الجمعة، 31 أكتوبر 2025

فحوصات ثقافية/ عن السياحة الأدبية/ محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

دعوة لسياحة أدبية عربية

د. محسن الرملي

هذه دعوة للتفكير والعمل على تأسيس وترسيخ سياحة أدبية عربية. ربما يبدو الأمر نوعاً من البَطَر، عندما نتحدث عن قطاع إبداعي آخر في الميدان السياحي، في بلداننا التي لم تُعطِ، حتى الآن، السياحة التقليدية ما تستحقه، فهذه آثار حضاراتنا العريقة مُهمَلَة ومتاحفنا ضعيفة التنظيم والعرض والترويج بحيث لم تُغرِنا حتى نحن بزيارتها، وجغرافيتنا المتنوعة العذراء متروكة لمصيرها الغامض وسط استغاثات البيئة الكونية من التلوث. فيما يبتكر الغرب حتى قطاعاً لما يسميه (سياحة الكوارث) وينظم سفرات لمواقع البراكين والأعاصير وخراب الزلازل والحروب، بل ويقيم متاحفاً لتخليد ذكراها، والقطاع الآخر هو (السياحة الأدبية) والذي نود التنبيه إليه هنا، فعلا سبيل المثال: تُحرك سياحة السير في الدرب الذي مشت فيه شخصية (دون كيخوته) الأدبية، ملايين الدولارات، فيجيء الناس أفواجاً لاتباع مسار طلعاته في الفلوات الإسبانية المذكورة في الرواية، يمرون بالقلاع والأودية التي مر بها ويأكلون وجبات الطعام التي أكلها، وصولاً إلى البيت الذي يُفتَرض أنه مسقط رأس مؤلفها، وكم منا مَن حرص على زيارة قبر أو مقهى أو بيت أو حتى تمثال كاتب معروف في البلدان التي نزورها، وكلنا سمع بالاحتفالات السنوية برواية (يوليسيس) لجويس في دبلن حيث تدور أحداثها، وفي بطرسبورغ تزور الناس الشارع الذي تدور فيه أحداث رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي. يشار إلى أن (السياحة الأدبية) قد استُحدثت بفضل الأدب أيضاً، فبفضل المعجبين برواية (البحث عن الزمن المفقود) لبروست منذ عقود وتتبعهم لأماكن سير أحداثها من باريس إلى نورمانديا، جاءت الانطلاقة العملية للاشتغال على هذا القطاع السياحي. حيث صارت البلدان والمدن والقرى في العالم تستثمر أكثر نتاجات وإرث وأسماء أبنائها من المبدعين مادياً ومعنوياً، وليس آخرها استحداث كولومبيا لسياحة في قرية (ماكاندو) روية (مائة عام من العزلة) وكل ما يتعلق بماركيز، أو بيرو للسياحة في الأماكن المذكورة في روايات فارغاس يوسا أو تشيلي لأماكن نيرودا. وغني عن الذكر المدن التي تقام لشخصيات والت ديزني الخيالية وغيرها. فكل ما يتعلق بهذا النوع من السياحة إيجابياً لكل الأطراف، تُرى لماذا لا نُشيّد، على سبيل المثال، مدناً تستلهم أجواء ألف ليلة وليلة! لماذا لا نؤهل الدرب الذي سار فيه المتنبي حتى مقتله! وخرائطاً لشوارع وحارات نجيب محفوظ، وقرية (موسم الهجرة إلى الشمال)، ولاذقية روايات حنا مينه، وطنجة محمد شكري، لماذا لا نرمم، على الأقل، بيوت وقبور ومقاهي الأسماء الكبيرة في ثقافتنا ونكثر من التماثيل والنصب لهم؟ فنوظف بذلك مئات العاطلين ونجذب سياحة آلاف أو ملايين، وفي الوقت نفسه هو فعل ثقافي حيوي سيكون له الأثر الكبير في إعلاء شأن الثقافي بيننا ولنا ولأبنائنا، والحث على إعادة قراءة أعمالهم دائماً.

إنني أحلم بالدخول إلى مدينة (ألف ليلة وليلة) مرتدياً لباس أهلها، متعاملاً بعملتها، متجولاً بين أسواق الوراقين والصاغة، وداخلاً حاناتها ومخادع الأميرات وكهوف الساحرات فيها، وطائراً بصحبة طفلتي على بساط الريح فوق قبابها.. إنني أحلم بسياحة ثقافية أدبية جميلة في قرانا والمدن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب)، العدد 85 نوفمبر 2025م.

https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_2ea28b9f74c04cdc85093a837e596a.pdf

الأربعاء، 1 أكتوبر 2025

فحوصات ثقافية: عن السينما والرواية/ محسن الرملي

فُحوصات ثقافية

جَفوة السينما والرواية 

بقلم: الدكتور محسن الرملي

الرواية والسينما هما أبرز فنون عصرنا وأكثرهما رواجاً واستهلاكاً وتأثيرا، وكان لتعاونهما الحيوي، في منتصف القرن الماضي، دوراً في هذا الرواج والتأثير، إلا أننا ومنذ نهايات القرن؛ لاحظنا تراجعاً في التعاون بينهما، وصرنا نشهد فورة في إنتاج الأفلام، ولكن القليل منها مقتبس عن روايات، وبالمقابل؛ شهدنا، وما زلنا، فورة في كتابة الروايات الناجحة، دون أن تنتبه أو تكترث بها السينما. وفي رأيي؛ إن أحد أبرز أسباب ذلك، قد بدأ مع ظهور ما يُسمى بالسينما المستقلة، ثم البديلة، ثم الذاتية أو الفردية، التي يتفرد فيها المخرج باختيار وتقرير الفكرة وكتابة السيناريو والإخراج، وأحياناً حتى التمثيل والإنتاج.. والتحكم في كل شيء، ومن أمثلتها: وودي آلن أمريكياً وبيدرو المودوبر إسبانياً ويوسف شاهين عربياً، وإذا كانت بعض هذه التجارب قد نجحت، فهذا لا يعني أن السينما بمجملها ستنجح إذا سارت في هذا المنحى، لأن السينما في الأصل، هي فن وعمل جماعي وتلقيها يكون جماعياً. أحد أصدقائي السينمائيين الإسبان، أسس شركة إنتاج ونجح في فلمين، أنتجهما بالصيغ التقليدية، أي العمل الجماعي، فكرتها لها كاتبها، ثم سيناريست متخصص، ثم مخرج وممثلين مناسبين، لكن موجة السينما الذاتية أغرته، فقرر أن ينتج فلماً عن طفولته الشخصية، وخاصة بعد نجاح فلم (أسرار القلب) سنة 1997 لزميله آرمينداريث، فكانت النتيجة فشلاً ذريعاً وخسارة كاملة أخرجته من العمل السينمائي تماماً.

إن التعاون بين السينمائي والأديب سيُكسِب أحدهما جمهور الآخر، وكلنا شهد ازدهار الجنسين عربياً عندما كان يتم تحويل روايات وقصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهم، إلى أفلام، وما زالت تلك الأعمال راسخة في الذاكرة، ورقياً وضوئياً، نعود إليها باستمرار. إن الفلم الناجح يقود المشاهِد، غير القارئ، إلى البحث عن الرواية الأصل لكي يقرأها، والرواية الناجحة تدفع قارئها إلى مشاهدة الفلم المستوحى منها؛ ليرى كيف تم تجسيدها، وهكذا تتسع دائرة التلقي والفاعلية لمصلحة الطرفين، ولصالح الحراك الثقافي والاجتماعي عموماً.

الرواية والسينما يتشابهان من حيث قدرتهما اللامتناهية على استيعاب مختلف أشكال الفنون الأخرى، ولا يوجد أي فنان معاصر لم يتأثر بتقنياتهما ورؤاهما وطروحاتهما. استفادت السينما من المتن الدرامي للرواية، واستفادت الرواية من التقنيات السينمائية. إنهما جنسان متصلان منفصلان. يقوي أحدهما الآخر إذا اتصلا. يتميز الروائي بقدرته على التقاط الثيمات والأحداث الجوهرية وعلى إعادة صياغتها في بناء درامي مُقنِع، ويهتم كثيراً في البناء النفسي لشخصياته ووصف محيطها الاجتماعي والزماني والمكاني وتأثيراته عليها، يعيش أجواء عمله بكل حواسه ويتقمص شخصياتها، فيما يكون السيناريست منفصلاً إلى حد ما، فهو يتصور المشاهد أكثر من عيشها، ويقوم بإلباس الشخصيات لآخرين، ممثلين، ولا بتقمصها هو نفسه. إنه يفكر ويرى بعين الكاميرا دائماً، محصوراً ضمن إطار الشاشة وحدود مساحة المَشاهَد. في الكتابة، يمكن القول بأن الروائي قد ينجح كسيناريست، ولكن من النادر أن ينجح السيناريست كروائي.

للأسف، إن أغلب السينمائيين قد كفوا عن قراءة الروايات منذ شبابهم وبواكير انغماسهم بالعمل السينمائي، وهذه دعوة لهم؛ للعودة إلى قراءة الروايات، وأنا على يقين من أنهم سيجدون في أنفسهم الرغبة والقناعة والحماس لتحويل بعضها إلى أفلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (كتاب) العدد 84، اكتوبر 2025م

https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_a361bbad7a9949319fc8d75fe31a80.pdf