"لا شيء يكفي" ثلاثة دواوين
تمثل التوجهات الشعرية اليوم في إسبانيا
شاعرتان وشاعر
يقدمون نصوصا تشتبك مع الواقع المعاصر
محمد
الحمامصي
قد نال الأدب
الإسباني الحديث نصيبه من الترجمة إلى اللغة العربية، خاصة ما كتب في القرنين
التاسع عشر والعشرين، لكن الأدب المعاصر الذي يكتب بروح العصر اليوم ما زال غامضا
للقارئ العربي، وفي هذا الصدد يأتي كتاب "لا شيء يكفي" ليقدم قصائد
ثلاثة شعراء إسبان معاصرين.
يضم كتاب “لا شيء
يكفي” ثلاثة دواوين شعرية قصيرة، لثلاثة شعراء إسبان أحياء. خوليا أسود، بغونيا
بوثو، خوان ماسانا.
شاعرتان وشاعر، ترجمها الشاعر والأكاديمي والمترجم العراقي ــ الإسباني محسن الرملي، لافتا إلى أنهم من خلفيات ثقافية وجغرافية ولغوية مختلفة، وبالتالي فإن تجاربهم الشعرية مختلفة، وهي بتباينها هذا، تعطي تصورا عن بعض نماذج التوجهات الشعرية اليوم في إسبانيا، غير تلك التي عرفناها وترجمت على مدى قرن من الزمان، كغارثيا لوركا ورافائيل ألبرتي وميغيل إيرنانديث وخيمينيث وأليكساندره وغيرهم.
شاعرتان
وعالمان
في مدخل عام
للكتاب، الذي يعد أول إصدار لدار بوملحه الإماراتية التي أسسها أخيرا الروائي عبيد
بوملحه، وآثر أن يفتتح بهذه الباقة الشعرية سلسلة إصداراته، رأى الرملي أن ما يمكن
ملاحظته بجلاء في الدواوين الثلاثة، هو الحرص على التكثيف، والانفتاح المتفاعل،
شكلا ومضمونا، على التجارب الشعرية الأخرى في العالم، بما فيها العربية، وطبيعة
هضم ما يتم استقباله وتلقيه، بحيث يتبلور بسلاسة داخل المنظومة والذهنية الشعرية
الإسبانية، المعروفة بعراقتها وثراء إرثها.
وأوضح “عرفت هؤلاء
الشعراء منذ سنوات طويلة، تربطني بهم صداقة متينة، وجمعتني بهم ميادين عمل مشتركة،
ومشاريع وأنشطة ثقافية ومناسبات عديدة، وما زلنا على تواصل، لذا فأنا أعرف، عن
قرب، أبعاد تجاربهم الشعرية جيدا، وعن قرب أيضا، وباستشارتهم، قمت بهذه الترجمة
لدواوينهم، فكانت ترجمتها متعة أخرى تضاف إلى متعة قراءتها أولا، كمخطوطة، مسودة،
ثم منشورة، ثم الاستماع إليها منهم لاحقا، شخصيا أو أثناء مناسبات تقديمها
وتوقيعها.”
واستكمالا للمدخل
الأولي العام، قام الرملي بتقديم كل ديوان، بنبذة تعرّف بالشاعر وبعمله، تسبق
ترجمته.. وكانت البداية من الشاعرة آنا خوليا غونثاليث، أسود وديوانها “صلاح نيازي
وأغنيات للشعوب التي بلا حمام”. قال الرملي معرفا بالشاعرة “ولدت في إقليم دي
لامانتشا سنة 1975 في الباثيته وهي مدينة تأسست في عصر الموحدين، وأصل اسمها
العربي هو البسيطة أو البسيط، لكونها تقع في سهل منبسط. تضيف الشاعرة دائما إلى
اسمها الأصلي، كلمة أو تسمية أو لقب أسود، حتى صارت تعرف به، وتقول إنها قد
اتخذته، وباللفظ العربي، كنوع من اعترافها واعتزازها بأصلها وبجذورها الثقافية
العربية.”
وتابع “بدأت نشر
قصائدها مبكرا في الصحف والمجلات، وحازت على بعض الجوائز الأدبية المحلية. من
أعمالها: كلمات بلا آفاق، كوكب القمر، حدائق الزمن، خمسة أفواه.. وغيرها، إضافة
إلى اشتراكها في أكثر من أنطولوجيا.”
وبيّن الرملي أن
هذا الديوان القصير والخاص “صلاح نيازي وأغنيات للشعوب التي بلا حمام” يضم تسع
قصائد، لها تقنيتها الخاصة ومناخها الواحد، وهو ديوان يتحدث عن السلام ويدين
الحرب، بدأت بكتابته عندما اجتاحت القوات الأجنبية العراق عام 2003، وهي كما تصف،
من خلال الحديث معها عنه، أرادت من خلاله أن تضم صرختها إلى صيحات المحتجين على
الحرب، وأن تساهم، بشكل ما، في المزيد من إيصال أصوات الشعراء العراقيين إلى ما
وراء الحدود، والتي كانت، لحظتها، محجوبة بفعل صخب الإعلام والقنابل وضجيج الحرب،
وهكذا فقد اتخذت من الشاعر صلاح نيازي نموذجا وممثلا عنهم، وفي الوقت نفسه كنوع من
التكريم له والاحتفاء به، كونها من المعجبين بشعره.
جعلت أسود من نيازي
الشخصية الرئيسية للنصوص، وعنونت الديوان باسمه، إضافة إلى تبنيها لعبارة “عندما
تبدأ الحرب، فإن أول من يهجر المدينة هو الحمام”، التي كانت قد سمعتها في مكان ما.
ولهذا فإننا نجد في الديوان أن الشاعر يتأمل شعبه الذي أصبح بلا حمام.. فيتحسر، ولكن
في القصيدة الأخيرة، ثمة باب مفتوح على الأمل؛ بأن الشعب، ومهما تأخر الوقت، فإنه،
ذات يوم، سوف ينال السلام والعيش الكريم الذي يستحقه.
وتقول الشاعرة آنا
خوليا أسود عن ديوانها هذا “إن الشعر ملزم بأن ينظر إلى الألم والمعاناة وجها
لوجه، أن يصرخ باسم ضحايا الوحشية، أن يأخذ بأيدي الذين يعانون، ويمنحهم الصوت
الذي يحاول الآخرون منعه عنهم، وأن يثور ضد الجلاد بلا هوادة. إن الشعر ملزم بأن
يتكلم ويرفع الصوت أعلى من أي صخب آخر، وأن يواسي ويهدئ أيضا، داعيا للسلام،
مطالبا به دائما، لا يهجر إصراره هذا على المطالبة بالسلام، ولا يدير ظهره للناس
أبدا، لأن الشعر عائد للناس، ينتمي إليهم، وهو من حقهم، تماما كحقهم بالحياة
وبالحرية.”
وفي مقدمته لديوان
الشاعرة بغونيا بوثو “نوبونكه.. (فقرات من روما)”، قال الرملي “أعرف الشاعرة
والأكاديمية بغونيا بوثو منذ أكثر من عشرة أعوام، وتربطني بها صداقة متينة.
اشتركنا في أنشطة عديدة، منها كشعراء وكأعضاء في الهيئة الوطنية لمهرجان طليطلة
الدولي للشعر، واستضافتني ضمن برنامج ‘قاعة الشعر’ في جامعة بلنسية، وفي بيتها،
واشتركنا في ترجمات بين اللغات الثلاث الإسبانية والعربية والكتالانية، ونتبادل
دائما الاتصالات والمراسلات والاستشارات والزيارات بين مدريد وبلنسية.”
وذكر أن
ديوانها هذا “نوبونكه.. فقرات من روما” قد نشر بصيغ مختلفة، أبرزها؛ نشره في
كتاب واحد بترجماته إلى ثلاثين لغة، مرفقة بتخطيطات تفصل بينها، استوحتها الفنانة
آغنيس داروكا من مناخات الديوان، ويضم ثلاثين قصيدة مكثفة تتوخى الشعر الصافي أو
لبة الشعر.
وأوضح أن بغونيا
بوثو تكتب بثلاث لغات، هي الإسبانية والإيطالية والكتالانية، التي تعد فيها من
أبرز الأصوات الشعرية الآن، وهي من المؤسسين لجائزة ثيسار سيمون، التي تمنح سنويا
لأفضل ديوان مكتوب بالكتالانية، كما تشرف على جوائز أخرى تخص الشعر الذي تكتبه
النساء والترجمات وغيرها. أسست “قاعة الشعر” في جامعة بلنسية، تستضف فيها، شهريا،
أحد الشعراء من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب كونها عضوا في العديد من هيئات تنظيم
المهرجانات الشعرية في إيطاليا وإسبانيا، ومشاركة في العديد من المؤتمرات
الأكاديمية التي تخص الأدب واللغة.
ولدت بغونيا بوثو
في بلنسية عام 1974، وتحصلت على دكتوراه في فقه اللغة، وتعمل أستاذة ورئيسة قسم
اللغة والآداب الإيطالية في جامعة بلنسية منذ عام 1998. أغلب أبحاثها الأكاديمية
المنشورة تتعلق بالأدب المقارن، وخاصة في الشعر المعاصر، كما أنها ترأس تحرير مجلة
الجامعة الفصلية المحكمة “علامات”، وتشرف على العديد من النشاطات الثقافية ضمن
المحيط الأكاديمي وخارجه. من بين أهم أعمالها: سور الليل، زمن من ملح، قصائد في
العراء، الذي نالت عليه جائزة أوسياس مارتش 2011، ضربة وحشية تحت البطن، بلا هدنة.
“نوبونكه.. فقرات من روما” يعد تجربة أخرى مختلفة بين أعمالها،
ابتداءً بالعنوان عبر كلمة “نوبونكه” التي نحتتها لتكون بمثابة الاسم لهذا المخلوق
– الديوان بكل اللغات، تتلمس فيه آثار المحيط المادية والمعنوية، المكانية
والزمانية على الإنسان روحا وجسدا، وكتب المقدمة له الشاعر الإسباني فيكتور غوميث
بعنوان “الجسد يعرف كيف… أما زلت هناك؟ إلى متى؟”، واصفا قصائده بأنها تتميز
بالترحال بين الداخل الإنساني وخارجه، وتترصد الحركة الخفية المصاحبة لهذا الترحال.
وقال الرملي “لقد أقيمت لهذا الإصدار الكثير من حفلات التقديم وأماسي القراءة في عدة مدن إسبانية وتشيلية وبرتغالية وإيطالية. شاركتها أنا بتقديمه في مدريد، كما حظي الديوان بردود الأفعال المشيدة به عبر المقالات النقدية التي كتبت عنه، ومن خلال العروض من فنانين تشكيليين لتحويل جزء منه أو كله إلى أعمال فنية، كترجمته اليابانية، لتكون على شكل لافتة أو سجادة طوليّة مصحوبة برسوم يابانية تقليدية، ومنها على شكل لوحة تطوى وتفتح كخرائط المسافرين، أو اتخاذ قصائده القصيرة ورسوماته كمادة لتصميم تقويم سنوي فني، ومؤخرا تلحين وغناء بعض مقاطعه.. وغيرها، وهنا نقدم ترجمة لهذا الديوان إلى العربية، مع الحرص على الحفاظ على بنيته التقنية، وإيصال حساسيته الشعرية، قدر الإمكان.”
كاتدرائيات
المـاء
قال الرملي “أما
خوان ماسانا فهو شاعر ورسام إسباني، فقد ولد في برشلونة سنة 1950 وأقام معرضه
التشكيلي الأول سنة 1974 ثم تواصلت من بعدها معارضه الفنية، في إسبانيا وخارجها،
وعرف عنه تخصيص مراحل من تجربته لمواضيع محورية بسلسلة من اللوحات، ومنها عن الكتب
وعن الكلاب، لكن أشهرها، تميزه وخصوصيته برسم البورتريه لأهم الشخصيات الثقافية
الإسبانية، ومنهم الفائزون بجائزة ثربانتس للآداب.”
وتابع “تبنته
المكتبة الوطنية الإسبانية، عبر العرض أولا، ثم الإصدار في كتاب مهم، بعنوان ‘حراس
الذاكرة’، حيث رافقت اللوحات نصوص كتبها من تم رسمهم، يعبرون فيها عن رؤيتهم
للحياة. كما اقتنت بعض المؤسسات والمتاحف والكاتدرائيات عددا من لوحاته. وعلى صعيد
الأدب، فمن أعماله الشعرية: ‘ملك البليارد’، ‘ضيف صوتك’، ‘هناك في الخارج، في
عينيك’، ‘حديقة فينا’، ‘جمال مناسب’ و’كاتدرائيات الماء’، كما له مجموعة أقاصيص
تجريبية، بعنوان ‘يونس أو الموت الصغير’، مرفقة بصور فوتوغرافية التقطها المصور
إدواردو رويغوميث. إضافة إلى إنجاز كتاب ومسلسل تلفزيوني وثائقي بعنوان ‘الحياة
السرية للفن'”.
وأشار إلى أن “خوان
عمل كأستاذ للرسم في جامعة ساينت لويس في مدريد، وفيها بدأت معرفتي به، زمالتنا
وصداقتنا منذ سنة 2004، كنا نلتقي فيها يوميا، بين المحاضرات أو بعدها، في المرسم،
في النادي، في المكتبة، وخارج الجامعة في الورش التي يقيمها، وفي مناسبات ثقافية وفنية
وعائلية مختلفة. نتبادل الأحاديث والنصوص والآراء. يجيد أربع لغات هي الإسبانية
والإنجليزية والكتالانية والإيطالية. زوجته إيطالية. يسافر وينشط ماسانا أدبيا،
ومع ذلك فهو لا يحبذ قراءة قصائده أمام جمهور، يريدها أن تحظى بالصمت، الذي يعد من
عناصرها الجوهرية. وعن وصف البعض لشعره بأنه من النوع الصعب، يقول ‘أدرك تماما بأن
الشعر الذي يقرأ أمام جمهور هو الذي ينتشر ويشتهر، وأن الشعر الغامض ما عاد يحظى
بالتقدير كالسابق، ومع ذلك أسعى للمحافظة على عذرية المادة الشعرية، في زمن يتم
فيه انتهاك عذرية كل شيء. وبالنسبة إلى شعري فهو يتطلب قدرا من الانتباه والتأمل…
إن الشعر يتطلب جهدا، لكن الناس ليسوا على استعداد للقيام بهذه المهمة، ليس لديهم
الوقت لها، وهم يعيشون غارقين تحت وابل من الرسائل المبتذلة. ما أراه في الخارج،
قاس ومحبط، ومع ذلك، أنظر إليه بأمل وحنان’.”
ويتابع “إننا نعاني
من تكاثر السياسيين السيئين، وكما يقول أنطونيو لوبيث “إن الفنان السيئ لا يضر،
أما السياسي السيئ، فنعم يضر. إننا بحاجة إلى الصمت والخروج من هذا الصخب.”
وأوضح الرملي أن
“في ديوان خوان ‘كاتدرائيات المـاء’ الذي نقدمه هنا للقارئ العربي، نجد تأثير
الرؤية التشكيلية على تناوله الشعري، حيث تبدو القصيدة أمامنا وكأنها تجسيد تشكيلي
جامد ومحدود المفردات، فيما سيكشف لنا التأمل الجاد فيه عن حركة مرصودة تمور في
داخله، وعن توتر حسي يعبر، وفي الوقت نفسه، يشي بعسر التعبير. إنها قصائد بالغة
التكثيف، بحيث وصفها البعض بأنها صيغة لهايكو غربي. ومن محاسن هذه النصوص أنها
تحمل قابلية فتح آفاق التأويل الشخصي للمتلقي، وبشكل خاص أوجه التأويل الذاتي
البحت، وليس ذلك المقترن بطروحات التأويل الأدبي المعروفة.. إنها نصوص تبدو صامتة
وتقرأ بصمت، مثلما أن فاعلية تلقيها الداخلي ستعمل بصمت يتعلق بالعمق.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (العرب)،
العدد 13472 بتاريخ 30/4/2025م
https://alarab.co.uk/sites/default/files/2025-04/12_27.pdf