قراءة في (تَمر الأصابع) لـ محسن الرملي من
العراق
بقلم: محمد بوحبيب
قسم الكاتب نص الرواية ستة عشر فصلا،
وسرد فيه المأساة العراقية من: ظلم الحكم، والعلاقات المتوترة بين سلطة هذا الحكم،
وفئات الشعب المتسم بتعدد الأعراق، والمذاهب، وحتى الديانة.. وأظهر كيف أن الحكم
عمل على تدجين الجميع، وسكبهم في قالب، صنعه على المقاس مثل كثير من أنواع الحكم ـ
خاصة في البلاد العربية ـ ونتج
عن ذلك تمرد وعصيان، أحيانا، وهجرة ”جماعية”، اتقاء شر السلطة.
(في النص تناول الكاتب نوعين من الهجرة:
هجرة داخلية، تمثلت في هجرة آل مطلق، إلى ما يشبه جزيرة، هربا من عار الاسم الذي
أطلقته المخابرات على أفراد القبيلة” القشامر”. هذا الاسم الذي يعني الإهانة
والاستخفاف.. وهجرة إلى الشتات، وقد خص بها الكاتب إسبانيا وألمانيا..).. وهو ما
نجده مع البطل الراوي “سليم مطلق”، وأبيه “نوح مطلق”.. اللذين حزم كل منهما ـ
بعدما أخبر الأول أخته استبرق ـ وأخبر الثاني زوجته، وخيرها بين استقلالها
والزواج، أو البقاء في عصمته.. وركب كل منهما المجهول، إلى أي بقعة من الأرض. وحدث
أن التقيا في مدريد ـ إسبانيا.
وتميز النص بحدة الصراع، إن في
المفاهيم، وإن في العلاقات الاجتماعية: ما حدث بين قبيلة مطلق والسلطة، وبين أطياف
أخرى والسلطة..
لقد صرح الكاتب محسن الرملي، في جريدة
(الخبر) مع الأستاذ حميد عبد القادر، أنه لا يمكن أن يكتب المرء عن الحب في العراق؛
لأن العراق، التاريخ لم ينل حقه من الهناء والهدوء. ولكنه فعل؛ ربما يريد ـ كمواطن
عراقي ـ أن يكسر الجليد الذي جثم على الأوضاع في هذه الناحية.. أولاً تحت الحكم
السابق؛ لمدة غير يسيرة. ثم لسبب أكثر إلحاحاً، وهو الوضع الذي آل إليه عراق
الحضارة والتاريخ، بعدما تكالبت عليه الأطماع من كل جانب..
وقد شخص عاطفة الحب بين أفراد العائلة ـ
القبيلة: الارتباط الوثيق بين الجد والأحفاد. علاقة “نوح بأبيه” وتقديسه إياه..
علاقة “سليم” بأبيه ”نوح”.. علاقة سليم بأهل عمه ـ خاصة ـ بعالية ـ بنت العم. على
عادة العرب..
ثم شخص الحب ـ على غير صلة الرحم ـ أي
الحب المبني على التعلق بطرف آخر.. بدءا بعلاقة سليم بعالية بنت العم.. وبشكل فيه
من الإنسانية، أكثر من الاشتهاء الجنسي.. خاصة بين “نوح” و“روسا” الإسبانية.. وبين
البطل الراوي وفاطمة المغربية.. وبين نوح وفاطمة..
ولكن أكثر ما يوحي إلى الحب البدوي ـ
القبلي، ذاك الذي صوره بين سليم وعالية (حب جارف متأجج، ولكن مخفي عن جميع
الأفراد، إلا إستبرق).. وبين “صراط” و” إستبرق".. وعلى الطريقة الكلاسيكية
يصطدم الحب دائماً، بعوائق العرف والدين.. وهو ما حدث لعلاقة سليم وعالية، إذ كانت
نهايته الغرق في النهر ” على طريقة بول وفرجيني”.. وهذا لا يعني بالضرورة، أن
الحب بين سليم وعالية، قد فشل وانتهى، بقدر ما يعني أن غرقه، وسيلة ونوع من
التوابل للحفاظ على تأججه وحياة جذوته في نفس سليم.. وكم من مرة جعلته المواقف
يسترجع تلك القوة من التوقد والحنين، إلى عالية..
لماذا اختار الكاتب
لروايته العنوان "تمــر الأصــابع":
القضية تبدأ من صبا البطل الراوي ”
سليم”، لما كان يلاعب ابنة عمة ـ حبيبته عالية، ويتدرب معها على ممارسة طقوس الحب؛
فكان يطلي أصابه بعسل التمر، وتقوم عالية بدورها بمص أصابعه ولحسها.. ثم تدهن هي
أصابعها، وحلمتي نهديها بالتمر، ليقوم هو بمصها.. فكانا يرتفعان إلى أعلى مراتب
اللذة والتوحد.. ” أخذت عالية تفتح أزرار ثوبها، أو تخلعه، ثم تطلي نهديها بعصير
التمر، ثم تستلقي على قفاها على الرمل، مغمضة العينين، وتاركة لي لعقهما، مصهما،
حبهما، ولها التأوهات والرعشة).. ص69. ولما التقى أباه في مدريد، وجده يفعل نفس الشيء
مع صديقته وحبيبته “روسا”.. خاصة وأبوه قد تم إخصاؤه
بفعل التعذيب من طرف شرطة الحكم في العراق.. وبذلك يسترجع، كذلك لماذا كان الجد،
يحرص على توفر كيس تمر دائماً في البيت.. فتساءل:” قادني إلى التساؤل عن إصرار جدي
على توافر كيس تمر في بيتنا.. فهل جدي مثلنا هو الآخر… ربما نحن في الأصل شخص واحد..” ص145..
عن أبطال النص:
الأب نوح: أبو البطل الراوي.. نوح هو ابن مطلق..
رجل ريفي.. يعيش على تقاليد القبيلة.. وعلى شهامة الموروث الثقافي.. لم يتقبل أن يمس
هذا الراكب سيارة المرسيدس شعرة من بنته “إستبرق”؛ فأشبعه ضربا، ليكون مصيره بسبب
ذلك السجن… ثم طلق حياة البادية في العراق، وهاجر إلى إسبانيا ـ
بمساعدة إحدى السائحات؛ وهي صديقته روسا ـ ليستقر في مدريد؟ ولكن كيف؟؟ لقد حلق
شاربه، وصبغ شعر رأسه، في خصلتين: حمراء وصفراء.. وعلق في أذنه قرطا من حلقتين،
على طريقة الغجر.. وصار يسير أحد المراقص والملاهي، بمساعدة صديقته.. وهو الذي كان
يطيع أباه، طاعة عمياء ـ لا يستطيع حتى أن ينظر في عيني أبيه ـ"لم يرفع عينيه
إلى وجه أبيه أبدا، ولكنه تمسك بالرصاصة الثالثة، وحولها ميدالية مفاتيح”.ص18..
وأطلق على ملهاه اسم (ملهى القشامر) لغرض مضمر في نفسه.. لقد تغير الأب في نظر
البطل الراوي، ولم يستطع أن يقتنع بأن هذا الرجل الذي أمامه، هو أبوه حقا؛ الذي جر
القبيلة كلها، لمهاجمة الشرطة في محافظة ” تكريت”. بسبب أن أحد الوجهاء، قد لامس
مؤخرة ابنته “إستبرق”.. وها هو يغازل فاطمة المغربية أمام ابنه.. يصفعها على
مؤخرتها تماما، مثلما فعل ذاك…
إذن لا بد أن يكون هناك سر في هذا
التغير ـ تساءل سليم عدة مرات ـ لقد اتخذ لنفسه عشيقة، وهذا أمر جلل بالنسبة لمن
نشأ في محيط تحكمه تقاليد صارمة، مثل التي نشأ فيها نوح. كان البطل الراوي يكتشف ـ
أباه الجديد ـ كما يقول عن ذلك من خلال، تردده على المرقص، الذي يسيره، وأبى إلا
أن يسميه باسم القرية التي أنشأتها القبيلة، بعدما رحل بها الجد، هربا من الظلم ـ
مرقص القشامر ـ وكل هذا لا يمثل سوى المظهر.. أما الجوهر، فهو حفاظه الشديد على
خصوصياته التراثية والثقافية.. فقد فرض على الفتاة ” فاطمة المغربية”،
أن تحفظ سورة البقرة كاملة، حتى يقبل بتوظيفها في مرقصه.. ويمتحنها مع نهاية كل
شهر، باستظهارها، فإن أخطأت خصم من راتبها، وإن قرأتها من غير خطأ، أكرمها بزيادة
في راتبها.. واستطاع أن يحتل مرتبة حسنة، بين أنواع البشر، رواد المرقص.. وصاروا
يتبركون باسمه، لأنه في الحقيقة اسم نبي.. وهو يقول في كل مرة: الله هو الذي اختار
لي هذا الاسم.. ولا يتورع مع ذلك أن يغازل صديقته أمام الجميع،
وكذلك فاطمة المغربية.. هو هنا إذن من أجل الثأر..
الذي أقسم عليه بالمصحف، أمام والده، وأكد ذلك لصديقه الكردي.. لقد صار خصمه ملحقا
بسفارة العراق في إسبانيا.. وهو السر الذي طالما تساءل عنه سليم، وحاول ـ فيما بعد
جاهدا ـ ثنيه عنه..
البطل الراوي: سليم بن نوح بن مطلق…
أصغر أبناء نوح.. شارك القبيلة في الهجوم على محافظة الشرطة، في تكريت؛ لتحرير
أبيه نوح.. ونال من الشرطة نصيبه من التعذيب والإذلال.. خرج من المخفر بهوية
جديدة..( وهو ما يوحي للقارئ، أن الحكم الشمولي، لا يترك أي وسيلة، ولا أي فرصة،
إلا ويستغلها ويوظفها، في التأثير على الرعية، وقولبتها حسب قواعد أيديولوجيته )..
هاجر مع قبيلته، تحت توجيهات جده وقيادته (هجرة داخلية) ثم فيما بعد، هاجر إلى
إسبانيا.. يشتغل سائقا لسيارة توزيع الصحافة، ويمارس الكتابة.. هو إذن واحد من
المشردين من بلادهم، بفعل الطغيان، مثله مثل أبيه، وغيرهما..
الجــد: مطلق. الأب العضوي لنوح مطلق..
وكذلك الأب الروحي له ولأبنائه، وأفراد قبيلته.. يمارس السلطة المطلقة (بالارتكاز
خاصة على الدين).. يبدو ذلك جليا، في طريقة اختيار الأسماء للمواليد الجدد في
العائلة (يفتح المصحف على أي صفحة، ويضع أصبعه عشوائياً على كلمة من كلمات القرآن
الكريم، لتكون اسماً لهذا المولود أو ذاك: نوح.. سليم.. صراط. إستبرق..). وكذلك
تعامله مع زوجاته: زوجته الأولى قطع لها أصبعها، لمجرد أنها أشارت به إليه..
والثانية لم يعرف أحد كيف تخلص منها.. أما الثالثة، وهي جدة البطل الراوي، فهي
التي منحته كل أولاده.. وبقي أثره السلطوي يتبع نوحاً وسليما، إلى ديار الغربة..
.. فضح
وسائل القمع التي وظفها الحكم: من وسائل القمع التي اعتمدها النظام ـ الحكم، تغيير
أسماء الأشخاص، وألقابهم العائلية؛ لأن الأسماء والألقاب، هي جزء من شخصياتهم
وتراثهم، وتغييرها هو محو لتلك الشخصية، وطمسها.. فاسم عائلة البطل الراوي:
“مطلق”، صار “قشمر” في بطاقات هوية جديدة، وزعت على أفراد القبيلة، عند خروجهم من
الحجز، وهم يحاولون تحرير نوح.. وقشمر ـ بلسان البطل ـ تعني في العامية العراقية
الاستخفاف والإهانة. أما في اللغة الفصيحة، فتعني القصير الغليظ،( فكلا المعنيين
يعنيان الإهانة، وإلغاء إنسانية الإنسان..).
..الرفض
الجماعي للسلطة ونظام الحكم: ويتجلى ذلك في اتصال الجد بشيوخ
القبائل، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، ومعتقداتهم، من: أكراد وتركمان، ويزيديين
ومسيحيين.. نظرا لكون الظلم، قد مس جميع الأطياف (على مقولة : عدو عدوي صديقي)..
ويكفي الظلم ظلما، إخصاء الناس ” مثلما حدث لنوح أبي البطل ـ الراوي”..
..عادة
الثأر: قال
نوح: ” سأكتب على جبهته بالوشم أو بالكي “قشمر”.. ثم قال:” أخذ البدوي ثأره بعد
أربعين عاماً.”..
.. احترام
المقدسات
وهيبتها ورهبتها. ومن ذلك أن قضى البطل الراوي، ليلته مرتعبا من كابوس، رأى فيه نفسه
يتقلب في جحيم جهنم، عقابا له، لأنه تجرأ ونال قبلة حارة من محبوبته.. وما عاشه نتاج لوعيد جده، وترهيبه، لمن يسمح لنفسه بالخروج عن العرف. ”
كنت أشعر بوجود الله، مشرفا على عقابي… وصوت جدي، يدوي غاضبا: إنه يستحق، لقد
حذرتهم جميعا.” ص67..
… توظيف الاسترداد “الفلاش باك”. بلسان نوح، يعود
بالقارئ إلى العلاقات بين أفراد العائلة. وبلسان سليم. يسترجع الأيام الخوالي مع صديقته
عالية.. وما عايش من مظاهر السلطة مع الجد وأبيه، وسائر الأفراد، وغيرها من
المواقف.. وأكثرها تأثيرا حالة الندم التي انتابت الجد بسبب قطعه أصبع زوجته
الأولى..
… توحي شخصية البطل الراوي ” سليم”
إلى شيء من سيرة ذاتية.. للكاتب ـ محسن
الرملي ـ إذ إنه ـ حسب ما فهمت من تصريحه لجريدة الخبر ـ قد مارس نظم الشعر، ثم
انتقل للرواية.. وهو بطله، سليم يشتغل سائقا لسيارة توزيع
الصحافة، ويمارس الكتابة الشعرية والقصصية.
...أنهى الكاتب النص نهاية سعيدة
على الطريقة الكلاسيكية؛ بأن أجج الصراع بين البطل وأبيه، نظرا ـ ربما ـ لتضارب
النظرة نحو الأحداث، فالأب “نوح” أقسم لأبيه “مطلق” على المصحف، على أنه سيثأر
لشرف العائلة من ذلك الفتى، الذي رقته السلطة إلى رتبة سفير، بأن
يدخل له الرصاصة، في مؤخرته.. والابن يرى ذلك من العادات
القديمة، التي يعاقب عليها القانون المعاصر.. ويجب التغاضي عنها وهجرها.. ثم وجه الأحداث مع الفصول الأخيرة، إلى النهاية التي يريدها لها: بأن
سلم الأب مفاتيح المرقص لابنه سليم، وعزم على الرحيل إلى ألمانيا بعدما خطب له
صديقته فاطمة المغربية.
(ويتساءل القارئ هنا هل هذا استشراف من
الكاتب، بأن يسلم الكبار مقاليد الحكم، لأنهم ولدوا لزمان غير زمانهم..).. ومن
جانب آخر وجوب تغيير الأفكار القديمة، بالتي تتواءم مع العصر.. وقد عزم البطل الراوي مع
صديقته المغربية، تحويل المرقص مطعما عربيا مختصا في تقديم طبق الكسكسي المغربي..
(وهو نوع من المصالحة مع الذات، والعودة إلى الأصول..).
ــ نرجو أن يكون استشراف الكاتب مُجاباً،
بأن تتصالح جميع الأطياف المتصارعة في العراق، وتعود إلى حضن عراق الحضارة
والتاريخ…
-----------------------------------
*نشرت في (أبوليوس) في يوليو/تموز 2013 الجزائر.