نصف قرن من عمر الوطن
في «حدائق الرئيس» للعراقي محسن الرملي
تَعليب الموت
” في بلد لا موز
فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها،
ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق
لقطعها، أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح، فلم تعد ملامحها التي عرفت بها على مدى أعوام
حياتها المنتهية، كافية للدلالة عليها”، بهذا المشهد المرعب يبدأ الروائي العراقي الدكتور
محسن الرملي روايته الجديدة “حدائق الرئيس” الصادرة مؤخرا عن دار ثقافة للنشر والتوزيع
في أبوظبي، وهذه الرواية الثالثة بعد روايتين سابقتين “الفتيت المبعثر” و”تمر الأصابع”
وعدد من المجموعات القصصية والشعرية المتميزة، أثبت فيها قدرته على امتلاك ناصية الكتابة
في القصص القصيرة والشعر بلغة خفيفة ممتزجة بالتهكم حتى في وصفه للمشاهد القاتمة، وتسيطر
“تيمة” الحرب وتوابعها على معظم إبداعه وهو الذي عاشها طفلا ومجندا كادت تدمره مع ما
دمرت خلال سنوات لم تعرف العراق فيها سلاما، وانتهت بلجوئه إلى أسبانيا عله يجد فيها
الراحة، فدرس لغتها، وتخصص في أكبر إبداع بها “دون كيخوته” وربما كان هذا له تأثيره
على طريقته في السرد الساخر.
إلا أن هذه البداية التي تحكي الحدث بهذه
اللغة اللاذعة، جمعت أبناء القرية وفرقتهم عندما تنازعوا دفن تلك الرؤوس، ما بين مؤيد
ورافض انتظارا للعثور على جثث هذه الرؤوس نفسها لينتصر في النهاية الرأي باللجوء إلى
رأي الدين عبر شيخهم الذي كانت فتاواه عن “الموت” دائما دون أن تقدم لهم فتوى تأخذهم
إلى الحياة خوفا من النظام القائم، وكان رأيه أن الدفن المؤقت يحفظ للقتلى كرامتهم
إلى حيث استكمال طقوس الدفن بعد العثور على ما تبقى من هؤلاء.
هذه البداية تتخلق منها مواقف وشخصيات قدمت
نفسها بعد ذلك على أنهم “أبناء شق الأرض”، إنهم ثلاثة من أبناء القرية جمعتهم الصداقة
منذ الطفولة وتضامنوا لإخفاء نسب واحد منهم مجهول الأبوين ليصبحوا معا أبناء هذه الأرض
التي أنجبتهم وتحولت أحداث حياتهم إلى جزء لا يتجزأ من تاريخ الوطن “العراق” خلال النصف
قرن الأخير الذي شهد أحداثا دامية لم يتوقف نزف جراحها حتى اليوم، ومن هنا كانت أيضا
نهاية الرواية المفتوحة بتفرق امتدادات تلك الشخصيات في مواقفها تعبيرا عن ما يشهده
العراق الآن من تفرق وتحزب، لأن الرواية اتخذت الشكل الدائري، تبدأ وتنتهي بالمقطع
نفسه، لأنها ترى أن الحياة ليست سوى دوائر تتداخل مع بعضها لتشكل في النهاية الدائرة
الكبرى.
صناديق الموز هذه والرؤوس المقطوعة التي
تحتويها تفتح من البداية الطريق أمام تشكيل درامي يشي بدموية المشهد، وفي الوقت نفسه
بتناقضات هذا المشهد، ليست هناك أكثر سخرية من أن هذه القرية لا تعرف الموز، فيأتيها
الصندوق خاليا من تلك الفاكهة المنتظرة ويحمل في باطنه ما يدمي القلوب بدلا من أن يرطبها،
ومن تلك اللحظة نتعرف على الشخصيات الرئيسية التي تشكل حياتها محور الرواية: عبد الله
كافكا وإبراهيم قسمة والشيخ طارق، أسماء تحمل معانيها في ألقابها أو كنيتها، تعيش متدخلة
وتتقاطع حياتهم فيما بينهم لتشكل ذلك المزيج من تاريخ العراق خلال النصف قرن الأخير،
لكل حياة دائرة قد تبتعد عن الدوائر الأخرى لكنها سرعان ما تتقاطع وتلتقي لتأخذ القارئ
إلى الدائرة الأخرى حتى تصل به في النهاية إلى الدائرة الكبرى التي هي الرواية.
عبد الله كافكا، وكما هو واضح من كنيته شخص
عدمي متشائم يمارس العدمية انطلاقا من نسبه المجهول الذي يكتشفه في النهاية ولكن اكتشاف
هوية الأبوين لا يدفعه إلى الانطلاق بحثا عن الأب يزداد عدمية، ويقرر البقاء إلى جوار
قبر الأم المغدورة، فالحياة لم تمنحه شيئا، لم تدعه يسير في حياة عادية بل أخذته الى
حرب لا يعرف عنها شيئا ليسقط أسيرا ويعاني ويلات الاسر في ايران، وبعد العودة يقر أن
يكمل حياته على طريقته بعد أن حرموه الحياة بفقدانه حبيبته سميحة دون سبب واضح.
وإبراهيم قسمة الذي يجد نفسه غارقا في تلك
الحروب التي تعيشها بلاده أيضا ودون أن يعرف سببا لها نتيجة يأسه من نهاية لتلك الحروب
تزوج مبكرا وأنجب ابنته “قسمة” في سنته الأولى في الجيش، ولكن شيئا منعه من الاستمتاع
بطفل كان يريده، وفشلت كل محاولات زوجته في اللجوء إلى كل ما تعرفه العجائز لتحقيق
أمنيته، خلال تلك الحروب التي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الكيماوية والجرثومية
تركت أثرها عليه ليكون ضحية لشيء لا يعرفه، ولم تكن لديه رغبة في معرفة أكثر من ذلك.
ومن مغامرة الحرب مع إيران استيقظ الجميع
على دبابات العراق في شوارع الكويت واستدعاء الجنود لحرب جديدة، حرب مدمرة هدفها المواطن
قبل أن يكون لها هدف آخر، عاش إبراهيم الحرب الجديدة ليفقد أصدقاء جدداً عرفهم في طريق
هروبه من القصف الأمريكي. وأيضا فقد قدمه ليصاب بعاهة لم تصبه في معارك العراق السابقة،
يبدو انه لا أمل حتى لمثل هذا المسالم الراضي بنصيبه في حياة هادئة يداعب فيها طفلته
الوحيدة في هدوء.
طارق المندهش محظوظ مثل أبيه لم يذهب إلى
الحرب لأنه كان معلما في مدرسة القرية وإمام مسجد وله معارف فلم تكن مهمته في التجنيد
سوى نوبات حراسة خفيفة سرعان ما هجرها عندما شاهد انهيار النظام، فتفرغ لحب النساء
والأناقة في الملبس وممارسة متع الحياة.
وبعد أن اتخذ كل منهم طريقة في ممارسة الحياة
في القرية سنحت الفرصة لإبراهيم أن يذهب إلى بغداد للعمل في حدائق الرئيس، بستانيا
يرعى الورود، ولكن الورود لم تكن ورودا بل أصبحت دفن جثث معارضي الرئيس في تلك الحدائق.
وبعد أن استيقظ الناس في العراق على حرب
جديدة هدفها المعلن إطاحة الرئيس، ولكن نتيجتها الحقيقية دمار البلاد، لتعود رأس المسكين
إبراهيم قسمة في صندوق موز لا يعرفه سكان القرية، وليجتمع الأصدقاء مجددا هذه المرة
بشكل مغاير:عبد الله كافكا وطارق المندهش ورأس إبراهيم قسمة الذي حلت في تلك الحلقة
محلة ابنته “قسمة” ذاتها وبعد إلحاح قرروا البحث عن جسد إبراهيم لدفنه مع رأسه، ولكن
اكتشف كل منهم أن طريقته في الحياة مختلفة، عبد الله كافكا قرر العودة إلى حياته العدمية
لأنه لا شيء في الحياة يستحق المغامرة، وقسمة اكتشف أن مرافقة طارق للبحث عن جثة أبيها
هدفه آخر، فقد أصبح كل شيء ”خليط غير متجانس، مزيج من ملوحة وحموضة وحلاوة ومرارة،
أحجار تتطاحن وسط مرجل قيح يغلي في جوفها“.
“حدائق الرئيس” للكاتب محسن الرملي،
انعكاس لنصف قرن من حياة وطنه العراق، حروب متواصلة، أناس يذهبون إلى المذبح دون أن
يعرفوا لماذا، أسرى ومفقودون وقتلى، ولا أحد يفهم ما يحدث له، وكل فرد يجد نفسه في
موقف ذاتي يبعده عن الانتماء إلى الآخرين حتى في لحظات التضامن.
---------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الاتحاد)
الأماراتية بتاريخ 23/8/2012م