عن (حدائق
الرئيس)
أدهم
عادل
في زمن بعيد مضى،
في غرفتي العلوية القديمة
كنت جالساً وبيدي رواية نسيت أسمها
لكاتب أمريكي نسيت اسمه.
قرأت فيها عبارة لم أنسها أبداً:
(عندما أنتهي من قراءة عمل جيد
أشعر بحزن شديد كمن يدهس طفل
أمام الباحة الأمامية لمنزله)
وهذا بالضبط ما شعرت به حينما أنتهيت من
(حدائق الرئيس)
للعراقي الجميل محسن الرملي
شعرت بأني قد دهست روضة أطفال كاملة بمعلميها!!
ربما الكثير لا يعرف ان محسن الرملي هو شقيق
حسن مطلك صاحب ملحمة الـ(دابادا)؛ (عمل أدبي
مهم..(.
الصديق علي ريسان(كاتب ومسرحي عراقي)
حدثني مرة عندما عاد من السويد عن ملحمة
أخرى
سطرها حسن مطلك ورفاقه في كركوك عندما أرادوا
الإنقلاب ضد النظام السابق ولكنهم أمُسكوا
وأُعدم حسن مطلك قبل ليلة من التنفيذ...
في كل صفحة من صفحات الكتاب
كان حسن مطلك يخرج كوجه وينظر إلي
بتعبير يختلف في كل مرة عن سابقتها
أصبح لعنتي الملتصقة بعقلي كتهمة في ثوب
راهبة..
لا أعرف.. بسبب تفكيري به كثيراً منذ ما
عرفت عنه
أم بسبب محسن الرملي نفسه
(كنت
أحس أنه فكر كثيراً بحسن عندما كتب هذه الرواية)
أم لسبب آخر لا أعلمه
المهم أنه خرج إلي كثيراً كثيراً...
سادتي قبل أن أتكلم عن الرئيس بحدائقه
لدي اعتراف صغير ومهم
وسأكون شجاعاً وصادقاً بما يكفي كي أبوح
به
أنا أكره الأدب
نعم أكرهه وبشدة ..!!
مئات من الجثث والمقابر والأبطال والأطفال
والعاشقات والحقراء والخونة والجواسيس والفقراء والأمهات والقتلة
كلهم في داخلي ..
ودوّامات من الأحزان والأفراح والبكاء والضحك
والسب واللعن والأرق والخوف والارتباك والانفصامات النفسية
وكل هذا بسبب
عمل أدبي
أو قطعة موسيقى (لأن الموسيقى أدب بشكل من
الأشكال)
أو لوحة فنية...
أذكر أني عشقت هزل كرايس بطلة رواية
(الخطأ في أقدارنا) لجون گرين
لدرجة أني كنت أرسمها على ورقة وأتكلم معها.
مرة قرأت مسرحية ليونسكو، أذكر جيداً كيف
لم أنم ليومين متتاليين بسبب مشهد في تلك الكارثة ..
عندما أسمع السيمفونية الخامسة لبيتهوڤن
أمتنع عن الطعام ذلك المساء..
واليوم خرجت بضربين من المشاعر بسبب الرملي
بغض شديد لشخصية المختار.. وصلت لمرحلة أن
رميت الكتاب أكثر من مرة
وحُب وعطف جم لزكية
هذه الضحية التي دُفنت حية
(لذنب لم تقترفه)..
بسبب التقاليد والأعراف السوداء للعشيرة
(متأكد من أنها ستزور أحلامي قريباً)
بكيت وحزنت كثيراً عندما قَتل الرئيس الملحن
منير
ولكني حاورت نفسي بسذاجة
(يمعود هي رواية قابل صدگ!(
تذكرت نفسي عندما كنت صغيراً خفت كثيراً
حين شاهدت أحد أفلام الرعب السيئة
وركضت نحو أبي مختبئاً بأحضانه
أذكر أنه قال:
(أدهم بابا، من تخاف من فلم الرعب،
تذكر المصورين والنَّاس التشتغل بالفلم
وگول تصوير وكله كذب)
(حدائق الرئيس) رواية صدرت
عن الدار العربية للعلوم ناشرون
بأكثر من 200 صفحة
تتكلم عن قرية ما شمال العراق.
الافتتاح مرعب
رؤوس في صناديق الموز
يكتشفهم مجنون راكب حمار هزيل الجسد..
عبد الله كافكا، إبراهيم قِسمة، طارق المُندهِش
أبطال الرواية
وأبناء شق الارض
الرواية تبدأ من النهاية، ومحسن الرملي يعيد
السرد من جديد بطريقة مدهشة فعلاً وذكية، بتبويب رائع لعناوين الفصول تجعلك تظن أنها
عناوين قصائد..
عبد الله كافكا؛ لَقيط خرج من الأرض
ينهي حياته بمقهى،
طارق المندهش؛ النموذج الرأسمالي المتسلط
لا ينتهي أبداً.
إبراهيم قسمة؛ العراقي البسيط،
من هؤلاء الناس(كلشي قسمة ونصيب)
ينتهي كرأس في صندوق موز
الرواية تستعرض ثلاثة عقود من تاريخ العراق
المخيف؛
حرب إيران والموت والأسرى والعرق.
يتوغل الرملي في معسكرات الأسرى العراقيين
في أيران
حتى لتشعر الصراخ في الصفحات
حصار يخنق كالأسوار، رئيس طاغٍ، مقابر جماعية،
دم، خوف، صراع.. حتى تشم مع إبراهيم قِسمة،
الذي
يصبح دفان لجثث المعارضين في أحد القصور،
رائحة الجثث..
إلى أن يموت هو ولا يُدفَن!
عقد أخير عن سقوط بغداد
ونهب الآثار، ثم الطائفية بكل دمها ورؤوسها
وتبعاتها..
من الشخصيات الغربية التي أستوقفتني (قسمة)
ابنة إبراهيم؛ شخصية نفعية لدرجة كبيرة،
تشعر بالعار من القرية والطيبة والفقر
وتمتعض من أبيها بطريقة مزعجة ووقحة،
ينتهي بها الحال أرملة مغتَصَبة
.. نهاية عادلة شكرت
الرملي عليها
وإن كنّت ندمت بداخلي،
فلا أحب الشر لأشر الأشرار..
السرد: لسان شخص ثالث.
الأسلوب: ماتع شيق سهل.
النهاية كالبداية.. وهذا أهم ما يميز الرواية
(حدائق الرئيس) من الروايات التي
تبدأ عندما تنتهي..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أدهم
عادل: شاعر عراقي، من أعماله: (كتاب المجانين)، (بوح الصعاليك)
و(ضوه بسرداب).