فُحوصات ثقافية
جَفوة السينما والرواية
بقلم: الدكتور محسن الرملي
الرواية والسينما هما
أبرز فنون عصرنا وأكثرهما رواجاً واستهلاكاً وتأثيرا، وكان لتعاونهما الحيوي، في
منتصف القرن الماضي، دوراً في هذا الرواج والتأثير، إلا أننا ومنذ نهايات القرن؛
لاحظنا تراجعاً في التعاون بينهما، وصرنا نشهد فورة في إنتاج الأفلام، ولكن القليل
منها مقتبس عن روايات، وبالمقابل؛ شهدنا، وما زلنا، فورة في كتابة الروايات
الناجحة، دون أن تنتبه أو تكترث بها السينما. وفي رأيي؛ إن أحد أبرز أسباب ذلك، قد
بدأ مع ظهور ما يُسمى بالسينما المستقلة، ثم البديلة، ثم الذاتية أو الفردية، التي
يتفرد فيها المخرج باختيار وتقرير الفكرة وكتابة السيناريو والإخراج، وأحياناً حتى
التمثيل والإنتاج.. والتحكم في كل شيء، ومن أمثلتها: وودي آلن أمريكياً وبيدرو
المودوبر إسبانياً ويوسف شاهين عربياً، وإذا كانت بعض هذه التجارب قد نجحت، فهذا
لا يعني أن السينما بمجملها ستنجح إذا سارت في هذا المنحى، لأن السينما في الأصل،
هي فن وعمل جماعي وتلقيها يكون جماعياً. أحد أصدقائي السينمائيين الإسبان، أسس
شركة إنتاج ونجح في فلمين، أنتجهما بالصيغ التقليدية، أي العمل الجماعي، فكرتها
لها كاتبها، ثم سيناريست متخصص، ثم مخرج وممثلين مناسبين، لكن موجة السينما
الذاتية أغرته، فقرر أن ينتج فلماً عن طفولته الشخصية، وخاصة بعد نجاح فلم (أسرار
القلب) سنة 1997 لزميله آرمينداريث، فكانت النتيجة فشلاً ذريعاً وخسارة كاملة
أخرجته من العمل السينمائي تماماً.
إن التعاون بين
السينمائي والأديب سيُكسِب أحدهما جمهور الآخر، وكلنا شهد ازدهار الجنسين عربياً
عندما كان يتم تحويل روايات وقصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهم،
إلى أفلام، وما زالت تلك الأعمال راسخة في الذاكرة، ورقياً وضوئياً، نعود إليها باستمرار.
إن الفلم الناجح يقود المشاهِد، غير القارئ، إلى البحث عن الرواية الأصل لكي
يقرأها، والرواية الناجحة تدفع قارئها إلى مشاهدة الفلم المستوحى منها؛ ليرى كيف
تم تجسيدها، وهكذا تتسع دائرة التلقي والفاعلية لمصلحة الطرفين، ولصالح الحراك
الثقافي والاجتماعي عموماً.
الرواية والسينما
يتشابهان من حيث قدرتهما اللامتناهية على استيعاب مختلف أشكال الفنون الأخرى، ولا
يوجد أي فنان معاصر لم يتأثر بتقنياتهما ورؤاهما وطروحاتهما. استفادت السينما من
المتن الدرامي للرواية، واستفادت الرواية من التقنيات السينمائية. إنهما جنسان متصلان منفصلان. يقوي أحدهما
الآخر إذا اتصلا. يتميز الروائي بقدرته على التقاط الثيمات والأحداث الجوهرية وعلى
إعادة صياغتها في بناء درامي مُقنِع، ويهتم كثيراً في البناء النفسي لشخصياته ووصف
محيطها الاجتماعي والزماني والمكاني وتأثيراته عليها، يعيش أجواء عمله بكل حواسه
ويتقمص شخصياتها، فيما يكون السيناريست منفصلاً إلى حد ما، فهو يتصور المشاهد أكثر
من عيشها، ويقوم بإلباس الشخصيات لآخرين، ممثلين، ولا بتقمصها هو نفسه. إنه يفكر
ويرى بعين الكاميرا دائماً، محصوراً ضمن إطار الشاشة وحدود مساحة المَشاهَد. في
الكتابة، يمكن القول بأن الروائي قد ينجح كسيناريست، ولكن من النادر أن ينجح
السيناريست كروائي.
للأسف، إن أغلب
السينمائيين قد كفوا عن قراءة الروايات منذ شبابهم وبواكير انغماسهم بالعمل
السينمائي، وهذه دعوة لهم؛ للعودة إلى قراءة الروايات، وأنا على يقين من أنهم
سيجدون في أنفسهم الرغبة والقناعة والحماس لتحويل بعضها إلى أفلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت
في مجلة (كتاب) العدد 84، اكتوبر 2025م
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_a361bbad7a9949319fc8d75fe31a80.pdf