"حدائق الرئيس"
لمحسن الرملي
رواية الحرب والديكتاتور
والمصائر المعلّقة
أحمد يماني
يعود الروائي العراقي محسن الرملي
المقيم في مدريد منذ ما يقارب العقدين من الزمن، بإصدار جديد عنوانه "حدائق
الرئيس" عن دار "ثقافة للنشر والتوزيع"، أبو ظبي، وبالاشتراك مع
"الدار العربية للعلوم" في بيروت، بعدما كانت روايته "تمر
الأصابع" وصلت إلى قائمة البوكر العربية الطويلة في نسختها قبل الماضية وبعد
ترجمتها إلى الإسبانية والإنكليزية.
تبدأ الرواية بمشهد قاس يتحول على طول
العمل إلى تفنيد هذه القسوة، متجاوزا فكرة الحرب إلى الطبيعة البشرية، التي تتخيل
أحيانا أنها تؤدي واجبا دينيا أو أخلاقيا أو وطنيا، وفي أحيان كثيرة دونما حاجة
حتى إلى أي تبرير من أي نوع. لكأن ثمة خطيئة أصلية في هذا الكائن البشري تمضي به
إلى تتبع القسوة "بدم بارد" وفق ترومان كابوتي.
"في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد
منها رأس مقطوع لأحد أبنائها ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض
الوجوه تشوهت تماما". هذا هو المشهد الافتتاحي للرواية ويتم التأريخ لهذا
الحدث بعام 2006، ثم ينتقل الراوي إلى حرب فلسطين عام 1948 بحكاية تواطؤ الآباء على
اختراع دور بطولي في تلك الحرب. ثم تتوالى الحروب بعد ذلك من الحرب العراقية -
الإيرانية إلى الغزو الأميركي مرورا بغزو الكويت وحروب الديكتاتور الداخلية.
تقوم أحداث الرواية بشكل رئيسي على ثلاث
شخصيات، ثلاثة أصدقاء ولدوا معا في العام نفسه 1959 وتربّوا معا وأصبحوا لا
يفترقون. هم أبناء "شق الأرض" كما أطلق عليهم أهالي القرية. لكن هذه
العلاقة الحميمة التي تربط الثلاثة لا تخلو من منغصات وحسد في بعض الأحيان.
فعبدالله كافكا وإبراهيم قسمة أكثر قربا وتشابها، سواء على المستوى النفسي أو
الجسدي، بينما طارق المندهش، الضلع الثالثة في مثلث الصداقة، هو أبعد نفسيا وجسديا
من عبدالله وإبراهيم. هو المتعلم الوحيد فيهم، ولا أظن أن ثمة تلميحا أو ترميزا
الى المثقف، فطارق في النهاية لا يمثل المثقف بقدر ما يمثل الإنسان العملي الذي
يسخر التعليم والدين من أجل مصالحه. وهو بلا شك شخصية أكثر تركيبا وتعقيدا من
عبدالله كافكا وإبراهيم قسمة اللذين يمثلان براءة ما، سواء في قبول القدر كأمر
حتمي كما هي حال إبراهيم قسمة، ومن هنا لقبه، أو في السخرية من القدر والرؤية
الأحادية له باعتباره عبثاً لا ينقضي في حالة عبدالله كافكا، الذي تحظى شخصيته
بتعاطف الراوي، وتظل هي الأبرز والأكثر إثارة على طول العمل.
لا تسعى الرواية إلى مقاربة موضوع الحرب
في ذاته ولا البحث في أسبابها لكننا نجد أنفسنا كل مرة أمام حرب جديدة، كأنها قدر
يهبط فجأة من دون داع لفهم أسبابه. لا تحاول الرواية التركيز على حرب بعينها بل
تتعامل مع مختلف حروب العراق بالمنطق نفسه تقريبا: يصحو الناس على الحرب وتبدأ
دورة جديدة من التشرد والقسوة والعنف. تبدو الحرب إذاً كمبرر آخر للقسوة والفظاظة
والعنف، كما يمكننا أن نرى في مناطق أخرى في الرواية القسوة نفسها بعيدا من الحرب.
كأن الكاتب يسعى إلى تأكيد نوع من الخراب يشمل الكائن البشري أيا يكن الظرف الذي
يحيط به.
هل نحن أمام رواية ديكتاتور بالمعنى
الذي تم إعطاؤه لها في أميركا اللاتينية؟ كادت رواية الديكتاتور اللاتينية أن تصير
جنسا أدبيا مستقلا. على سبيل المثال "السيد الرئيس" لميغال أنخيل
أستورياس، و"حفل أخاب الملك" لإنريكه لافوركادي، و"خريف
البطريرك" لماركيز، و"ذيل السحلية" للويسا بالينثويلا، و"حفلة
التيس" لماريو فارغاس يوسا.
"حدائق الرئيس" تقترب من هذه الكتابة بقدر ما. الحديقة التي تبدو
من الخارج فردوسا أرضيا، تخفي تحتها حقلا من جثث المعارضين يقوم الديكتاتور نفسه
بدهس عشبها بعربته إذلالا لعظام النائمين تحتها وتأكيدا لسطوته. وهو يظهر، في
مشاهد أخرى من الرواية، في صورة نزقة أسطورية. لا نناقش هنا دقة الصورة من عدمها،
ففي هذه الحال يمكن منح الديكتاتور أكثر الصور غرائبية وعجائبية، بالمعنى الذي
منحه تودوروف للمصطلحين، حيث يظهر وهو يتعاطى الشراب ويصيد الأسماك ويقتل بنفسه
الموسيقي الشهير الذي كان يعزف له بينما يتناول شرابه ويدخن سيجاره الكوبي الغليظ.
ويظهر أخيرا في مشهد اغتصابه إبراهيم قسمة. على رغم هذا "الظهور"
المتعدد، لا نظن أننا أمام رواية ديكتاتور، لسببين رئيسيين أولهما أن الرواية لا
تسعى للتعامل مع شخصية الطاغية كموضوع محوري لها، وثانيهما أننا لسنا في إزاء
مساءلة فكرة السلطة وبحثها. لكننا نرى فقط تجليات هذه السلطة وخصوصا لدى من يقترب
من دائرة الديكتاتور. لكن على الرغم من هذا كله، نعتقد أنها خطوة مهمة في تعامل الرواية
العربية مع طغاة حديثين وليس فقط التسربل بالماضي كما نرى في روايات مهمة في سياق
الرواية العربية مثل "مجنون الحكم" لسالم حميش.
لا تقع الرواية في الميلودراما على رغم
العنف والقسوة والألم والغرام والمحبة والصداقة والحنان والمشاعر الكثيفة. ويحسب
للكاتب نجاحه في الهرب من الثنائيات الضدية وتنميط الشخصيات التي وإن حافظت على
خيط وجودي ممتد على طول الرواية إلا أن الشك يحضر فيها. وقد جاء مشهد النهاية على
قدر كبير من التوفيق حيث يعود الشك ليضرب روح قسمة وهو يكتشف أنانية طارق واهتمامه
الزائد بصورته. وكأن الحروب، التي لم يشارك في أي منها وظل في مأمن منها في قريته
البعيدة، أثرت فيه أكثر من الآخرين الذين عانوا أهوالها. وتنتهي الرواية بمشهد
تقيؤ قسمة، في إشارة واضحة إلى الرغبة في البدء من جديد.
--------------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (النهار)
اللبنانية، العدد 24818 بتاريخ 12/8/2012م
http://www.annahar.com/article.php?t=adab&p=2&d=24818
*ونشرت أيضاً في صحيفة (النهار) العراقية، العدد 470 بتاريخ 29/8/2012م
*ونشرت أيضاً في صحيفة (النهار) العراقية، العدد 470 بتاريخ 29/8/2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق