فحوصات
ثقافية
حكاية نصوص من دون حقوق
بقلم: الدكتور محسن الرملي
أغلب الكُتاب تنتابهم فترات قنوط وإحباط، وهم يرون
أنفسهم يبذلون الجهود والعزلة، لإنجاز نص أو إصدار كتاب، وبعد نشره لا يجدون صدى، عدا
أن أغلب ما ينشرونه لا يتقاضون عنه أجراً أو مكافأة، بل إن بعضهم يضطر لدفع المال
مقابل النشر. إذاً لماذا يستمرون في الكتابة؟
ثمة مكافآت معنوية، غير مادية، يتعزى فيها الكاتب،
وأولها إرضاء الذات التي تحتاج إلى التعبير لترتاح، وأخرى ردود أصدقاء وأقرباء
وقراء قليلين، وآمال ذاتية، أحلام أو حتى أوهام عن أن الاهتمام به وبأعماله سيأتي
مستقبلاً، حتى وإن كان هذا المستقبل بعد موته، وشواهد التاريخ كثيرة. وبما أننا في
أيام تُذكَر فيها المقاومة كثيراً، تذكرتُ حكاية كتابين، يندرجان ضمن سياق المكافأة
المعنوية المجهولة التي يعتبرها الكاتب إحدى مكافآته المُنتظَرة، وتعينه على
مقاومة يأسه.
ذات يوم، في مدينة مديين الكولومبية، كنت مُتجهاً إلى
مكتبة صديقي الشاعر لويس غالار، لأنه وعدني بالحصول على أعداد قديمة من مجلة
(شعراء في أبريل) العريقة، وفي الطريق مررتُ بشابين لم يتجاوزا العشرين من
عمريهما، يناديان لبيع كتاب على المارّة، أحدهما يهتف: "قصائد من أجل
المقاومة". ويكمل الثاني بارتفاع وحماس الصوت نفسه: "وبناء عالَم مُختلف".
توقفتُ أتصفح الكتاب، فكان عنوانه (قصائد من أجل المقاومة وبناء عالَم مختلف)،
وفوجئت باسمي على الغلاف، مع أسماء: محمود درويش وناظم حكمت وآهوتي وأميري بركة
وخورخه ثالاميا. طِباعة الكُتيّب بسيطة فقيرة، بلا دار نشر، وفيه قصائد ونبذة عن
كل شاعر، بلا مقدمة ولا اسم لمُعِد، فسألتهما: مَن أعَدّ هذا الكتاب؟ قالا: نحن. قلت: وهل يُباع؟ قالا: نعم، بِعنا
منه أربعمئة نسخة، ونفكر ببيعه في مدن أخرى وفي العاصمة بوغوتا.
ـــ وماذا عن حقوق النشر؟
ـــ المقاومة حق للجميع. ونحن نتبرع بريعه لدعم قضايا
عادلة. أدب العالم لكل العالم.
ـــ ولكن، ألم يكن من المفروض، على الأقل، أن تستأذنا
من الشعراء قبل النشر؟
ويبدو أنهما قد ضاقا ذرعاً بأسئلتي، فقال أحدهما: اسمع
حضرتك، هؤلاء الناس ليسوا مثلك ومثلنا، فقد كرسوا حياتهم وإبداعاتهم من أجل
المقاومة وبناء عالم أفضل، فكيف سيعترضون على عمل كهذا؟
خجلتُ من قولهما، ولم أشأ إخبارهما، بأنهما قد وضعا
اسمي ــ ربما بالخطأ ــ بين هؤلاء الشعراء الكبار. أخذتُ نسخة، دفعتُ لهما ضعف
ثمنها. شكرتهما، شددتُ على يديهما وغادرت. وعندما وصلت إلى مكتبة لويس، أخبرته بما
حدث، فقال: نعم، إنهما صادقان. كلنا فعلنا أشياء كهذه في شبابنا... لحظة، أعتقد
بأن لديّ كتاب من هذا النوع.
ثم غاب في المخزن، وعاد بكتاب عنوانه (قصائد مقاومة
شعب العراق وفلسطين)، صادر عن دار (السيف والقلم)، يضم قصائد لأربعة عشر شاعراً
فلسطينياً وثلاثة عراقيين، أنا أحدهم، بقصيدتي "لا لتحرير العراق مني"، فدُهشنا
معاً لوجود اسمي أيضاً، وقال بأنه قد اقتناه، قبل عامين، للدعم، ولم يفتحه. لاحقاً
قرأت مقالات رائعة عن الكتاب. عَقب لويس: كنا نحلم ونعتقد بأننا قادرون على جعل
العالم أفضل.
فكرت بقوله للحظة، وقلت: وقد حققتم هذا فعلاً، ها أنت
إنسان أفضل وهما كذلك، وحتماً أثَّرتُم ببعض المحيطين بكم من العائلة والأصدقاء.
وبزيادة عدد الناس الخيرين، المقاومين، المتعاطفين مع قضايا الآخرين، يُصبح العالم
أفضل.
نظر إليّ مُتفكراً، ثم عانقني وقال: شكراً
يا صديقي، وبوجود أمثالك فهو أفضل بالتأكيد... خُذ، هذه ثلاثة أعداد نادرة من مجلة
(شعراء في أبريل).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي) العدد 68 يونيو 2024م
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_6c71225ecc19420287a33ef65537c2.pdf