الاثنين، 31 مارس 2025

رواية: أبناء وأحذية، تحدي الموت/ علي عبدالأمير صالح

 

الفصل الثامن عشر

(أبناء وأحذية): تحدّي الموت عبر مباهج الغرام والإنجاب 

علي عبد الأمير صالح

ما الذي يجعل المرءُ ينتقم من الموت، ويتحداه، ويراوغه، ويتملّص منه، ويخادعه، ويتجاهله، ويتناساه وهو الذي يعرف حق المعرفة أنه لا يُمكن مساومته، والهَرَب منه، وأنه مهما كان طول أمد الحياة فلا بد أن نقبل بحصتنا القليلة أو الكثيرة منها، وأن نقتنع بأننا نلنا كفايتنا منها، حتى لو أننا لم نَعُش شيخوخًة طويلة وجميلة، ولا عرفنا راحة البال والطمأنينة والسعادة في أعز أيام شبابنا، ولم تكن طفولتنا مرحة، ولم نحصل على بغيتنا من الدُمى والألعاب، ولم يصطحبنا آباؤنا إلى الحدائق والمتنزهات، ولم نركب دوّامات الخيل، أو نقهقه بسعادة غامرة حين ترتفع بنا الأراجيح، لأننا سلخنا حياتنا لاهثين وراء رغيف العيش، أو أمضينا أجمل أيام شبابنا خلف قضبان السجون، أو في خنادق الجبهات، وكانت أمهاتنا يذوين في المطابخ، وخلف تنور الخبز. لم نفهم لعبة الحياة رغم الأعوام الطويلة التي عشناها، ومع إننا انطلقنا في فضاءات الروح ومباهج الغرام، وكابدنا آلام فراق الأحبة والعزلة والوحدة واليأس، وعانينا من وجع الاغتراب والهجرة واللجوء القسري؟ نعم، ما الذي يجعل المرء ينتقم من الموت، هذه الحقيقة المروِّعة الأكثر شيوعًا، التي نقابلها جميعًا في خاتمة المطاف، مهما كان نوع الحياة التي نعيشها، ونتشارك فيها من دون استثناء، سواء كنا أثرياء أو فقراء، تجارًا أو عمال نظافة، محرومين أو متنعمين بوسائل الراحة، ثوارًا اتخذنا من جيفارا أو غاندي أو مانديلا قدوًة لنا، أو مُشرّدين مدمنين على العقاقير ننام على الأرصفة، أو فوضويين عابثين نقضي ليالينا في أندية الرقص واللهو، ونعربد ونسكر حتى فقدان الوعي، ضائعين عن العالَم، ومنسلخين عن كل ما يُحيط بنا، من دون أن نشعر بالمسؤولية حيال الظلم المفروض على بلادنا، وإزاء ضبابية مستقبل أبنائنا وأحفادنا، وانسداد أفق حياتنا وحياتهم؟ هل ثمة فائدة، أو معنى أو مستقبل لتحدٍّ من هذا النوع، إن كان هنالك فعلًا تحدٍّ كهذا؟ هل باستطاعتنا، فعلًا، أن نزيح، حتى ولو مؤقتًا، هذا الشبح، ونُوهِم أنفسَنا أننا قادرون على أن نغمض عيوننا عنه، مقنعين أنفسنا بأن الموت ما هو إلا كابوس استيقظنا منه على حين غرة، وها نحن الآن قد رجعنا إلى حياتنا، إلى مرحنا، ومودتنا، وأخوتنا، وتضامننا، ولم نعد نأبه بالموت، ولم نعد نتخبط في الدروب الشائكة أو المتاهة التي وجدنا أنفسنا فيها ــــ في الكابوس، تلك المتاهة التي أصبحنا فيها ضحايا الأزمات النفسية، وفريسًة للسقوط الأخلاقي في الأوطان التي مزقتها الدكتاتوريات والقمع والحروب؟ هل يُمكننا أن ننكر أننا في وقتٍ من الأوقات فكرنا جديًا في كيفية البقاء خالدين، مستذكرين عشبة جلجامش، أو، على الأقل، كيف نحافظ على شبابنا أطول مدة ممكنة، كي نؤدي واجباتنا على أكمل وجه، تجاه أولادنا، وأبناء شعبنا، وبلادنا، والعالَم أجمع، طالما أننا جزءٌ من الجنس البشري؟ كيف يستطيع المرء أن يسخر من الموت، من دون أن نعتبر سخريتنا هذه حماقًة أو عبثًا أو تهوّرًا أو عملًا صبيانيًا أرعن. فما أكثر أولئك الذين حاولوا أن يتجاهلوه، أو يتناسوه؛ حاولوا أن يدفنوا أفكارهم عن الموت. وما أكثر الذين سخروا من الموت، من أناس عاديين أو حمقى أو شعراء أو فلاسفة أو سينمائيين، أو تناولوه في كتبهم، ودراساتهم، وأعمدتهم الصحفية؛ في أشعارهم، ورواياتهم، وأفلامهم السينمائية، ومنهم انغمار برغمان في (الختم السابع)، ويوسف شاهين في (اليوم السادس)، وعباس كياروستمي في (طعم الكَرز). وحتى الأغاني التي تأسرنا وتطربنا لا تخلو هي الأخرى من كلمة (الموت). وهي ذي المغنية والممثلة ﮔوكوش تقول في واحدة من أغانيها: "ساعدني، ساعدني، لا تدعني أبقى وأتقيّح. ساعدني، ساعدني، ساعدني. لا تدعني أُقبّل شفتيْ الموت هنا". وكذلك الأمر بالنسبة للرسامين، ومنهم فريدا كاهلو، على سبيل المثال، التي ظل شبح الموت يرقص من حولها طوال سني حياتها بعد تلك الحادثة الأليمة لمّا كانت في ريعان شبابها؛ إذ رسمت لوحة تحمل عنوان (التفكير في الموت). فريدا التي أقامت معرضها الفني الأخير قبل وفاتها بعام واحد، وهي طريحة الفراش، ودخلت إلى قاعة الرسم، وهي على سرير المرض، غير قادرة على رفع رأسها من على الوسادة. كانت ترسم، والوجع يمزق جسدها، ملاك الموت الأسود يرتفع إلى كبد السماء. وما أكثر الروايات التي حملت كلمة (الموت) في عناوينها؛ ومنها: (موت في البندقية) لتوماس مان، و(قصة موت معلن) لغابرييل غارسيا ماركيز، و(سنة موت ريكاردو رييس) لجوزيه ساراماغو، و(موت أرتيميو كروث) لكارلونيس فوينتيس، و(الموت عمل شاق) لخالد خليفة، على سبيل المثال. وفي أحيان كثيرة جدًا كانت كلمة (الموت) تتردد على ألسنة الشخصيات الروائية في الآداب العالمية والأدب العربي؛ تلك التي نسجتها أخيلة الكُتاب شرقًا وغربًا، ومنهم محسن الرملي.

والآن، بعد هذه المقدمة المستفيضة، هل يمكننا أن نصنّف (أمير)، بطل رواية (أبناء وأحذية) واحدة من تلك الشخصيات المؤثرة، التي سخرت من الموت، وعاندته، وتحدته، وتجاهلته، وثأرت منه بعد أن غيّب الموت طفلته الوليدة (أميرة الزهراء) في حاضنة زجاجية خاصة بالخُدج في مستشفى الولادة بكرخ بغداد، إثر حمل وولادة عسيرين عانتهما الأم التي تخرجت حديثًا في قسم المسرح بكلية الفنون الجميلة؟ ويا للوجع الذي يستشعره البطل الجندي العائد توًا إلى بغداد في مأمورية عسكرية مدتُها يوم واحد، وهو يحمل طفلته الميتة في علبة حذاء، ويدور بها هنا وهناك، بحثًا عن قبر مناسب لجثمان ثمرة حبه. إلا إنه شاءت الأقدار أن يواريها الثرى في مقبرة سبق وأن تبادل فيها القبلات مع حب حياته، وتاليًا زوجته، زهراء.

يأتي (أمير) في مأمورية عسكرية فيجد زوجته تعاني آلام المخاض، وما تكاد تمر سويعات بعد ولادة طفلته حتى يطعنه خنجر القدر المسموم فتفارق طفلته الحياة، وبعدها تغضب منه زوجته لأنها لم تر طفلتها بعد الولادة، إذ كانت غائبة عن الوعي، ولم تفق من تأثير المخدر العام بعدُ، ولأن أباها دفنها على عجل من دون علم أمها. وكانت عملية الدفن تلك غير لائقة، ولا إنسانية. وبعدها ينفصل أمير عن زوجته زهراء، خريجة المسرح المولعة بمسرحية (هاملت)، بعد حياة زوجية قصيرة جدًا، غاب خلالها في الجبهة، جنديًا يؤدي خدمته الإلزامية في البصرة إبان (الحرب العراقية ــــ الإيرانية).

في مفتتح الرواية، يقول الراوي، وبطل الرواية أمير: "انتقامًا من موت طفلتي في العراق، أنجبتُ سبعة وعشرين طفلًا في إسبانيا وكولومبيا". [1]

وإذا كانت فريدا كاهلو تهدئ نفسها من خلال جرعات الأدوية، أو الكونياك، أو الرسم أو الجلوس قرب النافذة الكبيرة في غرفة نومها، تراقب الحمائم والأغصان ونافورة متحركة في الحديقة، فإن أمير يهدئ نفسه في علاقات غرامية عابرة، ويهدي العازبات التواقات للإنجاب أطفالًا من صلبه بعد ليالٍ طافحة بالعشق والتنهدات والشهقات، وعقب حفلات رقص وشرب وتدخين ومرح ونكات وملامسات وإعجاب وافتنان، ورحلات في الطبيعة الخلابة، ووسط الغابات، وعلى مقربة من الأراجيح الشبكية، وذات مرة طارح إحدى عشيقاته الغرام على التبن. حين تُسكره لذة العشق لا يعرف كيفية التغلب عليه، أو طريقة التخلّص منه. فالحب والشغف بالنساء والرغبة بالاستمتاع بالحرية والحياة كانت كلّها تدفع أمير لأن يغدو مندفعًا، أو متهورًا أو "ثورًا ضائعًا"، كما تصفه كوثر، طاهية المطعم المغربية، التي عملت معه ومع عدد آخر من النساء، لمّا عرفت بعلاقاته النسائية المتعددة، والواسعة، والعميقة واستعداده لإنجاب الأطفال من أولئك الراغبات بذلك، شريطة ألا تقع عليه مسؤوليات قانونية، وبحسب موافقتهن. تخاطبه كوثر غاضبة: "حرام عليك" وعندما يجيبها أمير "أنه لا يريد ابنًا ولا يصلح لأن يكون أبًا أو زوجًا"، ترد عليه كوثر قائلًة: "كنتَ تصلح لذلك يا أمير، أما الآن وبعد هذه الحماقات فلا. كنت تصلح عندما كنتَ إنسانًا طيبًا، أمّا الآن فأنتَ مجرد ثور ضائع". ومن ثم تكمل حديثها قائلة: "لستُ أنا مَن تقول هذا، وإنما كلّهم يسمونك هكذا، من وراء ظهرك يا مغفل. اسأل عاهرتيك كارمن وابنة عمها". [2]

والحق، بات موضوع الإنجاب والأمومة موضوعًا ساخنًا ورائجًا في الفن القصصي، ثمة مشاعر وأحداث كثيرة تختلط في زمن الحياة هذا، وعلى غرار مسألة الأبوة عمومًا، قابلية الصدمة وفرصتها لا حدود لهما. وأحد الجوانب الذي يبدو ناضجًا لجدال لا نهائي هو قرار إنجاب الأطفال في المقام الأول. وغالبية البشر في عالمنا المعاصر يؤيدون الفكرة القائلة إنه ببساطة امتلاك خيار أن يكونوا آباًء هو امتياز لا يمتلكه عددٌ غفيرٌ من البشر في العالَم، سواء أكان ذلك بسبب نقص التعليم، تحديد النسل، القابلية الجسدية، أو أنه ببساطة يُعزى إلى الظروف. ومثال على هذا الاهتمام بموضوع الإنجاب وتوق المرأة لأن تلعب دور الأمّ هو رواية الكاتبة والصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي المعنونة (رسالة إلى طفل لم يُولد بعدُ).

وكذلك رواية (التذكرة الزرقاء)، للكاتبة البريطانية الشابة صوفي ماكنتوش، التي ترجمها كاتب هذه السطور. وهذه الرواية تسبر غور مجتمع يكون فيه قرار إنجاب الأطفال شيئًا ليس بأيدي النساء. تنشأ البطلة كالا في عالَم يختلف عن عالَمِنا، حيث تختبر النساء دورتهن الشهرية الأولى، يؤدين طقسًا يصطحبهن خلاله آباؤهن حيث يتعين عليهن أن يخترن تذكرة صغيرة من ماكينة اليانصيب، والتذاكر إما تكون زرقاء أو بيضاء. التذكرة الزرقاء يعني أنه سوف يُدخَل جهاز تحديد النسل بشكل قسري في جسمكِ طوال ما بقي من حياتكِ. أما التذكرة البيضاء فتعني أنكِ سوف تنجبين الأطفال. وتكشف الرواية كيف أن صاحبات التذكرة الزرقاء يتحرقن شوقًا لمشاعر الأمومة في عالَم يمنح نساًء معينات هذا الامتياز. ولهذا، ينطلقن في رحلةٍ بعيدة ومعهن علب صغيرة من الإمدادات. أي بمعنى أنهن يُجبرن على السفر وحيدات، طوال مدة قد تبلغ بضعة أسابيع، إلى أن يصلن إلى مدينة ما.

وكالا، بطلة رواية (التذكرة الزرقاء)، شأنها شأن كارمن، صاحبة البار التي كانت تشتغل سابقًا في مطعم منهل، وتحلم دومًا بإنجاب طفل قبل أن يمضي بها العمر، ولكي تُسعِد والدها العجوز الذي يعيش معها، وهي ليست بحاجة لأي مال من أمير. وكارمن شبيهة بنسوة أخريات من مثل ابنة عمها، ومن مثل دوشكا الروسية، وإيبا الإسبانية، وآرارا الأفريقية وسواهن. وهؤلاء النسوة لم يتعرضن للإقصاء حالهن حال كالا، بل كن يُصغين لعاطفتهن الأمومية، وما كان يخبرهن به جسدهن.

تسيطر على كالا رغبة الإنجاب، وتصفها بالقول: "كانت نوعًا من رغبة لم تكن تبدو مختلفة جدًا عن الرغبات الأخرى في أول الأمر، لذا لم أرَ أذًى في تنميتها. تعوّدتُ على الرغبات التي كانت فطرية، إلا إن هذه الرغبة مضت شوطًا أبعد نوعًا ما. لم أكن أعرف أني قادرة على توقٍ كهذا، أو حزنٍ كهذا. في الحمّام ويدي في داخل نفسي عرفتُ أني أستسلم لها، أتبعُها إلى الأجزاء المجهولة من ذاتي. سوف تأخذني إلى مكانٍ ما لا أستطيع الرجوع منه، وقد رحبتُ به، خائفًة قليلًا إلا إني مبتهجة في الأغلب". [3]

وهي ذي مريم بطلة (ألف شمس مشرقة) لخالد حسيني، تفكر برحلتها مع رشيد التي استغرقت ستمائة وخمسين كيلومترًا، من هيرات في الغرب قرب الحدود إلى كابول في الشرق.. لقد مرا بمدن صغيرة ومدن كبيرة، مجموعة القرى التي كانت تظهر الواحدة تلو الأخرى.. قطعا الجبال عبر الصحراء المحترقة، من إقليم إلى إقليم. وها هي الآن بعد كل تلك الصخور والتلال في بلد يخصها، باتجاه إقليم صغير تعتز به: الأمومة. كم من الممتع التفكير بهذا الجنين، جنينها، جنينهما. كم من الرائع أن تعلم أن حبها له قد قزّم أيّ شيء شعرت به مطلقًا كإنسانة، أن تعلم أنه لا حاجةَ بعد الآن للعب بالحصى". [4] وبعد سطور قلائل يكتب الراوي كليّ العلم: "عندما تفكر مريم بهذا الجنين، يكبر قلبها.. ويكبر، وتختفي كل الخسارة، الحزن، كل الوحدة والغياب من حياتها".

أي، باختصار، أن غريزة الأمومة كانت تتلوّى تحت السطح، وتحرّك الأشياء في داخل هؤلاء النسوة التوّاقات للإنجاب. هذه الغريزة تنبض تحت جلد كل واحدة منهن. ويشعرن أنهن بحاجة لإصلاح ما مفقود في داخلهن. إنهن يتحرقن شوقًا إلى جلب شيء إلى العالَم. الأصح، كائن بشري، (ابن) أو (بنت). لا بل أن كثيرين يقولون إن المرأة لا تكتمل إلا إذا أنبتت شيئًا في داخلها وجلبته إلى العالَم. إنهن يبذلن قصارى جهودهن كي يُظهرن جدارتهن، ويحاولن أن يكنّ أموميات في كل فرصةٍ من الفرص. أن يكنّ أمهات حنونات. ويعتقدن أنهن يستحققن هذه الفرصة.

يهرب أمير من ماضيه الموجع، من البلد الذي لم يعرف فيه سوى عناد الأب المُتسلّط وجبروته وقسوته، الذي تمنى من كلّ قلبه أن ينخرط ابنه في سلك الشرطة، وألا يلتحق بقسم المسرح ويغدو مُهرّجًا يُضحِك الناس عليه. غير أن أمير يتذكر أنه أحب المسرح، "لأنه الصيغة الوحيدة التي أستطيع أن أكون فيها أنا نفسي كما أريد، لا كما يريد أبي...  في المسرح أستطيع خلق نماذج مختلفة من أصدقاء وأخوة أفتقر إلى وجودهم في الواقع، وأستطيع أن أجعل الأخ يصادق ويحب أخته، ويتبادل معها الأفكار والأدوار، دون الخوف من تصنيفات وتحذيرات الأب والناس في القرية". [5]

حين يُعلن أمير رغبته في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة يعرب الأب الشرطي عن استيائه. يقول الراوي: "ما أن أخبرته برغبتي بها، حتى استشاط وزمجر وأرعَد، وهددني بطردي من البيت ومن حياته، والتبرؤ مني إلى الأبد إن دخلتها. قال بأنه لا يريد أن يرى ابنه مسخرة وفرجة للناس، يُلقي النكات ويقوم بالحركات السخيفة كي يُضحكهم عليه، أو يرقص هازًا مؤخرته أمامهم كي يمتعهم في مساء عابر من حياتهم. قال إن الفنانين لا مستقبل لهم في هذا البلد، ولا مكانة ولا سمعة جيدة". [6]

غير أن أمير يصر على ملاحقة حلمه، ويكسر ذراعه كي يتمكن من الانتقال من (كلية التربية الرياضية) إلى (كلية الفنون الجميلة)، وكي يكون هناك مع حبيبته زهراء التي بدورها انتقلت من (كلية الشريعة) إلى الكلية المذكورة أعلاه. أمير وزهراء، كلاهما شغفا بالمسرح، وأديا مشاهد تمثيلية من مسرحية (هاملت) أمام الدكتور ياسين، أستاذ المسرح، ويعجب بأدائهما المسرحي ويشجعهما على الانتقال إلى (كلية الفنون الجميلة) بشكل رسمي، بدلًا من حضور دروسه وتدريباته بشكل غير نظامي، متسللين إلى صالة التدريبات المسرحية، وجالسين في عتمة المقاعد الخلفية، بغية متابعة دروس الأداء الحركي والصوتي.

كلاهما، أمير وزهراء، انتظم في كلية أخرى غير التي يُحبان الانتظام فيها، لكنهما تاليًا حققا حلميهما، وجمعهما حب المسرح. ولمّا أخبرا الدكتور ياسين بأنهما فعلا ذلك، قال لهما: "إذا كان حب الفن حقيقيًا فيكما، فسوف تتمردان حتمًا. ما قيمة الفن والحب إذا كان مُهادنين ومنافقين للتقاليد! هما إبداع، والإبداع ابتداع وتجديد. محاولات هدم وبناء متواصل لتغيير الواقع. الفن حب والحب فن، ودليل حقيقتهما هو فرض نفسيهما مهما تكن الصعوبات والعوائق". [7]  

وعقب موت طفلته وانفصاله عن زوجته زهراء يغادر بلاده بدعوة من ابن خاله منهل، الذي يهيئ له عملًا في مطعم يمتلكه في برشلونة، بإسبانيا، يقع في أحد أزقة حيّ (الرابال). وهناك، في برشلونة، يبدأ سلسلة لا تنتهي من العلاقات العميقة والعابرة مع مجموعة كبيرة من النساء اللائي يقابلهن في المطعم الذي يعمل فيه، أو في البار المقابل له، أو مع تلك الشقراء الروسية، دوشكا، التي سحرته بجمالها. يقابلها في أثناء تلقي كورس لغة للمهاجرين، تقدّمه إحدى الجمعيات الثقافية بدعم من البلدية، صحبته كوثر التي كانت تعلمه الكلمات والعبارات بالإسبانية والكاتالانية، للتسجيل في الكورس. يصف الراوي دوشكا قائلًا: "هناك رأيت أجمل امرأة في حياتي، شابة روسية شقراء تجلس إلى جواري". [8] وبعدها يقول: "طوال أشهر كورس اللغة، كانت دوشكا تجلس قربي، بيني وبين النافذة، ومشهد انعكاس النور على شَعرها الذهبي وبشرتها الرقيقة البَضّة يسحرني، صرت أعرف حتى تفاصيل الزغب الخفيف على ذراعيها، وحين يكون النور أشعة شمس، أراه يتخلل لحمها لفرط شفافيته ... رشيقة، أنيقة، فاتنة القوام، أود لو احتضنها، أطوّق خصرها، وأشدّها إليّ؛ لذا أقول ــــ بلا تردد ــــ بأنني لم أرَ امرأة أجمل في حياتي، وأكاد أجزم بأنني لن أرى بجمالها مستقبلًا أبدًا". [9]

وما يلفت انتباه القارئ والناقد أن الكاتب يُبدي اهتمامًا شديدًا بجمال الفتيات، والنساء، يصف وجوههن، وبشرتهن، وتسريحة شعورهن، وقوامهن، وأثداءهن، وأردافهن، وعطورهن، وفساتينهن، وقمصانهن، ونبرات أصواتهن، وإيماءاتهن، يتمنى دومًا أن يضمهن إلى صدره، يشمهن، يقبلنهن، يعانقهن، يُسمعهن غزله، ولا يتردد عن كشف عواطفه المتأججة تجاههن، تلك العواطف إن لم تكن حبًا فهي، حتمًا، عواطف غريبة أو مجنونة، كما يقول بشأن افتتانه بالروسية الشقراء دوشكا، "شعوري تجاهها يشبه الحب، ولكنه ليس حبًا ... عاطفة غريبة أو حتى مجنونة، إلى الحد الذي تصوّرت فيه بأنني إن لم ألتحم بها عارية فلا يمكنني الإدعاء بأنني راضٍ عما عرفتُه من أجساد النساء في حياتي؛ لذا لا بد لي من نيلها بأيّ شكل كان، أن ألمسها، أضمّها، أشمّها، أقبّلها، ولو لمرة واحدة فقط، وإلا سأمضي حياتي وسأموت وفي داخلي رغبة حقيقية، أو بوصف أدق: غصّة أو حسرة". [10]

في الواقع، لا نحسب أن الراوي يجهل مصدر حزنه، إلا إنه يُحاول أن ينساه، أن يدفنه، مثلما دفن ابنته المسكينة وهي لم ترَ نور العالَم حتى ولو على مدى لحظة واحدة. وظلت ذكراها الأليمة غصًّة في قلبه، لا يسعها أن تخرج من داخله، أو دمعًة رفضت أن تسيل على خده وتخلّصه من ألم الفقدان، وهو الذي "لم يحقق حلمه الأول الذي أراده لحياته، مع إنه تمرّد على أبيه من أجل هذا الحلم"، كما يقول لمنهل الذي يخبره بأنه " يحزّ في نفسه أنه لن يجد الوقت لاختراع المزيد من الأحلام الجديدة". [11] ذلك أن منهل فتك به مرض السرطان، وصار يجرّده من حيويته، ومن "فرص مشاركته في الألاعيب البشرية"، لكنه يغدو حنونًا، سخيًا، صادقًا، وصريحًا، ويوزع ثروته على أقاربه، وحتى أنه يسجل حسابات بنكية بأسماء أطفال أمير. يقول الراوي بصدد الحفلة التي أقامها منهل لمناسبة عيد ميلاد أمير: "جمع كل أطفالي في برشلونة وأمهاتهم، وبعضهن جئن بصحبة أزواجهن وأصحابهن، ومنهنّ مَن كنتُ نسيتهن تمامًا، لكنني تذكرت وجوههن أثناء تبادل التحيات دون تذكر أسمائهن". [12]       

ولا يكتفي البطل بمغامراته الغرامية في إسبانيا وحدها، بل يكررّها وبحماسة وحميّة في كولومبيا عندما يذهب إلى هناك ويتعرّف على هاني المصري، وزوجته الكولومبية، ويسكن في (ريوسورو)، وسط الغابات الكثيفة، والوديان العميقة. وهناك أيضًا يهدي النساء أطفالًا كثيرين، اثنين منهما من آرارا، المرأة الأفريقية البدينة التي تعرف عليها في قرية (لابارّيغا/ الكرش)، المقامة على هضبة صغيرة، والمحاطة بالغابات الكثيفة والأودية. أخبرت آرارا أمير أنها من قرية بعيدة على ساحل المحيط الهادي، لكن الحب هو الذي جاء بها إلى هنا وأن حبيبها الذي تزوّجها كان من أصول أفريقية أيضًا. يطلب منها أمير أن تغني له أغنية من أغاني طفولتها ذات الإيقاع الأفريقي. تغني له بصوت شجيّ عذب. يجلسان متلاصقين على كومة تبن في زاوية الزريبة. وتتأجج الرغبة بين الاثنين، يحتضنها أمير، ويتعانقان، ويلتحمان. ويخبرنا لاحقًا أنه أنجب منها توأمًا، ذكرًا وأنثى، بلون القمح، بل بلون القهوة بالحليب. يسمي أمير وآرارا البنت "كاهوا" (قهوة)، والوَلَد "هاليب" (حليب). وظل أمير يتنقل بين القرى، ويبيع بضائعه، ويعاشر النساء، وفي الختام تظهر الرفيقة إيراسيما، المقاتلة التي لا تلبس سوى الثياب العسكرية، فتجتاح قلبه الذي "ظننت بأنه أصبح محصّنًا ومغلقًا تمامًا أمام العشق بعد حُبي لزهراء". [13] ومن جديد يصفها أمير حين يقابلها أول مرة، مستلقية في أرجوحة شبكية بمنزل صديقه هاني المصري. يصفها بكلمات ساحرة ومُعبّرة: "حين أزاحت الكتاب من أمام وجهها، ارتعد قلبي، انخلع من مكانه وسقط في هوّة عميقة، فلم أشهد في حياتي، بل ولم يكن يخطر على خيالي أبدًا، أن ثمة عينين بهذه الخُضرة الحادة في الكون، ولا حتى بين عيون القطط ذاتها ... اخضرار فاقع يشع ببريق أخاذ، كأشعة تخترق ما أمامها، أو هذا ما شعرتُ به، بريق عينيها النمريّ الأخضر اخترق صدري. قطع حبال قلبي وأسقَطَه". [14]

 وكما هو واضح من الاقتباسات الواردة أعلاه، لا يصف الراوي عشيقاته بكلمات عادية، مكررة، مبتذلة، ومستهلَكة بل يتفنن في اقتناص الكلمات، ورصفها جنبًا إلى جنب بحيث يدور بخلدنا أننا نقرأ قصيدة شعرية مليئة بالإيحاءات والدلالات التي تلامس أحاسيسنا، وتهيّج انفعالاتنا، وتجعل بعض فقرات الرواية قريبًة جدًا إلى الأدب الرومانسي الذي يكتظ بالبكاء والحنين والأحاسيس الرفيعة وما إلى ذلك. لا بل حتى أننا نغامر بالقول إن الرواية بمجملها قصيدة تمتزج فيها المدرستان الرومانسية والواقعية السحرية، التي قرأنا وعرفنا نماذج كثيرة منها، ومنها (كتاب الرمل) لبورخيس، حيث "يرسم القاص تفاصيله رسمًا موغلًا في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل فيه"، كما يكتب الدكتور سعد البازعي والدكتور ميجان الرويلي. [15]  قلنا (الواقعية السحرية) لأن بعض أحداث الرواية تبدو عصية على التصديق، وأقرب ما تكون إلى الخيال الجامح الذي أتاح للكاتب أن يمضي إلى أبعد حدّ كي يوظف كل خياله السردي في خلق عالم غريب ومدهش هو مزيج من الواقع والوهم، من الحلم والفنتازيا، والسحر والإيهام، ففي عالمنا المعاصر المعقد والملتبس والغامض لم تعد ثمة حدود بين الحقيقة والزيف، وبين الشيء ونقيضه، وهو ذا صاحب (حدائق الرئيس) يرسم لنا بطلًا يأخذنا لا إلى فضاء مغامراته الغرامية حسب بل إلى فضاء تجاربه الإنسانية، هو الذي صار يتبنى فلسفة أو وجهة نظر غريبة، أو حتى مجنونة تتعلّق بإنجاب الأطفال من دون تردد حالما تطلب منه النسوة أن يفعل ذلك، وطالما أنه مستعد لذلك عاطفيًا، ونفسيًا، وجسديًا، فـ"للنساء القدرة على جلب الحياة إلى عالمنا هذا. لولاهن ما كان بوسعنا أن نُوجد"، كما تقول الروائية الإيرانية ــــ البريطانية رابعة غفاري. [16] وهؤلاء النسوة هن اللواتي يخففن من حزن الراوي الذي مع إنه كان يحرص على تقاسمه مع الآخرين، ومحاولة تناسيه من خلال الانهماك في العمل، والسفر من إسبانيا إلى كولومبيا، والتنقل بين القرى في (ريوسورو)، ومواصلة التدخين والشرب والمرح والنكات، وأولًا وقبل كل شيء: معاشرة النساء. إلا إن هذا الحزن لم يفارقه تمامًا، لأن "الحزن، أيّ حزن، ما أن يحسه المرء، حتى يظل يلازمه دومًا ولن يفارقه قط"، كما تقول رابعة غفاري. [17] فالذكريات تهجم عليك، فجأًة، وليس بمقدورك أن تختار ماذا يتعين عليك أن تنساه. وهو لا يستطيع أن ينسى ذكرى وفاة طفلته أميرة الزهراء، ولا نسيان زوجته زهراء، التي أصبحت ممثلة مسرحية عراقية ذائعة الصيت، وباتت تشارك في المسلسلات التلفزيونية الرمضانية. لا يستطيع هو مهما حاول أن يدفن ذكرى ابنته التي حملها في علبة حذاء وصار يدور هنا وهناك، حائرًا مترددًا، يطعن الحزن قلبه بسكاكينه السامة، لا يعرف أين يدفن ثمرة حبه التي ذبلت حتى قبل أن تنضج، وقبل أن تكتحل عيني أمها الراقدة على سرير المستشفى برؤيتها، لأن أمير تصرف بتهور وعلى عجل ودفنها كيفما اتفق في مقبرة منسية لم يعد يتردد عليها أحد. كان يحسب أنه يستطيع أن يدفن تلك الذكريات القاسية، أو يتركها خلف ظهره، كما يقول، كي يستمر في العيش. لكنه لم ينجح في ذلك، وظلت المعارك تحتدم في داخله، وكم كانت ضاريًة، وموجعة تلك المعارك، من حيث أنها ظلت تلازمه طوال ما بقي من سنوات حياته. غير أن البطل ــــ الراوي كان يذعن على ما نزعم لعواطفه ونزواته مغمض العينين، مستسلمًا لإغراءات أجساد النساء ومفاتنهن. وعندما يقول له منهل قرب نهاية الرواية: "أنت محظوظ يا أمير، لم تضطر لعمل شيء لا تحبه، لم تجرِ كالوحش وراء المكاسب، لم تؤذِ أحدًا عن قصد، وليس لك أعداء مثلي". يرد عليه أمير: "ربما أكون محظوظًا، ولكن ثمة حزن عميق في داخلي أجهل    مصدره". [18]

والحق، إننا نكتشف غرابة السرد منذ الصفحات الأولى من الكتاب، وهذه الميزة نجدها على الدوام طوال رحلتنا مع هذه الرواية المفعمة بالأحاسيس والانفعالات والأفكار والتساؤلات وتعدد وجهات النظر إلى حدّ التناقض، والصراع الدائم بين الشخصيات التي تنتمي إلى جنسيات وثقافات ومدن وقرى مختلفة. يواصل المتلقي رحلته مع الراوي، ويتعرف على شخصية منهل (أو مانويل، كما يسميه الإسبان). هذه الشخصية المركبة، المثيرة للجدل، فتارة يظهر لنا محتالًا، يستغل الآخرين في مشاريعه الاقتصادية، ويتاجر بالعقاقير، ويتهرب من الرسوم الضريبية، وطورًا، رجلًا نبيلًا، حنونًا، صادقًا في حبه، بخاصة مع (انضباط)، شقيقة أمير، وإبنة عمته، كما أنه لا يبخس حقوق العاملين معه، ويوزع المال والهدايا على المحتاجين والمتسولين، والأطفال الذين أنجبهم أمير خارج نطاق الزواج، كما يوزعها على أمهاتهم.

كما لا يفوت المتلقي أن يكتشف جمال الوصف، وحيوية السرد وتدفقه السلس وتتابعه المنطقي، والمُقنِع، والحبكة المتقنة بحيث أنه يصعب عليك أن تجد ثغرات أو قفزات في المتن السردي، أو أن تكتشف فقرًة ما لا تنال إعجابك، ولا ثير خيالك، ولا تدفعك للتفكير في معانيها ودلالاتها. كما أن التشويق والترقب والغرابة كانت ميزات واضحة في اللعبة السردية التي مارسها صاحب (بنت دجلة)، ويكاد القارئ يلهث وراء الأحداث والمفاجآت كي يكتشف ما الذي سيحصل لاحقًا في الصفحات التالية.

ومما يجعل شعلة التشويق متقدة طوال رحلتنا في هذا الفضاء السردي هو تضمين معلومات كثيرة، جغرافية، وتاريخية، وسياسية، وثقافية، وأدبية، ومسرحية، وأفكار ووجهات نظر متنوعة، ومتناقضة، أي ما اعتدنا أن نسميه (تعددية الأصوات)، التي يعرّفها باختين قائلًا: "عددٌ كبير من الأصوات المستقلة وغير الممتزجة بعضها ببعض، تعدديةٌ حقيقية وأصيلة للأصوات، حيث أن كل صوت يحمل جزءًا كاملًا بذاته". فهنالك شخصيات متدّينة وأخرى عابثة وفوضوية لا تستجيب إلا لأهوائها ورغباتها الحسية، كما أن هناك شخصيات طيبة ومخادعة لا تتورع عن ارتكاب كل الأفعال من أجل حبها للمال والسلطة؛ ناهيك عن وصفات الأطعمة المصرية والإسبانية والكولومبية، وأنواع القهوة. وتدور نقاشات حول الموت، والحب، والحرية، والأبوة، والأمومة، والإخلاص للحب القديم، وذكريات الطفولة، والمسرات التي تتسلل من بين أصابعنا فيما نحن نعيش حياتنا مُذعنين لظروفنا، ومضطرين للتعامل مع أشخاص كان من المفترض التخلّي عنهم كي يكون بمقدورنا مواصلة حياتنا.

ومع أن الكاتب يسعى في نصه الروائي هذا كما فعل في نصوصه الأخرى إلى تجويد لغته والاستفادة التامة من خياله السردي الذي يجعلنا ننبهر بالتقلّبات التي تطرأ على حيوات أبطاله إلا إنه يسعى، ضمنًا، أيضًا، إلى تغيير قناعاتنا، ومسلّماتنا، وتنويرنا بأفكار ووجهات نظر ومعلومات جديدة، وقد تكون صادمة لبعض القراء المحافظين. وهنا نُشير إلى احترام البطل أمير للعلاقات المثلية بين اثنتين من عشيقاته، كما سنرى لاحقًا، وهذا هو ديدن معظم الكتاب والشعراء والفلاسفة الجادين. فالتمرد على قيم المجتمع، ومعتقداته، في عصر معين ومكان معين، ميزةٌ واضحة، ودائمة، تلازمهم، على الدوام. وهذا التمرد يقودهم دومًا إلى تصرفات ومواقف يستهجنها المجتمع، ويجعلهم يتبنون وجهات نظر تبدو غريبة، وغير مألوفة، وشاذة، ويصعب تقبّلها، غير أنه من خلال هذه الغرابة، وهذا التمرد، سواء أكان من خلال اللغة، والاستعارات، كما هو الحال عند آرثر رامبو، على سبيل المثال، أو من خلال الخيال السردي، كما هو الحال، في رواية كافكا (المسخ)، حين يجد بطلها جريجوري سامسا نفسَه وقد تحوّل إلى صرصار، تنبثق أنشودة الفكر، ويبرز النسق الذي يُعبّر عنه العمل الروائي.

أما بطل الرواية الذي كان يحمل معه تجاربه المريرة، وماضيه القاسي حيثما يمضي، وهو، في الحقيقة، رجل كثير الأسفار، تنقل في جغرافيا العالَم، في السهول والأودية والمدن الكبيرة والبلدات والقرى، وأطل من شرفات عالية على مناظر خلابة لمدن وقرى جميلة وآسرة، وفوق جغرافيا النساء بكل مفاتنهن وسحرهن الذي لم يستطع أن يقاومه، وقلّما كان قادرًا على كبح رغباته عندما يكون على مقربة منهن، وفي تماس معهن، أو بين أحضانهن؛ لمّا يجالسهن، ويشرب الخمر معهن، أو يراقصهن في بار ومرقص. لكنه في حقيقة الأمر ظل يدفع فاتورة الحزن الذي صادفه في سنوات عمره المبكرة (قسوة أبيه، فقدان الابنة المسكينة، الانفصال عن زوجته زهراء).

في حقيقة الأمر، بات بطل الرواية مجنونًا بمباهج الغرام والخوض في لعبة الحياة بلا خوف ولا تردد وبات يؤمن بمقولة القديس أوغستين، التي كان يرددها هاني المصري ـــ القبطي باستمرار على مَسمَعي صديقه العراقي: "السعادة هي أن تُسعِد الآخرين".

ومما يجدر الإشارة إليه إن هاني المصري يشبه أمير العراقي من حيث تنكر بلديهما لهما.  يقول له هاني: "إن الصدفة هي التي قادته إلى هنا، أو رغبته بالابتعاد إلى أقصى حدّ عن مصر التي أحبطت حلم حياته، أو أن ضياعه هو الذي قاده، ليجد نفسه هنا ... اتخذ هذا المكان، في أطراف البلدة وأقام فيه بيته وهذا المقهى المطعم البسيط، وبدأ بتقديم أكلات مصرية شعبية، تعلّم إعدادها منذ أن انتقل للدراسة في القاهرة.

يستقر أمير في تلك البلدة التي أقام فيها هاني. يتبادلان الحديث في شتى الأمور. يصف هاني تلك المنطقة "بأنها تشبه هامشًا بين الجنة والجحيم. تقع على الحدود بين القوى الثلاث المتصارعة، ولا أحد منها يسيطر عليها بالكامل: الحكومة، الثوار المسلّحون وتجّار المخدرات، وكأنهم متواطئون على اتخاذها (منطقة حرة) لتعاملاتهم، تجاراتهم، مفاوضاتهم، وصراعاتهم ... كثير من الرجال، المتعاملين مع إحدى هذه الجهات، يتم اختطافهم أو اغتيالهم؛ لذا تجد أكثر سكان ريوسورو والقرى حولها نساء". [19]

وعندما يقود هاني أمير إلى صالة منزله ويشير إلى طفل وطفلة كانا يلعبان هناك، مناديًا إياهما كي يسلّما عليه. "هذه ميريت، وهذا رمسيس، آخر العنقود".

يُخاطبه أمير: "كيف تقول بأنك خلاص، رميت مصر وراء ظهرك إلى الأبد، وها أنت تُطلق على أولادك أسماء مصرية".

يرد عليه هاني: "لا بأس يا أخ أمير، فالواحد منّا مهما زعل من بلده، وحتى لو كرهها ... يبقى شيءٌ منها في داخله، في دمه، شيء متجذر لا يعرف ما هو، ولا يستطيع   اقتلاعه". [20]

ونحن نحسب أن هذا هو الشيء هو الذي جعل أمير يقرر الرجوع إلى بلاده، في نهاية الرواية، عندما تحاول شقيقته انضباط أن تقنعه بالزواج من كوثر المغربية، طالما أن هذه الأخيرة تكن له الحب منذ أول لقائها به عند وصوله إلى برشلونه، كما أنها عرفت عنه كل شيء. تقول له انضباط: "هي ما تزال تحبك، وأنا على يقين من أنها ستقبلك كما أنت، بكامل ظروفك، ولا أظن بأن امرأة أخرى سترضى بالزواج منك، إذا ما عرفت كل الذي تعرفه عنك كوثر ... وهذا دليل آخر على حبها لك، والحب نعمة ورزق يا أمير". [21]

غير أن البطل ليس فردًا تافهًا، سخيفًا، لا ينتبه لمجريات حياته، وتقلّباتها. فهو يراجع ذاته باستمرار، ويؤنبها، أو يجلدها، إذا صح التعبير. وفي أحيان كثيرة يتأمل ما مرّ به وبشقيقته انضباط من أحداث. علاقاتهما بوالديهما وبالآخرين. تقول له شقيقته بأنه لا فرق تقريبًا في النتائج، أنتَ عصيتَ أبي فخسرت حياتك، وأنا أطعت أبي فخسرتُ حياتي. النتيجة تبدو واحدة، كما يُمكن أخذها على نحو مختلف، أو حتى تقبّل الأمر على أنه هكذا، وأن حياة الإنسان في مجملها هي سلسلة من التكيّف على تقبّل خساراته وصولًا إلى الخسارة النهائية: خسارة الحياة ذاتها. بشكل ما، إن طبيعة مواقفنا مع الخسارات هي التي تشكل حياتنا". [22]

وهكذا، يتبدى لنا عمق الأفكار والثيمات التي تناولها المؤلف في روايته هذه، ناهيك عن السرد المتماسك المتدفق بسلاسة والمطعّم بوصف جميل ومعلومات جغرافية كثيرة بحيث أننا لا نستطيع سوى أن ننبهر بغزارتها، ودقتها، وهي تكشف سعة إطلاعه، وحبه للسفر، ليس فوق أجساد النساء، هذه المرة، بل إلى أمكنة وقرى بعيدة، حيث يخبره صديقه المصري بعادات الطيور، وأسماء الأشجار، "كما يُحدثني عن كل ما يمران به من أماكن وصخور غريبة، وعمّا حاكه الناس حولها من أساطير، ومن أين جاءت أسماؤها الغريبة والمدهشة أحيانًا، وفي بعض القرى كان يروي لي عن أحداث تاريخية جرت فيها منذ أن كانت مأهولة بأهلها الأصليين من الهنود الحُمر، وأخرى جرت بعد وصول الإسبان، ومن بعدهم شتّى الجنسيات الغربية". [23] يعرّفه هاني على أناس كثيرين في القرى، وعلى أشجار وحيوانات أكثر في أثناء تنقلهما عبر القرى فيما هما يشقان طريقهما بغية بيع السلع: سحالي، أفاع، خنافس، فراشات، طيور، ديدان، حجارة، صخور، ورود، ثِمار، أشواك، أعشاب، عيون وجداول صغيرة. وهكذا ليس من باب المبالغة إذا ما قلنا إن بعض فصول هذا العمل الروائي تبدو أقرب إلى أدب الرحلات الذي كتب فيه كتاب كثيرون، بعضهم روائيون مشهورون ومنهم الهولندي سيس نوتبوم، والأميركي ﭘول بولز الذي دوّن كتابًا يحمل عنوان (رحلات: كتابات مختارة 1950 ـــ 1993)، وفي هذا الكتاب يحكي عن زيارته لطنجة المغربية، ولقاءاته بسكانها، وتعرّفه على عاداتهم وطقوسهم وديانتهم وطرائق عيشهم.

مارست الذكريات المؤلمة على البطل انتقامًا رهيبًا، وظلت أصداؤها تتردد في عقله وروحه بلا انقطاع، وكانت بمنزلة كابوس يؤرقه، ولم يستطع منه فكاكًا، ولعل تلك الذكريات المبرِّحة هي التي جعلته يغادر العراق ودفعته للاستجابة لجيشان رغباته المكبوتة والافتتان بسحر النساء اللواتي كان يُغريهن ويداعبهن ويطري جمالهن ورقتهن، أو هن اللائي يغوينه، ويدعونه إلى مخادعهن، علّه يجد بوعي أو من دون وعي منه ضالته وسلواه في تلك الساعات الغرامية التي يقضيها بين أحضانهن، ومن المحتمل أن يجد ذاته التي جرحتها وآلمتها تجاربُ ماضيه الحافل بالقسوة والرعب والفوضى التي تكالبت عليه كلّها. كان يشعر بالإثم وتأنيب الضمير ويحاول التخلّص منه بشتى الطرائق والسُبل على الرغم من أننا نجد أن تصرفاته وتعاملاته غير عقلانية، وغير متوازنة، وحتى متهورة، لكنه في كل تجاربه هذه كان يبحث عن معنى لحياته، وأفقًا مفتوحًا لمستقبله الذي لا يزال يجهله، أو لا يعرف على وجه الدقة الوجهة التي يأخذه إليها، على الرغم من ذكائه وحساسيته. فهو على الرغم من كل خبراته الحياتية لا يزال لا يعرف ردود أفعال الآخرين تجاه تصرفاته الغريبة، ومنها، على سبيل المثال، أن يدفن ابنته المسكينة. وكان بعضهم يصفه بالأنانية واللهاث وراء شهواته الحيوانية، غير أنه في دخيلة نفسه كان يحاول النجاة من أشباح ماضيه التي كادت تدمره، وكما لو أن مباهج الغرام في مخادع النساء تطهره من ذنوبه التي أحس بها عقب فشل حياته الزوجية، التي أجهضتها تصرفاته اللا عقلانية، وما انغماسه في الملذات الحسية سواء أدرك ذلك أم لم يدركه إلا محاولات مرهفة وهادفة إلى معرفة الذات التي لا يزال يجهل دوافعها، ومخاوفها، ورغباتها الواعية واللاواعية. وربما هي محاولات مستميتة للتهرب من مواجهة الذات المُثقلة بالهموم. وفي خاتمة الرواية يقول مع نفسه: إن كوثر معها حق حين أسمتني ذات يوم (ثور ضائع). آن لهم القبض عليه وربطه... بل ذبحه وتوزيع لحمه على الجميع بعد أن وزع حيامنه ولوثة متاهته على الجميع". [24]    

أما النساء، فهن، أيضًا، كن يذعن لشيطان الرغبة الذي كان يهزهن ويخرجهن من طورهن غالبًا، ويمنعهن من التصرف بعقلانية، وحتى أن بعضهن كن يرتبطن بعلاقة مثلية، كما هو الحال مع الروسية كاتيوشا والإسبانية إيبا، هاتان المرأتان كانتا تذعنان لتلك الرغبات المجنونة، الشاذة، لكنهما تنجبان منه أخيرًا، بعد أن ينام معهما وهما ملتحمتان في فراشهما، ويسيل لعاب لذتهما على جسد إحداهما الأخرى، مستسلمتين للفطرة التي كانت تجتاح جوانحهما منذ أن تعرفتا على بعضهما منذ بضعة أعوام. وكانت "مسألة المثلية الجنسية عندهما أصيلة وفطرية وطبيعية، وليست مجرد ردّة فعل أو عقدة من حادث ما، وأكدت لهما تفهمي لذلك واحترامي له". [25] 

أما أمير، بطل روايتنا هذه، منذ حادثة موت ابنته، يصبح مولعًا بالأحذية، وفي إحدى إجازاته الدورية بعد وفاتها يجد نفسه أمام محل ألبسة الأطفال في (الأعظمية)، المحل الذي وقفا أمامه سابقًا، ويُخيل إليه أنه هو وابنته (أميرة الزهراء) ، يُعجبهما الحذاء الوردي الصغير، ويبكيان، يشتري الحذاء، ويفكر أن يذهب ويضعه على قبرها، لكنه يعدل عن ذلك في منتصف الطريق. يقول الراوي: "خفتُ من رؤية قبرها، خفتُ ألاّ أجده، أن يكون قد اندثر لصغر حجمه، أو أن أحد الكلاب السائبة قد نبشه، خفت أن أسمع صوتها من تحت التراب، تعاتبني وتصرخ بي مثل أمها... صرتُ أحمل الحذاء الصغير في حقيبتي دائمًا، أتحسسه بكفي كثيرًا عندما أفكر بها، أقلّبه أمام ناظري وأتأمَّله، حتى حفظت أدق تفاصيله، ممضيًا أغلب أوقات الفراغ بالصمت والتدخين، ثم شرعت بتجريب حياكة وصناعة أحذية أطفال من خيوط الصوف وقماش الجوخ وقطع الجلد والكارتون ... أتقنت صناعتها، صرت أتفنن بأشكالها، أحببتُها، وجدتها تسليني فعلًا .. بل وأنظر إليها أحيانًا، مبينًا فضل الأحذية على الكثير من الأشياء والكائنات، وكيف أنها تحتملنا وتحمينا وتُجملنا وما إلى ذلك".[26]

وعندما تُهينه، وتبصق في وجهه واحدةٌ من بناتِه التي تخبرها أمها أنّ هذا الرجل الجالس إلى طاولة البار هو أبوها، وتقول له إنها تكرهه، تنتابه موجةٌ حزن طاغ، ويتمنى لو أن سيارًة تدهسه، تسحقه، وتعجن لحمه وعظامه. يزداد اختناقًا ويتمنى أن يغرق ويغيب عن العالَم. وتعاوده ذكرى ليلة لقائه الأول بالموت. وحتى بعد أن يهدأ تظل حمى حواراته الهادئة مع نفسه تحرق داخله: "تمضي الحياة بنا من دون توقف، ومع كل يوم يمرُّ نشعر بأن وجودنا فيها يقترب من نهايته، ونحن ما زلنا لا نفهم معنى وجودنا فيها. لم تكن حياتي سوى أبناء وأحذية. أبناء وأحذية ... وكلاهما للآخرين وليس لي". [27]

والحق، يغدو البطل شغوفًا بصنع الأحذية، يصنع الأحذية لزملائه الجنود في الجيش ولأطفالهم، ولاحقًا للأطفال الذين ينجبهم من النساء، أو حتى تلك الأحذية المخصصة للكبار، حيث يعلّم شقيقته انضباط كيفية صنعها أثناء فترة استراحته معها ومع أمه، كما يحوّلان نصف الصالون الأرضي في منزلهم ببرشلونة إلى ورشة لصناعة الأحذية الصغيرة، وتشاركهم كوثر المغربية والسائق أحيانًا في ذلك. وفي الحقيقة، يبدو كما لو أن الأحذية تغدو هاجسًا مُقلِقًا يسكن روحه، وعقله، وطوال صفحات الراوية يُعرّج الراوي على ذكر الأحذية، وتغدو جزءًا أساسيًا من تفكيره وتفكيره وانشغالاته واهتماماته اليومية، حالها حال النساء والتدخين والشرب والرقص، على الرغم من شساعة الحياة التي عاشها، وتنوّعها، هو الذي وسم الترحال والفوضى سني شبابه، غير أنه يفعل ذلك بمتعةٍ بالغة، ويقرر أن يعيش أيامه مستمتعًا بملذاتها، وحماقاتها، متجولًا في الماضي والحاضر على الدوام، متجنبًا التكرار، ومفسرًا ومعللًا أفعاله وأفعال الشخصيات الأخرى التي عاشت معه، وكان السرد يُدهشنا دومًا، لغرابته حينًا، ولدقة الأوصاف التي يستعملها، وعمق المدلولات الثقافية التي يزخر بها، وتنوّع الآراء ووجهات النظر التي تحملها الشخصيات الروائية، فضلًا عن الحوار الذكي واللغة الشعرية التي يستوعبها النص ويوليها اهتمامًا شديدًا، وفيها يضمّن الكاتب مفاهيمه، ومدلولاته، وإيحاءاته، فاتحًا أمام القارئ "أفق انتظار" لم يكن يخطر بباله، ويبدأ على الفور بمساءلة نفسه ما إذا يسرد عليه الراوي مجريات حياته أم أنه يكذب عليه، أو يُوهِمه، فهو لا يمتلك الاستعداد الفكري أو الأخلاقي لتقبل ما تذهب إليه الرواية من وجهات نظر، ومشاعر، وانفعالات، ويعترض على ما ورد في متنها من أحكام ووجهات نظر. غير أن المتلقي يجد نفسه على الرغم من ذلك منخرطًا في اللعبة السردية بفضل تلك المحسنات والصور البلاغية والسرد المتماسك والمترابط والمتسلسل، مع إن اللعبة السردية ذاتها حققت خرقًا في القواعد التي عرفها المتلقي وألفها وحفظها، ولا خيرَ في نص أدبي لا يخترق المألوف، ولا يشذ عن القواعد، ولا يسحر قارئه، ويصدم "أفق انتظاره". ولا جدوى من سرد عقيم لا يثير وجدان القارئ، أو يستفزه.  وما من كلمات تؤدي هذا المعنى أفضل مما ذكره عبد الفتاح كيليطو، حيث يقول: "إذا تعرّى السرد من الحكمة ومن العِبْرة ومن البديع فإنه يُرفَض باحتقار". [28]

أمير، على الرغم من نزواته وعبثه وفوضويته، ليس مخادعًا، ولا لعوبًا، ولا يلبس قناعًا، ولا يضلل عشيقاته بالكلام المعسول، أو بالوعود الكاذبة، أو بالهدايا الثمينة. هو رجل صادق مع نفسه ومع الآخرين، كما تكشف ذلك الصفحات الأخيرة من الرواية، حين يغدق هداياه وأمواله عليهن وعلى الأطفال الذين أنجبهم منهن. وهو لا يدافع عن نفسه كونه ارتكب إثمًا، ولا يبرر علاقاته الغرامية بأنها حماقات صبيانية أقدم عليها وهو الآن نادم عليها. لا، هو رجل مولع بالمسرح، وينتهز كل فرصة كي يُسعِد الأطفال، من خلال أداء مسرحيات مُرتَجلة، يخرج كيس الدمى ويشرع بتفكيك أطرافها كي يصنع الدمى. ومنها تلك الدمية التي يصفها بقوله: "أكبر وأجمل دمية لفارسة بعينين خضراوين وترتدي الأخضر الزيتوني، وفي الوقت نفسه أواصل الحديث المسرحي بصوت عالٍ، مستجيبًا بسرعة لتبلور الشخصية والمسرحية وأحداثها في ذهني، شاعرًا بلذة لحظات الإلهام الإبداعي التي أعرفها حين تنتابني وتنسيني نفسي والعالَم كله من حولي". [29]

تسأله المقاتلة إيراسيما: "ماذا تفعل هنا؟" فيرد عليها قائلًا: "أنا رحَّالة، بائع، ممثل، أو مهرِّج متجول"،[30]. وفي سياق الحوار بينهما في أول لقاء لهما، تقول له صاحبة العينين الخضراوين عندما يسألها عما قاله حدسها عنه: "قال بأنكَ إنسان نقي وسط عالَم ملوّث، وإنك مجروح وحزين في داخلك، تائه مستسلم لقدَرك، وأنت مليء بالمحبة والشوق والحنان الذي لا تعرف أو تخاف التعبير عنه". [31] والحق، كلمات إيراسيما، آخر العشيقات اللاتي صادفهن في حياته، هي أصدقُ الكلمات التي قيلت بحقه، وحتى أنه يستغرب كيف عرفت كل هذا عنه.

لم تقل له إيراسيما إنه "عاشق مُتيّم" بل قالت له "أنت مليء بالمحبة والشوق والحنان الذي لا تعرف أو تخاف التعبير عنه". أجل، فأمير يشعر أن ثمةَ شيئًا ناقصًا في حياته، وهذا الشيء يرغب في معرفته أو امتلاكه ولا يستطيع التعبير عنه. ربما لأنه مبهم ومعقد، ولا يزال يبذل قصارى جهده كي يعرفه ويكتشفه، والرواية لن تكون رواية إن لم تكشف لنا عن شيء مجهول. ولن تكون رواية بوليفونية إن لم يسبر الروائي غور شخصياته الروائية، ويعالجها بعمق وتبصر، يكشف همومها الوجودية، وآمالها وطموحاتها ومخاوفها وكوابيسها وأفراحها وعذاباتها في ليالي الشك والأرق والتشتت الذهني في هذا العصر الزاخر بالتناقضات والملابسات في خضم مستجدات الواقع الذي تمخضت عنه تحولات القرنين العشرين والواحد والعشرين، حيث يزداد اتساعًا الخندق بين الفقراء والأغنياء، وبفضل التكنولوجيا والإنتاج الواسع يتحوّل المجتمع البشري إلى مجتمع استهلاكي لا يعبأ بتزايد النفايات الإلكترونية وسواها التي أصبحت عبئًا ثقيلًا على البشر والبيئة على السواء.

الوقت الذي عاشه أمير مع المقاتلة إيراسيما مر سريعًا. يخاطب نفسه أنه أخيرًا وجد جنته التي يُريدها، من حيث المكان والزمان والرفقة. ويقول، أيضًا، " كانت بهجتها بحملها الثاني لا توصف، واتفقنا أن تترك لي أنا تسميته هذه المرة، وفي بعض حواراتنا، كنتُ أقول لها بأن المزيد من الإنجاب هو انتصار للحياة على الموت، وأن مجرد بقاء الطيبين، الخيِّرين، البسطاء، المسالمين وتكاثرهم هو انتصار على أقليّة الأثرياء الجشعين". فترد عليه: "على العكس، علينا مواصلة الكفاح كي نهيئ لأبنائنا عالَمًا أفضل من هذا الذي نعيش فيه ...". [32] ويمضي قائلًا: "بل وتشطح أحيانًا في خيالها وأحلامها، فتقترح عليّ أن نذهب إلى البلدان العربية أيضًا، ونؤسس لحركات ثورية مناضلة ضد الإمبريالية وعملائها هناك". [33]

 وهو ذا الراوي يقول عن إيراسيما أو (خلاصة العسل)، كما هو معنى اسمها، بعد أن يصفها وهي تخرج للتمشي تحت المطر، وتصعد إلى سطح الدار وترقص هناك ... تُفرد ذراعيها وترقص، وترقص وكأنها تطير: "لكنها تغضب مني، حين أقول عند ذكرها جيفارا، بأنني لا أستطيع حب أي إنسان يقتل إنسانًا آخر تحت أي تبرير، فتطيل النقاش قائلًة بأن التصدّي للقاتل المتوّحش كالرأسمالية والإمبريالية لا يكون بالورود والفن والمسرحيات ..." وأن نضال جيفارا كان "يتسم بأممية إنسانية وليست محلية، وبأن تنظيمها يعتبر الظلم الامبريالي الواقع على البلدان العربية واللاتينية واحدًا، وأن قوى التوحُّش العالمي صنفتها ووضعتها في كيس واحد، اسمته "العالَم الثالث"، ودعمت الديكتاتوريات فيه، ونهبت ـــ وما تزال تنهب ـــ كل خيراتنا". [34]   

وبما أن الكاتب مرآة عصره كشف لنا الراوي من خلال المتن السردي ومن خلال شخصيات الرواية أنها تنتمي إلى جنسيات وأقوام وأعراق وديانات مختلفة، فهناك دوشكا الروسية، وآرارا الأفريقية، وكوثر المغربية، وبالوما وكارمن الإسبانيتان، وإيراسيما الكولومبية، والممثلة المسرحية الإيروتيكية الأفغانية الطويلة، وهاني المصري، وزهراء وانضباط والدكتور ياسين، وهؤلاء يحملون الجنسية العراقية، على سبيل المثال. كشف لنا أن الهوية شيء متحرك وأن في وحدة الشخص المفرد تكمن عناصر متعددة، متضادات، تناقضات. وهذه العناصر تلتحم بعضها ببعض، ولا يُمكن فصل أحدها عن الآخر. أي بمعنى، أن الفرد يشعر بأنه "ضيف وليس مالكًا لعالمه الخاص أو لهويته الخاصة"، كما يقول كلاوديو ماغريس. فالفرد، أيّ فرد في عالمنا المعاصر، يحمل هويات متعددة، ويخضع لها، حيث ينتمي هو إلى وطن وقومية وديانة وعقيدة وقبيلة تختلف عن تلك التي ينتمي إليها شخص آخر يُقيم في البلد نفسه أو سواه. هذه الهويات المتعددة تشكل الهوية الإنسانية الشاملة وتخلق جوًا من التفاهم الإنساني حيث تجعل المرء يشعر انه ينتمي إلى حضارة تفرض الحب العميق للوطن الأم وفي الوقت نفسه تفرض احترامًا وحبًا للوطن الإنساني الأوسع، أو بمعنى آخر الجنس البشري. والمرء لا يملك سوى الاعتراف بأن كينونته قد تشكّلت من عناصر عديدة ولا بد لها أن تمتص جميع القيم والمبادئ الإنسانية التي تتجاوز الحدود الضيّقة، وهنا نعني الحدود القومية والعِرقية والدينية والمذهبية. هذا كي يستطيع المرء أن يعيش بسلام وطمأنينة، وهذا الشعور بالتسامح والانسجام مع سواه من البشر يقوده للإيمان بضرورة أن تتوحد الإنسانية، من أجل أن تنهض بحياتها، وترسم مستقبلها المشرق الخالي من البؤس والفاقة والصراعات الطبقية والقومية والعِرقية، والمركزيات التي هيمنت على العالَم طوال قرون عديدة.

ومن خلال متن الرواية نستشف أن الكاتب تمكن من تجاوز هذه الحدود، فرسم لنا شخصيات فريدة، ذوات انتماءات شتى، لم تكن تتحلى بالحقد أو العداوة تجاه إحداها الأخرى، بل على العكس كانت تمتاز بالحس الكوني، الإنساني، الخالي من العنصرية والشوفينية؛ تبذل قصارى جهودها كي تخرج للقاء الثقافات الأخرى والقوميات الأخرى؛ تنشد التلاقح الثقافي، والتفاهم والانسجام والألفة. فهذا هاني المصري يخترع وصفات طعام هي مزيج من وصفات طعام مصرية وكولومبية، وهو يعد الحلويات، المهلبية، البقلاوة، والكنافة والبسبوسة. وبات أمير يؤمن بمقولة القديس أوغسطين، وهو الذي تأثر بالدكتور ياسين، أستاذه في كلية الفنون الجميلة، في بداية حياته، وصار "يقلّد طريقته المتمردة، المتنوعة والفريدة، في اختيار توليفات ملابسه، والسلسلة الفضية كبيرة الحلقات في عنقه، والأخرى في رسغه"، [35]. كما يقول عنه لاحقًا: “كان غربياً حديثًا يعيش في بقعة شرقية تتمسّك بالماضي؛ لذا شعرنا به كنسمة هواء تدخل علينا في حجرة خانقة، أحبَّنا وأحببناه.. وحتى صرنا نناديه أحيانًا، فيما بيننا بـ"سينو"، التسمية التي أخبرنا بأنهم ينادونه، أو يدلّعونه، بها هناك في الغرب، وأنه يحبها... ولشدة إعجابنا به كنا نتقبّل، بل نتشرّب ونتبنى كل آرائه وأقواله وسلوكياته" [36]. وهكذا، ليس من العجب أن يتشرّب الراوي، تلك الآراء المتعلقة بالنساء المثليات، على سبيل المثال، متجاوزًا بذلك قيمه، وإرثه ومعتقداته السابقة، وتمكن من اجتثاث تلك الجذور التي تشده إلى الماضي، وتحبسه في نطاق ضيق من التعنت وضيق الأفق، تمنعه من التعامل مع مجتمعات أكثر انفتاحًا وتقبًلًا للآخر، والانصهار فيها واحترام عاداتها وتقاليدها وطقوسها ومعتقداتها وخصوصياتها ولغاتها. وهكذا على أنقاض عالَمه القديم شيّد له عالَمًا جديدًا، واختار طريقة حياة وفلسفة جديدتين أراد أن تكون هذه كلّها بديلًا عن سابقاتها. ولهذا ليس من المستغرب أن يلجأ الراوي للخلاعة في وصف علاقته الجنسية مع عشيقتيه المثليتين. فالرواية، أي رواية معاصرة تتعامل مع شخصياتها سواء أكانت سوية أو لا، أي بمعنى تضعها في مستوى واحد، وهنا تكمن وظيفتها، وعظمتها، ولا بد أن تتناول كل شيء. وحتى الأشياء المستحيلة يمكن تحويلها إلى ممكنة، عبر السرد الروائي كما يقول فيليب سولير. وبذلك يتمكن الكاتب من تجديد أسلوبه الروائي، وعالَمه، الذي يصنعه من الواقع والحلم والتاريخ والذكريات. وعبر عملية الكتابة يكتشف صوته الخاص، وهويته الخاصة، منصتًا في الوقت نفسه لأصوات الآخرين التي تتردد أصداؤها في عقله وروحه.

وكما يقول أمين معلوف: "يبدو لي أن "ريح" العولمة قد تقودنا بالفعل نحو الأسوأ، ولكنها قد تقودنا كذلك نحو الأفضل. فإذا كانت وسائل الاتصال الحديثة التي تقربنا أسرع مما ينبغي من بعضنا البعض، تحملنا على الاستجابة، من خلال تأكيد اختلافاتنا، فهي تجعلنا كذلك نعي مصيرنا المشترك". ويضيف قائلًا: "إن التطور الراهن قد يساعد، في المدى البعيد، على بروز مقاربة جديدة لمفهوم الهوية،، هوية ينظر إليها كحصيلة لكافة انتماءاتنا، ويكتسب ضمنها الانتماء إلى الجماعة البشرية المزيد من الأهمية إلى أن تصبح يومًا الانتماء الأساسي، دون أن تلغي بالضرورة انتماءاتنا الخاصة المتعددة".[37] ولهذا ظلت كل شخصية من شخصيات الرواية تحترم استقلالية الشخصيات الأخرى، وانتماءاتها، وحرية معتقداتها، وطقوسها، وطريقة عيشها، وسلوكياتها، من دون أن تسخر إحداها من الأخرى، أو تتدخل في شؤونها. وهنا نشير إلى احترام بطل الرواية أمير لمعتقدات ثريا وانضباط، وتدينهما، وحرصهما على أداء الصلاة والعبادة. وفي هذا السياق يقول هاني المصري: "أنظر إلينا أنا وأنت، ها نحن بعيدان عن والدَيْنا منذ سنين، وعالمنا اليوم يختلف عن زمن آبائنا مثلما سيختلف زمن أبنائنا عن زمننا، حيث تتبدّل المفاهيم والقيم، ويُصبح ما كان غريبًا ومستهجنًا، بل وجريمة يتمّ العقاب عليها بالأمس ــــ شيئًا مألوفًا وعاديًا، بل ومرغوبًا. أخلاقيات عصرنا هي لا أخلاقيات ... ما هو مُحرّم عند قوم، مُحلَّل ومُستحبٌّ عند قوم آخرين؛ لذا فمن الأخلاقي ألا نحكم على أخلاق الآخرين وفق أخلاقيتنا، وإنما نحترم سلوك الآخر المختلِف، بشرط ألا يكون مضرًّا بإنسان". [38]

ويقول الراوي بشأن صديقه المصري: "على الرغم من أنه كان يطلق تساؤلاته تلك بشكل تمثيلي وبما يشبه المزاح، إلا إن فيها صدقًا شعرنا أنه يلامس أعماقنا، فانتابنا الحس الوجودي الذي لا بدّ وأن يمر به كل إنسان في لحظةٍ ما. شعرنا لبرهة بأننا تائهان في عالم شاسع وغريب، شعرنا بغربة حقيقية في أرواحنا وكأننا ذرَّتا تراب في عاصفة". [39]

ويقول منهل عن الموت بعد أن فتك به مرض السرطان وتساقط شعره بعد أن شرع يأخذ جرعات الكيمياوي الحارقة: "إنه لشيء مؤسف حقًّا أن يموت شخص مثلي، فهم لعبة الحياة جيدًا وأجاد لعبها.. آه، الموت هو معضلتنا الكبرى، ومشكلتنا الوحيدة التي لم نجد لها حلًا ... أنا وإن كنت غير متدّين إلا إن لديّ تصورًا بأن الله لن يعاقبني، وإنما سيقيّمني حقّ قيمتي ... آمل ألاّ تكون مثلهم يا أمير، وأن تتحدث معي لاحقًا عن الموت". [40]

ألم تكن هذه الآراء التي أفصح عنها هاني المصري، وتلك التي أفصح عنها منهل، وكوثر، وانضباط، وإيراسيما، تجسيدًا حيًّا لبوليفونية الأصوات، واستقلاليتها، وتعدد انتماءاتها، وتوجهاتنا الفكرية والسياسية. ذلك أننا عبر السرد المتتابع والمتماسك نكتشف أن معظم الشخصيات الروائية (وهي تنتمي إلى جنسيات وقوميات وديانات مختلفة) كانت تعاني من أزمة هويّة عميقة. وهذه الأزمة سببها أنه "في داخل كل إنسان، تلتقي انتماءات متعددة تتصارع في ما بينها، وترغمه على القيام بخيارات مؤلمة" [41]. ومثل هذه الخيارات عاشتها شخصيات (أبناء وأحذية) بكل تفاصيل وإرهاصات التجارب التي اضطرت لخوضها طوعًا أو كرهًا. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش



[1] محسن الرملي ، (أبناء وأحذية)، (دار المدى، 2018) ، ص 7.

[2] م. س. ، ص 87.

[3] صوفي ماكنتوش، رواية (التذكرة الزرقاء) ، ترجمة علي عبد الأمير صالح، (دار المدى، 2023)، ص 29 – 30. 

[4] خالد حسيني، رواية (ألف شمس مشرقة)، ترجمة مها مسعود، دار (دال)، ط1، دمشق 2010: 99.

[5] (أبناء وأحذية)، م. س. : 10.

[6] (أبناء وأحذية)، م. س. : 11.

[7] (أبناء وأحذية)، م. س. : 20.

[8] (أبناء وأحذية)، م. س.: 69.

[9] (أبناء وأحذية)، م. س. : 77.

[10] (أبناء وأحذية)، م. س.: 78.

[11] (أبناء وأحذية)، م. س.: 180.

[12](أبناء وأحذية)، م. س. : 185.

[13] (أبناء وأحذية)، م. س.،: 135.

[14] (أبناء وأحذية)، م. س.، : 136.

[15] دليل الناقد الأدبي، د.ميجان الرويلي ود. سعد البازعي ، المركز الثقافي العربي، ط5، 2007، الدار البيضاء، بيروت : 348 .

[16] رابعة غفاري، رواية (أن تُبقي الشمس حية)، (دار المدى)، ط1، بيروت  2022: 133.

[17] (أبناء وأحذية)، م. س. :81.

[18] (أبناء وأحذية) ، م. س. : 180.

[19] (أبناء وأحذية)، م. س. : 103.

[20] (أبناء وأحذية)، م. س. : 102.

[21] (أبناء وأحذية)، م. س. : 194.

[22](أبناء وأحذية)، م. س. :179.

[23] (أبناء وأحذية)، م. س. : 116.

[24] (أبناء وأحذية)، م. س. : 179.

[25] (أبناء وأحذية)، م. س.: 79.

[26](أبناء وأحذية)، م. س. : 59.

[27] (أبناء وأحذية)، م. س. : 168.

[28]  (الأدب والغرابة)، عبد الفتاح كيليطو، طبعة ثالثة منقحة، دار (المتوسط)، 2022، ص 35.

[29] (أبناء وأحذية)، م. س. :142.

[30] (أبناء وأحذية)، م. س.:142.

[31] (أبناء وأحذية)، م. س.: 143.

[32] (أبناء وأحذية)، م. س.: 152.

[33] (أبناء وأحذية)، م. س. :152.

[34] (أبناء وأحذية)، م. س.:150.

[35] (أبناء وأحذية)، م.. س.:13.

[36] (أبناء وأحذية)، م. س.: 21.

[37] أمين معلوف، كتاب (الهويّات القاتلة) ، دار الفارابي، ط2، 2011: 142 – 143.

[38] (أبناء وأحذية)،م. س.:121 – 122.

[39] (أبناء وأحذية)،م. س.:122.

[40] (أبناء وأحذية)، م. س.: 168.

[41] (أبناء وأحذية)، م. س. : 11.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر هذا الفصل في كتاب (شخوص وأمكنة وأفكار.. قراءات نقدية في السرد العراقي المعاصر)، علي عبد الأمير صالح، صادر عن دار الشؤون الثقافية العامة 2024 بغداد