الأربعاء، 30 أبريل 2025

عن ترجمة الرملي لدواوين إسبانية/ محمد الحمامصي


"لا شيء يكفي" ثلاثة دواوين

تمثل التوجهات الشعرية اليوم في إسبانيا

شاعرتان وشاعر يقدمون نصوصا تشتبك مع الواقع المعاصر

 

محمد الحمامصي

قد نال الأدب الإسباني الحديث نصيبه من الترجمة إلى اللغة العربية، خاصة ما كتب في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن الأدب المعاصر الذي يكتب بروح العصر اليوم ما زال غامضا للقارئ العربي، وفي هذا الصدد يأتي كتاب "لا شيء يكفي" ليقدم قصائد ثلاثة شعراء إسبان معاصرين.

يضم كتاب “لا شيء يكفي” ثلاثة دواوين شعرية قصيرة، لثلاثة شعراء إسبان أحياء. خوليا أسود، بغونيا بوثو، خوان ماسانا.

شاعرتان وشاعر، ترجمها الشاعر والأكاديمي والمترجم العراقي ــ الإسباني محسن الرملي، لافتا إلى أنهم من خلفيات ثقافية وجغرافية ولغوية مختلفة، وبالتالي فإن تجاربهم الشعرية مختلفة، وهي بتباينها هذا، تعطي تصورا عن بعض نماذج التوجهات الشعرية اليوم في إسبانيا، غير تلك التي عرفناها وترجمت على مدى قرن من الزمان، كغارثيا لوركا ورافائيل ألبرتي وميغيل إيرنانديث وخيمينيث وأليكساندره وغيرهم. 

شاعرتان وعالمان

في مدخل عام للكتاب، الذي يعد أول إصدار لدار بوملحه الإماراتية التي أسسها أخيرا الروائي عبيد بوملحه، وآثر أن يفتتح بهذه الباقة الشعرية سلسلة إصداراته، رأى الرملي أن ما يمكن ملاحظته بجلاء في الدواوين الثلاثة، هو الحرص على التكثيف، والانفتاح المتفاعل، شكلا ومضمونا، على التجارب الشعرية الأخرى في العالم، بما فيها العربية، وطبيعة هضم ما يتم استقباله وتلقيه، بحيث يتبلور بسلاسة داخل المنظومة والذهنية الشعرية الإسبانية، المعروفة بعراقتها وثراء إرثها.

وأوضح “عرفت هؤلاء الشعراء منذ سنوات طويلة، تربطني بهم صداقة متينة، وجمعتني بهم ميادين عمل مشتركة، ومشاريع وأنشطة ثقافية ومناسبات عديدة، وما زلنا على تواصل، لذا فأنا أعرف، عن قرب، أبعاد تجاربهم الشعرية جيدا، وعن قرب أيضا، وباستشارتهم، قمت بهذه الترجمة لدواوينهم، فكانت ترجمتها متعة أخرى تضاف إلى متعة قراءتها أولا، كمخطوطة، مسودة، ثم منشورة، ثم الاستماع إليها منهم لاحقا، شخصيا أو أثناء مناسبات تقديمها وتوقيعها.”

واستكمالا للمدخل الأولي العام، قام الرملي بتقديم كل ديوان، بنبذة تعرّف بالشاعر وبعمله، تسبق ترجمته.. وكانت البداية من الشاعرة آنا خوليا غونثاليث، أسود وديوانها “صلاح نيازي وأغنيات للشعوب التي بلا حمام”. قال الرملي معرفا بالشاعرة “ولدت في إقليم دي لامانتشا سنة 1975 في الباثيته وهي مدينة تأسست في عصر الموحدين، وأصل اسمها العربي هو البسيطة أو البسيط، لكونها تقع في سهل منبسط. تضيف الشاعرة دائما إلى اسمها الأصلي، كلمة أو تسمية أو لقب أسود، حتى صارت تعرف به، وتقول إنها قد اتخذته، وباللفظ العربي، كنوع من اعترافها واعتزازها بأصلها وبجذورها الثقافية العربية.”

وتابع “بدأت نشر قصائدها مبكرا في الصحف والمجلات، وحازت على بعض الجوائز الأدبية المحلية. من أعمالها: كلمات بلا آفاق، كوكب القمر، حدائق الزمن، خمسة أفواه.. وغيرها، إضافة إلى اشتراكها في أكثر من أنطولوجيا.”

وبيّن الرملي أن هذا الديوان القصير والخاص “صلاح نيازي وأغنيات للشعوب التي بلا حمام” يضم تسع قصائد، لها تقنيتها الخاصة ومناخها الواحد، وهو ديوان يتحدث عن السلام ويدين الحرب، بدأت بكتابته عندما اجتاحت القوات الأجنبية العراق عام 2003، وهي كما تصف، من خلال الحديث معها عنه، أرادت من خلاله أن تضم صرختها إلى صيحات المحتجين على الحرب، وأن تساهم، بشكل ما، في المزيد من إيصال أصوات الشعراء العراقيين إلى ما وراء الحدود، والتي كانت، لحظتها، محجوبة بفعل صخب الإعلام والقنابل وضجيج الحرب، وهكذا فقد اتخذت من الشاعر صلاح نيازي نموذجا وممثلا عنهم، وفي الوقت نفسه كنوع من التكريم له والاحتفاء به، كونها من المعجبين بشعره.

جعلت أسود من نيازي الشخصية الرئيسية للنصوص، وعنونت الديوان باسمه، إضافة إلى تبنيها لعبارة “عندما تبدأ الحرب، فإن أول من يهجر المدينة هو الحمام”، التي كانت قد سمعتها في مكان ما. ولهذا فإننا نجد في الديوان أن الشاعر يتأمل شعبه الذي أصبح بلا حمام.. فيتحسر، ولكن في القصيدة الأخيرة، ثمة باب مفتوح على الأمل؛ بأن الشعب، ومهما تأخر الوقت، فإنه، ذات يوم، سوف ينال السلام والعيش الكريم الذي يستحقه.

وتقول الشاعرة آنا خوليا أسود عن ديوانها هذا “إن الشعر ملزم بأن ينظر إلى الألم والمعاناة وجها لوجه، أن يصرخ باسم ضحايا الوحشية، أن يأخذ بأيدي الذين يعانون، ويمنحهم الصوت الذي يحاول الآخرون منعه عنهم، وأن يثور ضد الجلاد بلا هوادة. إن الشعر ملزم بأن يتكلم ويرفع الصوت أعلى من أي صخب آخر، وأن يواسي ويهدئ أيضا، داعيا للسلام، مطالبا به دائما، لا يهجر إصراره هذا على المطالبة بالسلام، ولا يدير ظهره للناس أبدا، لأن الشعر عائد للناس، ينتمي إليهم، وهو من حقهم، تماما كحقهم بالحياة وبالحرية.”

وفي مقدمته لديوان الشاعرة بغونيا بوثو “نوبونكه.. (فقرات من روما)”، قال الرملي “أعرف الشاعرة والأكاديمية بغونيا بوثو منذ أكثر من عشرة أعوام، وتربطني بها صداقة متينة. اشتركنا في أنشطة عديدة، منها كشعراء وكأعضاء في الهيئة الوطنية لمهرجان طليطلة الدولي للشعر، واستضافتني ضمن برنامج ‘قاعة الشعر’ في جامعة بلنسية، وفي بيتها، واشتركنا في ترجمات بين اللغات الثلاث الإسبانية والعربية والكتالانية، ونتبادل دائما الاتصالات والمراسلات والاستشارات والزيارات بين مدريد وبلنسية.”

وذكر أن  ديوانها هذا “نوبونكه.. فقرات من روما” قد نشر بصيغ مختلفة، أبرزها؛ نشره في كتاب واحد بترجماته إلى ثلاثين لغة، مرفقة بتخطيطات تفصل بينها، استوحتها الفنانة آغنيس داروكا من مناخات الديوان، ويضم ثلاثين قصيدة مكثفة تتوخى الشعر الصافي أو لبة الشعر.

وأوضح أن بغونيا بوثو تكتب بثلاث لغات، هي الإسبانية والإيطالية والكتالانية، التي تعد فيها من أبرز الأصوات الشعرية الآن، وهي من المؤسسين لجائزة ثيسار سيمون، التي تمنح سنويا لأفضل ديوان مكتوب بالكتالانية، كما تشرف على جوائز أخرى تخص الشعر الذي تكتبه النساء والترجمات وغيرها. أسست “قاعة الشعر” في جامعة بلنسية، تستضف فيها، شهريا، أحد الشعراء من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب كونها عضوا في العديد من هيئات تنظيم المهرجانات الشعرية في إيطاليا وإسبانيا، ومشاركة في العديد من المؤتمرات الأكاديمية التي تخص الأدب واللغة.

ولدت بغونيا بوثو في بلنسية عام 1974، وتحصلت على دكتوراه في فقه اللغة، وتعمل أستاذة ورئيسة قسم اللغة والآداب الإيطالية في جامعة بلنسية منذ عام 1998. أغلب أبحاثها الأكاديمية المنشورة تتعلق بالأدب المقارن، وخاصة في الشعر المعاصر، كما أنها ترأس تحرير مجلة الجامعة الفصلية المحكمة “علامات”، وتشرف على العديد من النشاطات الثقافية ضمن المحيط الأكاديمي وخارجه. من بين أهم أعمالها: سور الليل، زمن من ملح، قصائد في العراء، الذي نالت عليه جائزة أوسياس مارتش 2011، ضربة وحشية تحت البطن، بلا هدنة.

 “نوبونكه.. فقرات من روما” يعد تجربة أخرى مختلفة بين أعمالها، ابتداءً بالعنوان عبر كلمة “نوبونكه” التي نحتتها لتكون بمثابة الاسم لهذا المخلوق – الديوان بكل اللغات، تتلمس فيه آثار المحيط المادية والمعنوية، المكانية والزمانية على الإنسان روحا وجسدا، وكتب المقدمة له الشاعر الإسباني فيكتور غوميث بعنوان “الجسد يعرف كيف… أما زلت هناك؟ إلى متى؟”، واصفا قصائده بأنها تتميز بالترحال بين الداخل الإنساني وخارجه، وتترصد الحركة الخفية المصاحبة لهذا الترحال.

وقال الرملي “لقد أقيمت لهذا الإصدار الكثير من حفلات التقديم وأماسي القراءة في عدة مدن إسبانية وتشيلية وبرتغالية وإيطالية. شاركتها أنا بتقديمه في مدريد، كما حظي الديوان بردود الأفعال المشيدة به عبر المقالات النقدية التي كتبت عنه، ومن خلال العروض من فنانين تشكيليين لتحويل جزء منه أو كله إلى أعمال فنية، كترجمته اليابانية، لتكون على شكل لافتة أو سجادة طوليّة مصحوبة برسوم يابانية تقليدية، ومنها على شكل لوحة تطوى وتفتح كخرائط المسافرين، أو اتخاذ قصائده القصيرة ورسوماته كمادة لتصميم تقويم سنوي فني، ومؤخرا تلحين وغناء بعض مقاطعه.. وغيرها، وهنا نقدم ترجمة لهذا الديوان إلى العربية، مع الحرص على الحفاظ على بنيته التقنية، وإيصال حساسيته الشعرية، قدر الإمكان.” 

كاتدرائيات المـاء

قال الرملي “أما خوان ماسانا فهو شاعر ورسام إسباني، فقد ولد في برشلونة سنة 1950 وأقام معرضه التشكيلي الأول سنة 1974 ثم تواصلت من بعدها معارضه الفنية، في إسبانيا وخارجها، وعرف عنه تخصيص مراحل من تجربته لمواضيع محورية بسلسلة من اللوحات، ومنها عن الكتب وعن الكلاب، لكن أشهرها، تميزه وخصوصيته برسم البورتريه لأهم الشخصيات الثقافية الإسبانية، ومنهم الفائزون بجائزة ثربانتس للآداب.”

وتابع “تبنته المكتبة الوطنية الإسبانية، عبر العرض أولا، ثم الإصدار في كتاب مهم، بعنوان ‘حراس الذاكرة’، حيث رافقت اللوحات نصوص كتبها من تم رسمهم، يعبرون فيها عن رؤيتهم للحياة. كما اقتنت بعض المؤسسات والمتاحف والكاتدرائيات عددا من لوحاته. وعلى صعيد الأدب، فمن أعماله الشعرية: ‘ملك البليارد’، ‘ضيف صوتك’، ‘هناك في الخارج، في عينيك’، ‘حديقة فينا’، ‘جمال مناسب’ و’كاتدرائيات الماء’، كما له مجموعة أقاصيص تجريبية، بعنوان ‘يونس أو الموت الصغير’، مرفقة بصور فوتوغرافية التقطها المصور إدواردو رويغوميث. إضافة إلى إنجاز كتاب ومسلسل تلفزيوني وثائقي بعنوان ‘الحياة السرية للفن'”.

وأشار إلى أن “خوان عمل كأستاذ للرسم في جامعة ساينت لويس في مدريد، وفيها بدأت معرفتي به، زمالتنا وصداقتنا منذ سنة 2004، كنا نلتقي فيها يوميا، بين المحاضرات أو بعدها، في المرسم، في النادي، في المكتبة، وخارج الجامعة في الورش التي يقيمها، وفي مناسبات ثقافية وفنية وعائلية مختلفة. نتبادل الأحاديث والنصوص والآراء. يجيد أربع لغات هي الإسبانية والإنجليزية والكتالانية والإيطالية. زوجته إيطالية. يسافر وينشط ماسانا أدبيا، ومع ذلك فهو لا يحبذ قراءة قصائده أمام جمهور، يريدها أن تحظى بالصمت، الذي يعد من عناصرها الجوهرية. وعن وصف البعض لشعره بأنه من النوع الصعب، يقول ‘أدرك تماما بأن الشعر الذي يقرأ أمام جمهور هو الذي ينتشر ويشتهر، وأن الشعر الغامض ما عاد يحظى بالتقدير كالسابق، ومع ذلك أسعى للمحافظة على عذرية المادة الشعرية، في زمن يتم فيه انتهاك عذرية كل شيء. وبالنسبة إلى شعري فهو يتطلب قدرا من الانتباه والتأمل… إن الشعر يتطلب جهدا، لكن الناس ليسوا على استعداد للقيام بهذه المهمة، ليس لديهم الوقت لها، وهم يعيشون غارقين تحت وابل من الرسائل المبتذلة. ما أراه في الخارج، قاس ومحبط، ومع ذلك، أنظر إليه بأمل وحنان’.”

ويتابع “إننا نعاني من تكاثر السياسيين السيئين، وكما يقول أنطونيو لوبيث “إن الفنان السيئ لا يضر، أما السياسي السيئ، فنعم يضر. إننا بحاجة إلى الصمت والخروج من هذا الصخب.”

وأوضح الرملي أن “في ديوان خوان ‘كاتدرائيات المـاء’ الذي نقدمه هنا للقارئ العربي، نجد تأثير الرؤية التشكيلية على تناوله الشعري، حيث تبدو القصيدة أمامنا وكأنها تجسيد تشكيلي جامد ومحدود المفردات، فيما سيكشف لنا التأمل الجاد فيه عن حركة مرصودة تمور في داخله، وعن توتر حسي يعبر، وفي الوقت نفسه، يشي بعسر التعبير. إنها قصائد بالغة التكثيف، بحيث وصفها البعض بأنها صيغة لهايكو غربي. ومن محاسن هذه النصوص أنها تحمل قابلية فتح آفاق التأويل الشخصي للمتلقي، وبشكل خاص أوجه التأويل الذاتي البحت، وليس ذلك المقترن بطروحات التأويل الأدبي المعروفة.. إنها نصوص تبدو صامتة وتقرأ بصمت، مثلما أن فاعلية تلقيها الداخلي ستعمل بصمت يتعلق بالعمق.”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في صحيفة (العرب)، العدد 13472 بتاريخ 30/4/2025م

https://alarab.co.uk/sites/default/files/2025-04/12_27.pdf

https://alarab.co.uk/%D9%84%D8%A7-%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%8A%D9%83%D9%81%D9%8A-%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D8%A7%D9%88%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D9%85%D8%AB%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7

الثلاثاء، 22 أبريل 2025

قراءة: المشهد والتقنيات في الفتيت المبعثر/ إسماعيل آلرجب


المشهد الدرامي والتقنيات الحسيّة

لرواية "الفَتيت المُبعثَر"

للكاتب الدكتور محسن الرّملي 

قراءة نقدية بقلم

النّاقد العراقي إسماعيل آلرجب

1ــ العنوان ودلالته:

إن اختيار العنوان "فتيت مُبعثَر" يحمل دلالات متعددة تعكس الواقع المعقد الذي يعيشه الشعب العراقي. الفتيت، كأكلة شعبية في الأرياف العراقية، يرمز إلى بساطة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن المُبعثَر يشير إلى التشتت الذي تعاني منه العائلات العراقية بسبب الظروف القاسية التي تعاني منها. هذا التباين بين البساطة والثقافة اليومية من جهة، والفوضى والانقسام من جهة أخرى، يُبرز تناقض الحياة العراقية في زمن الحرب.

2ــ الشخصيات والعائلة:

تتجسد مأساة الشعب العراقي من خلال تجربة عائلة الرملي، التي تمثل نموذجًا مصغرًا للوطن. الشخصيات المتعددة تتسم بالثراء العاطفي والتعقيد، حيث تتنوع مواقفهم وأفكارهم تجاه الحرب والنظام السياسي. كل شخصية تعكس جانبًا من جوانب الصراع العراقي، سواء من خلال دعم النظام أو معارضته، مما يعكس الصراعات الفكرية والسياسية التي كانت قائمة في العراق.

3ــ النظام السياسي وتأثيره:

الرواية تعكس بشكل مباشر تأثير النظام السياسي السابق، وتحديدًا الدكتاتورية التي فرضت قيودًا على الحرية الفردية وحقوق الإنسان. من خلال سرد الأحداث، يسلط الكاتب الضوء على أثر النظام السّياسي على حياة الناس وكيف أن الحرب لم تُدمر فقط الأرواح بل حتى الروابط الأسرية. ومظاهر التشتت في العائلة عبر القتل، والتهجير، والتفرّق، مما يعكس الآثار النفسية التي تتركها الحروب على الأفراد والمجتمعات.

4ــ الصراع والاختلافات:

تتناول الرواية أيضًا النزاعات الأيديولوجية التي نشأت بين القوى السياسية المختلفة في المنطقة، مثل حزب البعث العراقي ذو الفكر القومي والنظام الإيراني الطائفي بعد الثورة على الشّاه. تلك الحرب الّتي تعكس تردد بعض أفراد عائلة الرملي في الانخراط في الجيش العراقي والدفاع عن العراق في تلك الحرب، موقف الحرب الّذي يُظهر تباين المعتقدات والأيديولوجيات. هذا التردد يسلط الضوء على قضايا الإيمان بعدالة تلك الحرب، ودور الثقافة والمعرفة في تشكيل هذه المواقف.

5ــ الصورة الكلية للواقع العراقي:

يمكن القول إن الرواية تمثل شهادة قوية لما مر به الشعب العراقي من تجارب قاسية. الكتابة هنا لا تقتصر على تسجيل الأحداث بل تتجاوز ذلك لتعرض الأبعاد النفسية والاجتماعية للتجربة العراقية. يُظهر الروائي شخصياته في أوضاع مأسوية، مما يزيد من تأثير الأحداث على القارئ ويجعله يتفاعل مع المعاناة والألم.

6ــ الفن السردي:

يمتاز أسلوب الكاتب بالرصد الدقيق لحركة الشخصيات وتطوراتها النفسية. استخدامه للغة البسيطة والمباشرة يسهل من فهم النص، لكنه في نفس الوقت يحمل عمقًا عاطفيًا ويصلح كوسيلة لنقل المعنى العميق الذي يتجاوز الكلمات. الحوار بين الشخصيات يُظهر الصراعات الداخلية بشكل واضح، مما يمنح القارئ فرصة للتعرف على دوافعهم وتبريراتهم.

7ــ الرأي النقدي:

أولاً. رواية "فتيت مبعثر" تعكس بعمق تجربة الشعب العراقي في ظل الظروف القاسية للحرب والدكتاتورية. عبر تقديم نماذج حقيقية ومؤثرة لشخصيات تعيش ألم الفقد والتشتت، يُظهر الكاتب التأثير المدمر للسياسة على الحياة الشخصية. إن قراءة الرواية ليست مجرد تجربة أدبية، بل هي فرصة لفهم عميق لما عاشه المجتمع العراقي وتقديم صوت لمن عانوا في صمت. هذه الرواية تستحق التأمل والتأمل في كل ما تحمله من معانٍ ودلالات.

ثانياً. في رواية "فتيت مبعثر"، يمكننا اعتبار المعاناة الإنسانية للشخصيات ليست محصورة فقط في حرب الثمان سنوات، وإنما تمتد إلى فترات سابقة ولاحقة أيضًا. لنحلل هذا الأمر من زوايا متعددة:

أ. المعاناة قبل الحرب: حيث أنّ تاريخ العراق مليء بالصراعات السياسية والاجتماعية، حيث شهدت البلاد فترات من القمع والاستبداد قبل اندلاع حرب الثمان سنوات. وأن النظام الحاكم في العراق كبقيّة الأنظمة السياسية المتشددة والتي تفرض قيودًا على الحريات الشخصية وتعاقب على المعارضة.

وأثر العامل الاقتصادي على نوعية حياة الأفراد.

ب. المعاناة أثناء الحرب: الحرب هي ذروة المعاناة حيث تتجلى الفواجع بشكل واضح في القتل والتهجير والتشريد وأدت إلى خسائر فادحة في الأرواح. وتفكك الأسر نتيجة الحرب والتي تحمل عبء الفقد والحرمان.

ت. المعاناة بعد الحرب: بعد انتهاء حرب الثمان سنوات وسقوط النظام الديكتاتوري، قد يتوهم البعض أن الحياة أصبحت خالية من المعاناة. لكن الحقيقة هي أن المعاناة الإنسانية استمرت بآثارها النفسية فلايزال الكثير من الأشخاص يحملون آثار الحرب في ذاكرتهم، مما يؤثر على حياتهم اليومية.

- كما أنّ العراق ظل يعاني من عدم الاستقرار، والصراعات الداخلية بين الفصائل والأحزاب المتنازعة التي تتسبب في معاناة جديدة.

- وكذلك فإنّ انتشار الفساد والفقر والبطالة والتحديات الاقتصادية والسياسية بعد الحرب أضرت بجوانب الحياة الأساسيةعليه، يمكن القول إن المعاناة الإنسانية ليست مرتبطة فقط بزمن حرب الثمان سنوات، بل هي جزء من نسيج الحياة العراقية عبر العصور.

- "فتيت مبعثر" تجسد هذه الحقيقة من خلال تقديم صورة معقدة عن الفرد العراقي الذي يعاني من الظروف القاسية في جميع مراحل الحياة.

8ــ التحليل النقدي في بنية وتقنيات الرواية:

1ــ الكناية:

تُستخدم الكناية في الأدب للإشارة إلى معانٍ غير مباشرة أو للتعبير عن أفكار معقدة دون التصريح بها بشكل واضح. في "فتيت مبعثر"، يمكن أن نجد الرملي يستخدم الكناية للإشارة إلى:

أولاً. غموض المشاعر: على سبيل المثال، قد يستخدم الرملي تعبيرات كناية لوصف الألم النفسي الذي يشعر به الأبطال كنوع من الغموض أو الضبابية في مشاعرهم، مما يجعل القارئ يتجاوب مع تعقيد الوجع.

ثانياً. الوطن المنكوب: من خلال تقديم رموز تدل على العراق المعذب، مثل البنية التحتية المدمرة أو النفوس المشتتة، فإن هذه الكناية تنقل مشاعر الفقد والتشتت.

2ــ الاستعارة:

الاستعارة هي استخدام كلمات أو عبارات تشير إلى شيء آخر، مما يوفر رؤية جديدة للموضوع. في الرواية، تُستخدم الاستعارة كوسيلة:

أولا. للتعبير عن الألم: قد يستعير الرملي صورًا من الطبيعة أو الحياة اليومية ليعكس مشاعر الحزن واليأس. مثلاً، وصفه للمطر كرمز للبكاء أو الفقد يُستخدم ليعكس الكآبة المستمرة في حياة الشخصيات.

ثانياً. تجسيد الصراع: في تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات، يمكن أن يستخدم الرملي استعارات تتعلق بالمعارك أو الحروب، مما يقارب بين الصراع النفسي والصراع الخارجي.

3ــ التصوير الفني:

يتميّز الرملي بقدرته على رسم لوحات فنية عبر الكلمات، مما يجعل المشاهد الإنسانية حية وتُشعر القارئ بعمق التجربة:

أولاً. وصف المشهد: يتضمن تصويره للأماكن والأحداث أبعادًا عاطفية، مثل وصفه للاعتقال أو الاعدام الميداني أو القبور بلغة غنية تعكس الفوضى والمأساة.

ثانياً. الحركة والتوتر: من خلال وصف حركة الشخصيات وتفاعلهم مع المحيط، يتمكن القارئ من الإحساس بالضغط النفسي الذي يعانونه، ويعيش التجربة بأبعادها الكاملة.

4ــ الدرامية والتراجيديا:

من خلال هذه الأدوات، يُظهر الرملي بشكل ملحوظ طبيعة الحياة التراجيدية التي يعيشها الأبطال:

أولاً. التأثير المزدوج: يُظهر كيف تؤثر الظروف الخارجية (الحرب) على النفس الداخلية (الصحة النفسية والعلاقات).

ثانياً. التوتر والصراع يمثلان دراما تلك الشخصيات بشكل واقعي يعكس معاناتهم. ان اسلوب تناول الرملي للحكاية يمثّل البعد الإنساني الأوسع ويجعل من الرواية تجسيدًا لحياة الكثيرين في ظل الحروب والظروف القاسية.

9ــ وأخيراً:

تعتبر استخدامات الرملي للكناية، والاستعارة، والتصوير الفني عناصر أساسية في بناء الرواية التي تعكس عمق المعاناة الإنسانية. هذه الأدوات تُضفي طابعًا دراميًا يُسلط الضوء على تراجيديا الحياة، مما يجعل القارئ يُعيد التفكير في الأبعاد النفسية والوجودية لتجارب الشخصيات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*إسماعيل آل رجب: كاتب وناقد عراقي، المشرف على نادي القصة القصيرة العراقي والرابطة الأدبية، من أعماله: وادي الضباع.

*نشرت في صفحة (المنار الثقافية الدولية)، بتاريخ 22/4/2025م

https://www.facebook.com/photo/?fbid=2420671421625294&set=g.284674609100259