصغر والأجمل وتشبه نساء التلفزيون وتستأثر به وبلياليه بينما هي لا تجد لها أنيساً سوى التلفزيون في لياليها. قالت لجارتها: اسمعي يا أختي هو لم يحلم بشيء ولا بطيخ، ففي الليلة التي ادعى بأنه قد حلم بالإلهام لم ننم فيها أصلاً، لأننا بقينا أنا وهو ساهرين أمام المفسديون وشاهدنا أشياء أخجل من وصفها، أنت تعرفينها، وإثر الذي شاهدناه عشنا ليلة مجنونة. ليلة لم نذق مثل حلاوة عشقها ولا حتى في أيام شهر العسل، ولا أظن بأننا سنتذوق مثلها ما بقي لنا من حياة.. وبعدها أصابه هوس الزيجات. لقد أخذه التلفزيون مني فأخذتُ التلفزيون منه.
-----------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق