حوار
محسن الرملي: جيل التسعينات
العراقي عايش حروباً وديكتاتورية وهجرة
أجراه: أحمد مجدي همّام
يعيش الكاتب
العراقي محسن الرملي في العاصمة الإسبانية مدريد، ويكتب باللغتين العربية
والإسبانية، إلا أن جلّ نتاجه الكتابي والأدبي مرتبط بالعربية. ينتسب الرملي إلى
جيل التسعينات، وهو شقيق الكاتب العراقي الراحل حسن مطلك الذي أُعدِم في عهد صدام
حسين بتهمة شروعه في قلب نظام الحكم. ربما كان إعدام مطلك، مضافاً إلى الحروب
العراقية في إيران والكويت، الركيزة الأساسية التي شكّلت وعي محسن الرملي. ثم جاء
إتقانه اللغة الإسبانية ليفتح له أفقاً واسعاً، ويرفد هذا التكوين بدفق إضافي من
الفنون والآداب بلغة أخرى.
للرملي إصدارات عدّة بين الرواية والقصة والشعر
والترجمة والسيناريو، منها روايات «تمر الأصابع»، و«الفتيت المبعثر» و «حدائق
الرئيس»، ومن المجاميع القصصية: «هدية القرن القادم»، و«برتقالات بغداد وحب صيني».
هنا حوارٌ معه.
> رصدت 50 سنة دموية في العراق، بين ويلات الحرب
والأسر في إيران، إلى طغيان نظام صدام حسين واستبداده، وصولاً إلى الغزو
الأميركي... هل كتبت «حدائق الرئيس» لتوثّق الجحيم العراقي؟
- كتبتها للإجابة عن سؤال كان يوجه إليَّ دائماً بعد أي
نشاط أقدمه في أي بلد أجنبي، وهو: لماذا يحدث في العراق هذا الذي يحدث؟ وعن سؤال
كان يوجَّه إليَّ في البلدان العربية كافة، وهو: لماذا تكرهون صدام حسين؟ لذا،
حاولت استعراض تاريخ العراق المعاصر منذ حرب 48 وصولاً إلى الاجتياح الأميركي من
خلال تصوير ما حدث للناس البسطاء، وكيف عبثت الأحداث بمصائرهم، وفي ذلك أيضاً نية
إطلاع الأجيال العراقية الجديدة التي تعاني الآن، على بعض ما عاناه أسلافها وكيف
حدث كل هذا الخراب الذي وجدت نفسها مولودة وسطه. أردتُ أن أكتب عملاً يقول أقصى ما
يمكن عن أوجاع العراقيين في العقود الأخيرة، ثم ألتفت بعد ذلك لكتابة أعمال عن
تجاربي الجديدة خارج العراق، ولكن رغم ذلك ما زلت مصاباً بداء يؤلمني في كل لحظة،
اسمه العراق.
> يبدو أن تأثير إعدام شقيقك عام 1990 ندبة لن تندمل
أبداً... هل قصدت أن تمرر حكايته في شكل غير مباشر في روايتك الأخيرة؟
- نعم، وقد جعلته هو المحرك الرئيسي لشخصيتيها
الرئيسيتين مستنداً إلى جزء من سيرتي الشخصية، لأنه، هو الدافع الحقيقي لي في
حياتي كي أكون كاتباً، وربما لولاه ولولا فاجعة مقتله التي طعنت روحي في الصميم،
لما كتبت، وكنت سأمتهن مهنة أخرى غير الكتابة، أي في شكل ما، صرتُ كاتباً كي أحقق
له حلمه هو وكي أقول أنه هو الكاتب الحقيقي وليس أنا. حسن مطلك كان يعيش ويتنفس
أدباً في كل لحظة، يعيش في الأدب ومن أجل الأدب، كان يبدو كأنه شخصية أدبية خارجة
من بطون الكتب وجدت نفسها في واقع غريب عنها. لذا، غادر هذا الواقع سريعاً وبصورة
أدبية أيضاً، إلى الحد الذي كان طلبه الأخير من المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام
شنقاً هو أن يصحح قرار حكمها لغوياً.
> تبدو مسألة الهوية بالنسبة إلى المهاجر العراقي في
أوروبا سؤالك الرئيسي في «تمر الأصابع»، إلى أين وصلت بخصوص إجابتك عن سؤال
الهوية، وأنت كما تقول مزيج عراقي إسباني؟
- انتهيت منه خلال كتابة (تمر الأصابع) وبعدها، وصرت
أرى الآن أنه قد قيل وكتب عن (الهوية) و(العولمة) أكثر مما يجب وأكثر مما يستحقان
وأن فيهما الكثير من الإيهام واللغو ويجيرهما كل شخص على هواه وأنهما ملغومان
بالعنصرية والأنانية والتضييق على إنسانية الإنسان. لقد تصالحت مع نفسي بعد كتابتي
(تمر الأصابع) ولم تعد تشغلني مسألة كم فيّ من هذه الثقافة أو تلك أو قضية الحفاظ
على «هوية» جماعة ما، لأن ما هو عميق وأصيل وصادق لا خوف عليه من انفتاح أو عولمة.
أما ما هو ليس كذلك فمن العبث أن أستميت للمحافظة عليه ومن الأفضل أن أترك لرياح
حركة الحياة أن تكنسه.
> تتحدث عن افتقاد الرواية العربية للاشتغال على
التخييل والفانتازيا، بينما نرى أن غالبية رواياتك منغمسة في وحل الواقع، كيف ترى
ذلك؟
- هذه إحدى غُصَّاتي وحسراتي في الكتابة فعلاً، فكم
أتمنى أن تهدأ أحداث الواقع قليلاً كي نلتفت إلى الخيال والحلم والابتكار، لأنها
جزء لا يتجزأ من إنسانية الإنسان، بل إن الخيال هو الذي يميز هذا الكائن عما سواه
والخيال هو الذي يجعل الإنسان أجمل وأطيب وأحَن وأكثر إنسانية. أما الواقع فيحدده،
يحصره، يقمعه ويحوله إلى مجرد مادة أخرى متحركة اضطرارياً وسط كون لا حدود له من
مواد أخرى. وعلى صعيد الأدب، كنا نحن في الشرق وفي المنطقة العربية مصدراً من
مصادر الخيال والبهجة والفانتازيا لبقية الثقافات وما زالت مسحورة بألف ليلة وليلة
ورسالة الغفران وغيرها، أما الآن، فماذا سنقدم لغيرنا إذا ما وصفنا واقعاً مللنا
حتى نحن أنفسنا من بؤسه؟
> تتقافز بين أشكال كتابية عدة، كيف ترى هذه الخفة
في التعامل مع القوالب؟ وهل هناك لون منها أقرب إلى قلبك؟
- ربما أبدو متقافزاً أو راقصاً، ولكن في النهاية، أنا
أتحرك في البقعة والميدان ذاته، ألا وهو الأدب. كلها أشكال كتابية وأنا كاتب،
والفكرة أو الموضوع هو الذي يفرض أو يختار الشكل الأنسب له. وكقارئ، الأقرب إلى
نفسي هو الشعر والفلسفة، أما ككاتب فأقربها إلى نفسي هو السرد، ومنه الرواية على
وجه التحديد.
> وماذا عن الترجمة بين العربية والإسبانية؟ هل
ترفدك بالمزيد أم تقتص من وقت الكتابة؟
- إنها تفعل بي هذين الفعلين معاً، ترفدني وتعلمني
الكثير جداً من حيث الاشتغال الكتابي والتركيب والصياغة اللغوية وفي الوقت نفسه،
تقتص من وقتي الذي أتمنى تكريسه للكتابة ولمشروعي الشخصي أكثر. لكنني أرى أن
الترجمة فريضة على كل عارف بلغة أخرى، ولو ترجَم كل عربي يعرف لغة أخرى كتاباً
واحداً في اختصاصه من تلك اللغة، لأصبحت حالنا وحال ثقافتنا على غير ما هي عليه
الآن تماماً.
> وصلت رواياتك إلى قوائم مسابقة البوكر، وسبق أن
فزت بجوائز عربية وغربية، كيف ترى قيمة الجائزة للكاتب؟ وهل ثمة فروق كبرى بين
الجوائز العربية والأوروبية؟
- عموماً، أنا مع الجوائز في كل أشكالها وأنواعها،
ومهما كثرت أرَها قليلة، فكل إنسان يتمنى الحصول على مكافأة معينة على جهده وعمله
ولو كانت مجرد كلمة شكر أو اعتراف وسط هذا الكم الهائل من المحبطات والمثبطات
وخيبات الآمال التي يتلقاها يومياً. بول أوستر بعظمته، جاء، على حسابه الخاص، إلى
قرية في إسبانيا لاستلام جائزة اخترعتها مجموعة صغيرة من القراء في تلك القرية،
وما هذه الجائزة إلا عبارة عن ورقة شكر مطبوعة على الكومبيوتر. أما بالنسبة إلى
الفروق بين الجوائز العربية وغيرها، فلا أعتقد أنها كبيرة لأن الجوائز كافة في
العالم وعبر التاريخ تتأثر أو تخضع لاعتبارات معينة في ظروف معينة ولذائقة مجموعة
أفراد محكمين وتقويمها.
> تعمل في تنسيق مهرجانات وملتقيات أدبية عدة بين
إسبانيا وأميركا اللاتينية، كيف تلخص تجربتك وملاحظاتك في هذا الشأن؟
- إنها من التجارب الغنية بالنسبة لي، وأتمنى نقلها على
أوسع نطاق في عالمنا العربي، والخلاصة الأبرز منها هي أن الفعل الثقافي يمكن أن
يصنعه الأفراد والجماعات باستقلال تام عن الحكومات والمؤسسات، بينما في عالمنا
العربي عودونا أن المهرجانات هي دائماً حكومية وأننا لا يجب ولا نستطيع أن نقومها
من دون الحكومة، بينما في الحقيقة أن الفعل الثقافي هو فعل شعبي وفعل أفراد
وجماعات محبة للثقافة والفن والجمال ولا تحتاج إلى إمكانات ضخمة كما قد يتوهم
البعض وإنما فقط تحتاج إلى إرادة وحب حقيقيين.
> نشرت كتاباتك في الأردن ومصر والعراق والجزائر...
كيف ترى سوق النشر العربية؟
- إنها أفضل حالاً من الكثير من أسواق النشر التي عرفتها
في بلدان أخرى غير عربية، والنشر الآن مزدهر في العالم العربي وثمة سوق واسعة
ومتنوعة وهناك حركة قراءة متصاعدة، بخاصة من الشباب، إلا أن النشر عندنا ما زال في
حاجة إلى المزيد من تحسين أدائه المهني من حيث جودة التحرير والطبع والترويج
والحقوق القانونية والتوزيع.
> هل تؤمن بالمجايلة الأدبية؟
- نعم، وكنت أتمنى لو أن لدينا حركة نقدية جادة تعتمد
هذا التصنيف الإجرائي الذي يضيء ويدرس سمات وأعمال كتّاب كل مرحلة ويغربلها في شكل
موضوعي وعلمي وليس مجرد إطلاق تسمية سهلة تعتمد على تسمية كل عقد من السنين،
والدليل أن المعنيين لم يستمروا بهذه التسميات بعد أن دخلنا الألفية الثالثة لمجرد
أن لفظها لا يبدو سهلاً، فلم يقولوا جيل الألفين أو جيل الألفين وعشرة بينما كانوا
يقولون ذلك منذ الأربعينات وحتى التسعينات ثم توقفوا فجأة، ولو أنهم اعتمدوا فعلاً
على قواعد تسمية الأجيال الأدبية المتعارف عليها في الثقافات العالمية، والتي
بدأتها إسبانيا منذ نهاية القرن التاسع العشر لما توقفوا الآن عن إطلاق تسمية
الأجيال، فالأجيال أو الجماعات المبدعة يمكن إيجاد تسميات أخرى لها غير تسميات
العقود الزمنية. أما بالنسبة لي، ووفق التصنيف السهل المجاني العربي الذي أشرت
إليه، فيعتبرونني من جيل التسعينات، والذي من سماته، عراقياً، أنه عايش حروباً
وحصاراً وديكتاتورية وهجرة، وأنه يتعامل مع اللغة على أنها وسيلة وليست هدفاً وأنه
التفت إلى الواقع المباشر بلا تهويمات واقترب من الناس وقرَّب الأدب إليهم أكثر
وليست لديه عُقَد ولا مشاحنات وحروب أدبية بين مبدعيه ولم يحرص أو يسعى لمناصب ولا
يقف طويلاً أمام عتبات المؤسسات ومنابر النشر والرقابات والنقاد كي يمنحوه إجازة
الاسم والقول. وغير ذلك الكثير، مما يُفترض دراسته وتأشيره وإضاءته لمصلحة المتلقي
والكاتب وعموم حركتنا الأدبية والثقافية.
> إلى أين يمضي الشرق الأوسط؟ والعراق تحديداً؟
- يمضي إلى مواجهة نفسه في شكلها الحقيقي للمرة الأولى
في التاريخ، مواجهة حقيقية عارية لا تغطيها الشعارات ولا النظريات ولا التغني ولا
الأكاذيب، مواجهة مع النفس ومع الآخر بلا أي تزييف ولا مجاملات ولا أي خداع للذات.
إنه ينزف الآن في شكل مؤلم جداً ولكن من بين هذا النزيف يخرج القيح المتراكم
والكراهية والتناقضات وغيرها. إنه في حالة تشريح سريري وإجراء عملية جراحية لذاته،
فإما أن يشفي نفسه أو ينتحر، وأنا أميل إلى التفاؤل رغم إيماني العميق بالتشاؤم
الوجودي، ذلك أنني أتمنى وأريد وأعمل لانتصار الحياة في النهاية وانتصار ما فيها
من خير وحق وجمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في صحيفة (الحياة)
العدد 19289 بتاريخ 26/1/2016م.
**ونشر في كتاب (مصنع الحكايات)، أحمد مجدي همام، دار (مداد)، دبي 2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق