الجمعة، 1 أغسطس 2025

قراءة في رواية: ذئبة الحب والكتب/ د. وجدان الصائغ

 (ذئبة الحب والكتب) لمحسن الرملي

وثيقة لحياة المثقف المنفي داخل العراق! 

                                                               الدكتورة وجدان الصائغ

قسم دراسات الشرق الأوسط - جامعة ميشيغان

     كيف استطاع محسن الرملي في رواية (ذئبة الحب والكتب) الصادرة عن دار المدى، بغداد – دمشق ٢٠١٥ ان يمتلك مهارة براعة المطلع حين اعترف منذ السطر الأول وكأنه يجلس قبالة القارئ ويحدثه وجها لوجه: (أنا محسن الرملي، مؤلف كل الكتب التي تحمل اسمي باستثناء هذا، ولو لم اكن شقيقا لحسن مطلك لكتبت ضعف ما نشرته حتى الان، او لما كتبت أيا منها أصلا ولا حتى اهتممت بهذا الكتاب الذي وجدته صدفة حين كنت في الأردن فغير حياتي كلها وجئت الى اسبانيا بحثا عن المرأة التي كتبته... انها امرأة تبحث عن الحب وانا ابحث عنها، الرواية، ص ١١) ليكون  منذ البدء امام مشاكسة دلالية تضيء من جانب ركائز العمل الروائي برمته فثمة  الشخصيات  الرئيسية المنشطرة بين الواقعية (محسن الرملي+ حسن مطلك) والمتخيلة  (هيام)، ومن جانب آخر  تعطش افق التلقي لمعرفة تفاصيل سيرة محسن الرملي  التي انكر نسبتها له (مؤلف كل الكتب التي تحمل اسمي باستثناء هذا) ووصفها بانها  مجرد كتاب وجده صدفة  في الأردن . زد على ذلك ان المؤلف نفسه كرر مرارا في مقابلاته المتلفزة لاسيما مقابلته الأخيرة في بودكاست روايتهم (*) ان رواية (ذئبة الحب والكتب) تتضمن ادق تفاصيل اقامته الأردنية بعد مغادرته العراق.

 وهذه الإشارة المكررة جعلني ابحث عن تلك الرواية العراقية  التي تتقصي حياة مثقف عراقي عاش تلك الحقبة المنسية  في تاريخ الثقافة العراقية المعاصر وفكرة البحث بين سطورها عن بقايا ذاكرتي التي تشظت منذ ان تركت العراق الى الأردن ثم اليمن وصولا الى اقامتي المشيغانية... وأحسبها ذات الخطوات التي خطاها المؤلف من العراق صوب الاردن باتجاه اسبانيا متجاوزا محطة اليمن، هي محطات متسلسلة مرّ بها معظم مثقفو العراق زمن الجوع والموت الطاغوتي اذ تناهبت اقدامهم الأمكنة من العراق الى عمّان الى اليمن او ليبيا  قبل الاستقرار في المنافي الغربية ... وحين وجدت تلك الرواية واجهتني الاستهلالة الجريئة الجاذبة الانفة الذكر  التي تحمل في طياتها مصداقية السيرة الذاتية لاسيما علاقة المؤلف بشقيقه حسن مطلك التي يؤكدها بأسلوب البوح السيري وبتقنية الارتجاع الفني: (كل من يعرف حسن مطلك يعرف بانني شقيقه، والمهموم بحمل صوته حتى اخر عمري منذ إعدامه ووصمه بالخيانة ومنعنا من إقامة عزاء له ومنع ذكره في الصحافة او حتى في المقاهي الثقافية شعرت بداخلي بطعنة لا شفاء منها، الرواية، ص ٤٢) تلك المصداقية نجحت في ان تفتح صنبور الذاكرة لتعود بي الى معرفتي بالمؤلف الذي سمعت به اول ما سمعت حين كنت طالبة في جامعة الموصل وقد ذكر احد المثقفين العراقيين الذي غاب اسمه عن بالي ان المؤلف حين كان طالبا في جامعة الموصل بقي متأبطا ما كتبه حسن مطلك بعد إعدامه باحثا عمن يسلط الضوء على نتاجه الإبداعي غير مرتهب ومرتعب مما سيحل به لو علم به الدكتاتور حينها، وأضاف قائلا: "وقتها كنت أستاذا في جامعة  الموصل وكان محسن الرملي طالبا في الجامعة نفسها جاء الى مكتبي متأبطا رواية أخيه (دابادا) وراغبا في ان اكتب عنها وانشر مقالا بهذا الصدد.. حقيقة اعجبتني الرواية وكدت انجز مقالا عنها وعن جمالية الأسلوب فيها ولكن أحد "الرفاق" شاهد الرواية على مكتبي فقال لي بأسلوب ينز منه الشر المستطير: كيف حصلتَ على هذه الرواية؟ وما شانك بها؟ هل لك علاقة بمؤلفها؟ ألاّ تعرف ان صاحبها قد أعدم بسبب مؤامرته على قلب نظام الحكم؟  وأضاف: بالواقع حين استلمت الرواية من محسن لم اربط بين الصلة بين الاثنين.. فهذا محسن الرملي وذاك حسن مطلك وانا اعرف ان شقيق الرملي معدوم لكني ظننت انه قد سلمني رواية لكاتب أُعجب به وليس لشقيقه... طبعا كمحصلة للشر المستطير المتوقع من نشر مقالة عن المطلك وقتها لم اكتب حرفا عنه حماية لي ولأسرتي" بعد هذا الخبر تناهبت المنافي أعمارنا فلم اعد اسمع بالرملي خلال اقامتي الأردنية القصيرة حتى وصلتني خلال اقامتي اليمانية رسالة استكتاب انيقة  بتوقيعه من مجلة ألواح التي تصدر في اسبانيا ، اعجبت بطروحات المجلة الجريئة التي شكلت جسرا بين ادباء الشتات وتحديدا العراقيين ، فأرسلت له بمقالتي (النافذة في شعر المقالح) ووصلني بعدها منه عدد مجلة ألواح  الذي تضمن مقالي منشورا.. ثم تناهبتنا الايام مرة أخرى حتى وصولي الى اقامتي الميشيغانية وقررتُ زيارة اسبانيا واثارها الاندلسية فرشح لي بعض أصدقائي من المثقفين العراقيين أسماء عدة هناك ومنها محسن الرملي... وحين التقيته وزوجي صبري مسلم تجول بنا في أروقة مدريد وساحاتها ناثرا حكاياته على ازقتها الغاصة بالناس.. كلمنا عن ولعه بالمدينة وولعه بالأدب الاسباني والعربي على حد سواء... كلمنا عن لقاءاته بالشاعر عبد الوهاب البياتي... عن أصدقائه العراقيين هنا في اسبانيا وهناك بالعالم العربي... وعن ولعه بالكتابة الذي تحول من الترجمة الى الرواية الى الشعر ثم عاد الى الرواية والترجمة... كلمنا عن عائلته وأولاده وعن عمله كأستاذ جامعي...  درنا معه في شارع الأدب ووقفنا طويلا امام تمثال لوركا، حمّلنا بعدها هباته الثمينة  منها روايته (تمر الأصابع) وكتابا لشقيقه حسن مطلك بعنوان(الكتابة وقوفا، تأملات في فن الرواية)  تأبطتُ الكتب وعدت بها الى اقامتي الميشغانية لأجدني امام روائي من الطراز الأول ليس لأنه يمتلك مهارة السرد واكسير البوح فقط، بل لأنه استطاع ان يجعل من النص الروائي مرايا صقيلة تعكس  واقع الانسان العراقي المطحون تحت مهرسة الاعلام العربي والغربي التي تشيؤه وتبقيه بعيدا عن دائرة الضوء بل وتقولبه طائفيا وعرقيا متناسية الروابط الثقافية والتاريخية والحضارية التي تشد ازر المجتمع العراقي. وهذا ينسحب على  رواية (ذئبة الكتب والحب) التي بدت منذ الكلمة الأولى افقا مرآويا نرى من خلاله تفاصيل مدينة أربد وازقتها ومطاعمها وحوارات الشخصيات المتحركة على مسرح النص والتي تمتزج فيها اللهجة العراقية باللهجة الأردنية ونرى عيانا  الشخصية الرئيسة (محسن الرملي) متحديا الجوع  الجسدي والنفسي تارة، ومتحديا التابوهات حين يسقط في شرك الغواية الجسدية مع الخادمة السيرلانكية  السمراء التي لا تعرف من العربية سوى كلمة (هبيبي)، وتارة حين يتمرد على واقعه بنفض غبار الفقر والحاجة والإصرار على الابداع والبحث عن فرصة للخلاص فيستمر في نشر مقالاته في الصحف الأردنية والجلوس لمراجعة الكتب في المكتبات العامة ورغبته في نشر مجموعته القصصية الأولى. 

 من اللافت ان المؤلف وبوعي دلالي حاد يمزج بين السردي المتخيل والسيري الواقعي ليخلق نصا ينفتح على تأويلات شتى لذلك فان افق التلقي سيكون على مدار الرواية قبالة خيطين متضادين متآلفين ينتظمان: الرواية الأول هو خيط يكثف فيه المتخيل السردي البعد الروائي لملامح  الـ (هي) التي اسمها هيام والأخر يكثف تفاصيل اليومي المعاش لـ(انا) الذي هو محسن الرملي نفسه خلال اقامته الاردنية قبل انتقاله لإقامته الاسبانية ليبقى التلقي مشدودا الى خيط الـ(أنا) الذي غدا مرايا صقيلة تعكس معاناة المثقف العراقي الذي لفظه المكان الحميم فوجد نفسه نهبا للغربة والفاقة في محطته الأولى (الأردن) يحمل على ظهره ذاكرة بلاد عصف بها الموت والخراب فجلس على اعتابها باكيا، زد على ذلك حرص المتخيل السيري على ان يكون كل  حرف من كلماته شظية  تضيء تفاصيل معاناة المثقف العراقي الذي لم يتجرأ على الكتابة عنها خشية الرقيب الاجتماعي وخشية كسر الصورة المكتملة للمثقف العراقي الذي نفذ بجلده  ناجيا من عصف الحرمان الجماعي وليس معه فلسا واحدا للعيش او السكن في منفاه، تامل مثلا المقتطف التالي، ولاحظ كيف نجح المتخيل السيري في ان يجعلك تبصر عيانا معاناة الشخصية الرئيسية وبوحها النازف الذي ينزع بالجزع من سلطة الجوع، وتبصر امكنته التي ظللها الفقر بعتمته، كما ترى رأي العين الشخصيات العراقية والاردنية والمصرية (الصعايدة) المتحركة على مسرح النص وتسمع حواراتها المتنوعة:

(في عملي الجديد كحارس شيدت لنفسي غرفة/ هشة، هي مربع من الكابوث غير المبني، سقفته بالزنكو والبلاستك وغلفته من الداخل بالكارتون الذي الصقت عليه بعض الصور العائلية التي معي وصورا أخرى قصصتها من الصحف كي تخفف وحشتي، صنعت لنفسي سريرا من الكابوث وحلب لي ماهر فراشا ومدفأة صغيرة وأدوات طبخ ودفترا وقلما ومحبرة وما طلبته من كتب، من حسن حطي ان ماهر شاعر مرهف الحس كان يأتي لمسامرتي في بعض الليالي لوحده او بمصاحبة احد الأصدقاء كالناقد احمد خريس او الرسام علي طالب او المخرج المسرحي الدكتور كرومي، وهم أساتذة بجامعة اليرموك ـ فيما انا بلا هوية بملابس رثة، بالكاد اجد ما يسد رمقي، تمضي اغلب الاماسي بالحديث عن الثقافة والشعر وقراءته، كانوا يرفدونني بالكتب والاهم ما كنت اشعر به معهم من آدميتي وبكوني انسانا عاديا لأني كنت امر بمرحلة عرفت فيها لأول مرة إحساس الانسان الفقير المسكين انه نوع من الشعور بالدونية والضعف والمهانة وتقليل قيمة الذات بل وحتى الحيوانية في لحظات الجوع لذا، لكي اشعر بآدميتي.ـ اذكر حين أعيش مع الصعايدة ولا اجد أحيانا ما اجده ليومين او ثلاثة اسي. كالنائم موشكا على الاغماء، اتجه صوب احد المحلات الفخمة لبيع بدلات الرجال وهناك يستقبلني العاملون بترحاب من الباب ويوقونني باحترام مبالغ فيه ليروني أنواع البدلات قماشها مقاسها، ماركاتها ويخاطبونني بحضرتك وهم يعينوني على تجريب المقاسات، فيما انا افاصلهم على السعر، وعادة ما اقلله الى النصف، كلما انزلوه أطالب باقل واوجد مبررات او عيوب في البدلة او أقول باني رأيت مثلها في محل اخر بكذا سعر وهكذا لربع ساعة تقريبا، حيث تعاملهم وحديثهم معي وبهذا الشكل ينفض الشعور الحيواني ويوكد لي بانني لازلت ابدو اميا عاديا بعيون الاخرين، اشعر باني لازلت انسانا، ص ٨٣) من اللافت ان  المتن يستدعي على مراياه وجه دون كيخوته وسيفه الخشبي الذي يقارع به طاحونة الهواء كما قارعت الشخصية الرئيسية بلعبة الذهاب لمحلات الألبسة الفاخرة طواحين الجوع التي عصفت بحياة مثقفي الخارج  ابان تلك الحقبة، زد على ذلك فان كاميرا النص المحمولة ستتجول مع السارد (محسن الرملي) في امكنته  المغلقة، كما تتجول في الأمكنة  المفتوحة التي يسميها بأسمائها ويعرفها كل عراقي خرج من العراق هربا من الموت والجوع ابان الحصار وبعد محنة غزو الكويت.

     اما الخيط الثاني من الرواية فتنسجه المعشوقة الغامضة (هيام) التي اكتشفها البطل الرئيسي للرواية (محسن الرملي) بالصدفة المحضة حين انشا حسابا الكترونيا لشقيقه حسن مطلك وأخطأ صدفة في كلمة المرور ليجد نفسه امام فيض رسائل لمعشوقة حسن مطلك وعاشقته موجهة لشخصه مباشرة فقد كانت هيام تعنيه هو بدون تسمية وتطلق عليه الاسم نفسه.. فهي معشوقة تبقى بلا ملامح واضحة على مدار الرواية التي تنشطر بين الـ(هي/ هيام)  والـ(أنا/ محسن الرملي)  وتبقى هيام في رسائلها الالكترونية (الايميلات) تدور في مدار علاقتها بزوجها وأولادها فضلا عنى طفولتها وعلاقاتها العاطفية  خلال المرحلة الجامعية ،زد على ذلك ان المتخيل السردي يعكس بجرأة ولع هيام بالشخصية الثانوية (بشعة) حد الوقوع في شرك الغواية الجسدية مع "بشعة" الشخصية القروية المفتونة بالأجساد الانثوية، زد على ذلك ان المتخيل السردي يهرب في حقائبه  كل ما يخص العراق من فلكلور وطقوس قروية والمدينية ليغمرك بفطرة الأرض ونداوتها كما ينقلك الى تفاصيل  المنظومة الاجتماعية الابوية من جانب ومن جانب اخر المنظومة الحزبية التي تحكم سيطرتها على هيام واسرتها ، اما التواصل النفسي بين هيام (المعشوقة المتخيلة) والبطل الرئيس للرواية (محسن الرملي) فبقي مبتورا وغير قابل للتحقق  خلال مجريات الاحداث التي عصفت بهما وفي سياقات مختلفة تماما لذلك يجد افق التلقي انه امام نصين روائيين منفصلين عمد الروائي الى اقحام هيام وبوحها المتصل لإخراج النص الأصل من سيريته لتكون الرواية نصا يواشج بين السيري والروائي، بمعنى لو اقتطعنا مسرودات هيام وبوحها المتصل عبر ايميلاتها من النص الروائي لما اثر بل ربما لكان نصا سيريا بامتياز لكن الوعي الجمالي شاء ان يفتح من خلال ايميلات هيام نافذة اخرى على حياة حسن مطلك وعلى عراقيي الداخل ويومياتهم لتوثق تلك الايميلات حياة العراقيين تحت براثن الموت والرعب والبطش الحزب الأوحد. الا ان جنوح المتخيل الروائي صوب احتمالية اللقاء بين هيام (المتخيلة التي تقيم في إسبانيا بسبب الظرف الطاحن في العراق) وبين الشخصية الواقعية (محسن الرملي الذي سيسافر الى إسبانيا بسبب قبوله في الدراسات العليا هنا وهو تطابق واضح مع سيرة المؤلف) وهو لقاء ارهصت به الاستهلالة اذ ورد: (وجئت الى اسبانيا بحثا عن المرأة التي كتبته... انها امرأة تبحث عن الحب وانا ابحث عنها، ص ١١) منح الرواية نهاية مفتوحة، تاركةً المجال أمام التلقي ليطرح تساؤلات حول مصير البطل، وحول جدوى الحب والمنفى؟

    خلاصة القول، فقد نجح المتخيل السردي في ان يجعل من رواية (ذئبة الحب والكتب) شهادة أدبية تتجاوز حدود السيرة الذاتية لتصبح وثيقة لحياة المثقف المنفي في داخل العراق متمثلا بحسن مطلك الذي بقي طي ايميلات هيام وخارجه متمثلا بمحسن الرملي (الشخصية الرئيسية/ المؤلف) خلال حقبة معقدة في تاريخ العراق الحديث، زد على ذلك ان المواشجة بين السيرة الذاتية والخيال بطريقة فتحت افقا من التساؤلات منها: هل كانت الرواية وسيلة للبوح والتطهر من عقابيل الماضي؟ أم صرخة احتجاج بوجه القرارات السياسية التي شظّت حياة الانسان العراقي فبقي معلقا في اللامكان؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(*): https://www.youtube.com/watch?v=wpSDd285UiU

دكتورة وجدان الصائغ ودكتور محسن الرملي 2023 مدريد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (نزوى)، العدد 123 مسقط 2025م

https://www.nizwa.om/

ليست هناك تعليقات: