الروائي محسن الرملي:
*لغتي ومواضيعي تنطلق من البيئة العربية
*حصيلتي من الماضي أكبر من المستقبل
*الحنين الذي عندي انتقائي
*حققتُ أغلب ما كنت أريده
أجراه: محمد حسني عليوة
مِن الذين إذ تلتقيهم أو تقرأ عملًا من أعماله الإبداعية تشعر بألفةٍ ما، فهو
"الممتلئ بالحكايات التي عاشها بنفسه، أو سمعها من غيره" يجذبك بعوالم
شخوصه إلى قضايا الإنسان وهمومه ومشكلاته في مجتمعات مهددة بالأخطار، بما ترصده رؤيته
وبصيرته الأدبية الخاصة من تحولات اجتماعية ثقافية وحداثية.
هو شاعرُ لم يخرج من عباءة لغته الأم، رغم نزوحه الاضطراري في مجتمع يطغى
بلغته وثقافته وآدابه ومنتسبيه، حاصل على الدكتوراه بامتياز في الفلسفة والآداب من
جامعة مدريد، مع درجة الشرف.
شارك في تأسيس وإدارة دار نشر
ومجلة "ألواح" الثقافية الفكرية في إسبانيا منذ 1997، وعضو في هيئة
تحرير مجلة "آركيترابا" الكولومبية المعروفة المتخصصة بالشعر، وعضو
اللجنة الوطنية المنظمة لمهرجان الشعر العالمي في طليطلة، وحاليًا يعمل أستاذًا في
جامعة "سانت لويس" الأميركية في مدريد.
كذلك روائي ثائر لملم شتات انزياحاته القومية وجراحات سردياته المشروعة،
مُلمًّا باليقينيات الكبرى دون انفكاك لقصص حب ومرويات تاريخية وتجارب إنسانية
فارقة تخللتها معارك شخصية وثقافية أسهمت بقدر كبير في دعم انتصاره لقيم الخير
والجمال، والإبقاء على شعلة التنوير حالمةً بغدٍ أفضل.
وقد تُرجِمت بعض كتبه إلى اللغات:
الإسبانية، الإنجليزية، البرتغالية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، التركية،
الروسية، الألبانية، والكردية.
وكان لنا معه هذا الحوار:
الزمن
والأحلام
*هناك أسئلة كثيرة تجاه الحياة بعيدًا عن الوطن، بعيدًا عن مشقة البحث عن
نوستالجيا يقينية، وقريبًا من تواطؤ التحرر الكامل من كل ذلك. أين أنت إذن؟ وماذا
تحب أن تكون الآن؟
ـــ لا أستطيع الادعاء بأنني قد تحررتُ بشكل كامل
من الماضي، أو من الحنين إلى أشخاص وأماكن وحالات معيّنة فيه، بل يبدو لي ذلك
مستحيلاً، بالنسبة للإنسان العادي، فكيف بمن هو منغمس بالأدب تمامًا، وما الأدب
إلا الكتابة عن ماضي واستعادته وتوثيقه ومراجعته وغربلته وتأمله ومحاكمته واستخلاص
الرؤى منه، وأنا الآن في هذه المرحلة أكثر مما كنتُ عليه، حيث أصبحَت حصيلتي من
الماضي أكبر مما بقي لي من المستقبل، بل إننا في الحقيقة لا نملك إلا الماضي،
فالحاضر سريع المرور والمستقبل مجهول، والحنين الذي عندي هو ليس الحنين المَرَضي
الذي يُجَمِّل كلَّ شيء، وإنما هو حنين واعي وانتقائي، مثل الذاكرة تمامًا، لأن
الحنين هو ابن الذاكرة ويحمل جيناتها.
أما ماذا أُحب أن أكون، فهذا أيضًا سؤال يتناسب
مع الماضي، وليس مع حالي وعمري الآن، وأعتقد بأنني حققتُ أغلب ما كنتُ أريد أن
أكونه، وراضٍ بما أنا فيه وعليه، فهو كما أريد تقريبًا، باستثناء أحلام سقطت مني
في الطريق، غصبًا عني، بسبب الظروف، ومنها حلم تكريس حياتي للمسرح وفيه، وإنجاب
عدد كبير من الأبناء، فبحثت عن حل لتنفيس هذه الحسرة من صدري وذهني، فكان ذلك في
روايتي (أبناء وأحذية)، مما خفّف عنيّ كثيرًا، واستطعتُ تصفية الحساب مع هذا الأمر.
-*-*-
القلق الإبداعي
*في خضم تعدّد أشكال
المنتج الأدبي، يحضرني التساؤل مع كل إصدار.. ما الذي يضيفه إلي الإبداع عامةً،
وإلى نوعه خاصةً؟ وبماذا يتميز المبدع أو يتفرد فيه عن غيره؟
ـــ هذا سؤال يراود كل مشتغِلٍ ومشغولٍ بالإبداع،
لكنه سؤال غير منصف إلى حد كبير، فإنتاج عمل إبداعي جديد، يعني خلقه، وهذا يشبه
إنجاب أبناء تمامًا، فهل يصح أن نقول ما الذي سيضيفه هذا الإنسان إلى البشرية أو
الإنسانية عامةً، أو إلى نوعه، وبماذا يتميز أو يتفرد عن غيره؟ فلا أحد يعرف ماذا
سيضيف وما الذي سيكون عليه هذا الإنسان أو هذا المُنتَج الإبداعي وتأثيراته في
المستقبل، فكم من عملٍ تمت إعادة اكتشافه بعد موت صاحبه بسنين وأحدَث تحولًا
وتأثيرًا كبيرًا، ثم أنّ لكلِّ عملٍ متلقون، مهما كان عددهم، قليلًا أو كثيرًا،
وعليه فأعتقد بأن الأمر يستحق حتى وإن كان سيخدم إنسانًا واحدًا.
وهذا بالطبع لا يمنع المبدع من إعادة طرح التساؤلات
المشار إليها، لأنها دليل عما نسميه بالقلق الإبداعي، وهو قلق مهم جدًا، وإذا كان
صادقًا وعميقًا، سيدفع صاحبه لمزيد من الجدية والصدق والإبداع في إنتاج عمله.
-*-*-
الكتاب الورقي
*في منتصف التسعينيات
أشرت، في إحدى مقالاتك، إلى أن القارئ الإسباني بات "يتجه إلى شراء الكتاب
المرئي والمسموع والكتاب الالكتروني بعد كتاب الجيب"، كيف كانت رؤيتك وقتها،
وماذا بعد كل هذه السنوات؟
ـــ لا أنكر أنني كنت قلقًا في أعماقي حينها، بل
وخائفًا من أن يقود ذلك إلى اختفاء الكتاب الورقي الذي صاحبته وصاحبني وعشقته
وأدمنته طوال حياتي، بالطبع أحترم الجديد والتجديد والتطور، ولكنني لم أكن أتخيل،
وما زلت لا أريد أن أتخيل، بأن يكون العالم خاليًا من الكتب الورقية، فمجرد رؤيتها
تبهجني وتجعلني أشعر بالطمأنينة والمؤانسة، ولم أقم في حياتي أبدًا في أي مكان،
بما في ذلك في الخنادق أيام خدمتي العسكرية، إلا وجعلتُ فيه مكانًا للكتب أمام
ناظري… أما وبعد مرور كل هذه السنوات، وأصبح الكتاب الإلكتروني موجودًا، دون أن يتمكن
من طرد الكتاب الورقي، فقد صرت أرى فيه أمرًا عاديًا بل وضروريًا للكثيرين، وإن
كنت، أنا، ما زلت لا أحبذه حتى اليوم ولا أطيق القراءة من الشاشة طويلًا، عدا أن
ما أقرأه من الشاشة ارتبط عندي بأنه عابر وآيل إلى النسيان، مثل الذي نقرأه في
وسائل التواصل أو مواقع الأخبار وغيرها، فيما يبقى الذي نقرأه في كتاب ورقي أطول
عمرًا في الذاكرة، وحتى تعامُلنا معه أكثر جديّة، وبشكل عام توصلتُ إلى خلاصة
مفادها: إن أدوات الكتابة وحفظ الكتابة تتغير وتنتهي، لكن الكتابة لن تنتهي أبدًا
طالما وِجد الإنسان؛ بدأنا بألواح الطين ثم ورق البردي ثم الورق ثم الشاشات وقد
نكتب غدًا على الهواء.. وهكذا، لكن الإنسان سيبقى يكتب.
-*-*-
معاناة المبدعين
*الرواية، بموقعها
الراهن، ذاكرة جريحة في جسد السرد. كيف ترى الأصوات الروائية فـــي العراق- بما
يعتري المشهد العراقي من إشكالية الأفق الضبابي سياسيًا واقتصاديًا؟
ـــ أرى بأن الرواية العراقية اليوم في أفضل
مراحلها، من حيث الانتاج كمًّا ونوعًا، فلم يسبق لها أن كانت بهذا الازدهار
والانتشار، مُواكِبةً لحركة الرواية في العالم العربي والعالم، ولا تقل عنها شيئًا،
بحيث أنها زاحمت وتقدمت على بقية الفنون حضورًا، بما في ذلك فنّ الشِعر الذي عُرف
بتصدره في العراق عبر العصور. إنك لا تجد اليوم مكتبة عربية تخلو من رواية عراقية،
كما يمكنك أن تجد ترجمات لنماذج منها في أكثر من 30 لغة، وهذه أمور ما كانت موجودة
قبل 20 سنة. كل ذلك بفضل جهود الكُتّاب الفردية ودون أي تبنّي أو رعاية أو دعم أو
اهتمام من مؤسسات الدولة، ورغم أن البلد يمر بصعوبات وفوضى سياسية واقتصادية
وثقافية وأمنية متواصلة منذ عقود وحتى اليوم؛ لكن زال لدى العراقيين الكثير مما
سيقدمونه في ميدان الرواية.
-*-*-
*جرّاء التحولات
السياسية والأزمات المتوالية في المجتمع العراقي، تعرضت شخصيات أدبية والتي أثارت
أعمالها الروائية الكثير من التساؤلات حول الهوية وإشكالية الانتماء، أنت ذُقتَ
تلك المرارات لذلك كانت إسبانيا محل لجوء آمن لك. أيكون ذلك هروبًا نوعًا ما؟
ــــ نعم، إنه هروب للنجاة أولًا ومن أجل عنصرين
أساسيين بالنسبة لي، وهما: الأمان والحرية. فحرية وحياة المبدع في العراق مهدَّدة
في هذا الزمن، بل وفي كل أزمنته، وقائمة أسماء المبدعين الذين تم اعتقالهم أو
تعذيبهم أو طردهم أو إخفائهم أو إعدامهم أو اغتيالهم طويلة، أطول من قائمة
المبدعين المقتولين في أي بلد آخر، وأنا شخصيًا فقدتُ أخي والعديد من أصدقائي
المبدعين، في زمن النظام الغابر وفي الزمن الذي تلاه.
-*-*-
الرواية والحياة
*الرواية تضع الكاتب في
مأزقٍ عالقٍ بين الحياةِ والموت، بين البناء والهدم، بين الوطن والشتات. ماذا تعني
لك الرواية؟
ــــ الرواية، بالنسبة لي، هي أفضل الفنون
وأشملها لفهم الإنسان، فهم ذاتي وفهم الآخرين. إنها قادرة على احتواء مختلف الفنون
من حيث الشكل، وعلى احتواء مختلف المواضيع من حيث المتن، بما فيها المتضادات التي
ذكرتها، وهي على هذا النحو تشبه الإنسان، تشبه الحياة، ولهذا يصح وصفها بأنها
مَقطَع من الحياة. الروايات هي أكثر الكتب التي أقرأها وأكتبها، معها أشعر بالأُنس
والتفاهم.. مثل صديق حميم.
-*-*-
حركة الترجمة
*حصول نجيب محفوظ على
جائزة نوبل 1988جاء من خلال ترجمة أعماله. لذلك زاد الاهتمام بترجمة الأدب العربي
إلى عدة لغات، وهناك جهود حثيثة من مؤسسات ثقافية كبرى تبذل في هذا الشأن. من ناحيتك، كيف ترى حركة الترجمة الآن؟
ـــ إنها أكثر من السابق لكنها أقل مما يجب.
فالأدب العربي لا يقل شأنًا عن أي من آداب الأمم الأخرى، لكن لسوق الكتاب العالمي
والترجمة اشتراطات ليست متعلقة بالقيمة الأدبية دائمًا، وثمة عوامل أخرى كثيرة
تدخل من خارج جودة العمل الأدبي، كالجوائز المعروفة وتحويل رواية إلى فيلم وحدوث
ضجة إعلامية لسبب ما، إلى جانب إيجاد دار نشر مهمة ووجود آلة إعلامية مؤثرة
للترويج، فالترجمة وحدها أحيانًا غير كافية لإيصال العمل إلى مساحات واسعة من
القراء، لذا فإن الكثير من الترجمات، التي تفتقر إلى هذه العوامل المساعدة، سرعان
ما تؤول إلى المخازن والنسيان.
-*-*-
الأدب الإسباني
*كتابك "الأدب الإسباني
في عصره الذهبي": رصدتَ فيه التحولات التي طرأت على الفكر والأدب الإسباني في
القرنين الـ16 والـ17 ضمن المناخات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة وقتها. حدثنا
عن تلك التجربة.
ـــ بدأت الفكرة عندما كنتُ أحضّر لأطروحتي
للدكتوراه، حيث انغمست حينها كثيرًا بالقراءة والبحث في أدب القرون الوسطى
الإسباني، أو ما يطلقون عليه أيضًا بالعصر الذهبي، فوجدته ذهبيًا حقًا، كونه مفصليًا
في التحول والتأسيس الثقافي الذي تم البناء عليه لاحقًا لهوية الثقافة الإسبانية،
ومن ثم ثقافة كل البلدان الناطقة بالإسبانية، إلى يومنا هذا، وفكرت أن هذه التجربة
ستكون نافعة لثقافتنا أيضًا، لأنها تعيد طرح الأسئلة الجوهرية وإعادة صياغة
المفاهيم، فقمتُ بترجمة دراسات عن آداب تلك الحقبة وقضاياها من حيث الأشكال
والمضامين، إضافة إلى ترجمة 50 قصة قصيرة وأكثر من 100 قصيدة وعدة مسرحيات قصيرة.
-*-*-
المشهد الثقافي العربي
*المشهد الثقافي العربي
جزء لا يتجزأ من الواقع الذي يعيش صراعاته المتلاحقة، الروائي والشاعر والأكاديمي
محسن الرملي. ما مدى انعكاس ذلك عليك وعلى كتاباتك؟
ـــ تأثيره كبير بالطبع، لأنني ابن هذا المشهد
وأحد المتفاعلين معه، فأنا في نهاية الأمر: كاتب عربي، لغتي وذهنيتي ومواضيعي
وهمومي واهتماماتي جُلّها تنطلق من البيئة العربية وتتجه إليها. وما زال حرصي على
التواجد والفعل والمشاركة وعلى الوصول إلى القارئ العربي هو هدفي الأول، بحيث
كففتُ عن كتابة النصوص الإبداعية بالإسبانية، إلا ما نَدر، وبالنسبة لي؛ فإن
المشهد الثقافي العربي، رغم كل إشكالياته، فهو في نمو وتحسن، بل ربما يكون هو أفضل
من بقية الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها، فهو في حراك دائم ومواكبة
للجديد في العالم ومنتج لأعمال لا تقل جودة وقيمة عن الأعمال التي تنتجها ثقافات
أخرى أكثر استقرارًا.
-*-*-
إنتاج الثقافة والأدب
*بمناسبة عملك كمحرر
ثقافي في الصحافة منذ العام 1985، وإتقانك الكتابة باللغتين العربية والإسبانية،
هل من حاجة مُلحّة لدى دور النشر العربية لمهنة المحرر الثقافي؟
ـــ نعم، إنها حاجة مُلحّة وضرورية جدًا، وآن لها
أن تدخل صناعة النشر العربية بحِرفيّة، وخاصة بعد هذا النمو الكبير والمتسارع في
الكتابة والنشر. ما عاد لنا ككُتّاب أن نكتفي باستشارة بعض الأصدقاء، الذين غالبًا
يجاملوننا أو يتعاملون معنا من باب التشجيع والمحبة، وإنما نحتاج إلى مراجعات
ومناقشات محررين محترفين؛ إذا أردنا لأعمالنا أن تكون أكثر جدية وجودة. وشخصيًا
حظيت بهذه التجربة مرة واحدة، عند كتابة رواية "بنت دجلة" التي رافقني
في مراجعتها، محرر إنكليزي مُحترِف، فأدركت أكثر مدى ضرورة هذا الدور والتخصص،
وتعلمت منه الكثير.
-*-*-
*بالحديث عن لجان تحكيم
الجوائز والمسابقات الأدبية، وورش الكتابة.. كنت ضمن تلك اللجان، كما أدرت وِرشًا
للكتابة الإبداعية في بلدان مختلفة. فهل تعتبر تلك الورش مجالًا صحيًّا لإنعاش
المشهد الأدبي والثقافي في العالم العربي، وما تقييمك لتك المسابقات؟
ـــ نعم، كلاهما إيجابيان وضروريان، كضرورة وجود
المحرر الأدبي، التي ذكرناها سابقًا، وذلك من شروط مسيرتنا نحو خلق صناعة نشر وسوق
كتاب وقطاع ثقافي حيوي، قوي، فاعل ومؤثر. الأدب ليس ترفًا، أو مجرد هواية لشغل
أوقات الفراغ، كما يتصوره البعض، إنما هو هوية ومرآة الإنسان، كأفراد وجماعات،
وبما أن أحوال الإنسان متغيّرة على الدوام فلابد أن ترافقها تغيّرات في عمليات
إنتاج الثقافة والأدب، ومما يحسّن ويقوي هذه المواكبة، ضرورة دخول عناصر من صلب
تشكيلها، كورشات الكتابة الإبداعية والجوائز المحفزة، وتقييمي لحالنا فيها الآن،
هي أنها جيدة، واستطاعت، في وقت قصير، أن تساهم كثيرًا في تحريك المشهد الثقافي
والأدبي، ونحن بحاجة إلى المزيد منها والتحسين من معايير وآليات ما هو موجود،
وأخذها على محمل الجدية بشكل أكبر.
-*-*-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في العدد الـ 43 للملحق
الثقافي لصحيفة (القبس)، يونيو 2024م
https://d.alqabas.com/archive/1717011323084_CKqWu.pdf