فتاة في المدينة وأخرى في الريف
دفعتا بابلو نيرودا لكتابة أشهر قصائده
الشاعر
حقق مجده بعشرين قصيدة حب
محمد الحمامصي
يحتاج الشعر دائما إلى العاطفة المتوقدة وذلك الدفق
الكبير من المشاعر المتناقضة التي تخلق طاقة كبرى مشحونة، وهذا ربما يتوفر أكثر في
فترة الشباب، لهذا نجد الكثير من المجموعات الشعرية التي كتبها شعراء في شبابهم
تغطي على أعمالهم اللاحقة الأكثر نضجا، ومن ذلك ديوان “عشرون قصيدة حب وأغنية يأس
واحدة” لبابلو نيرودا.
يعد الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 ــ 1973)، واحدا من أهم وأشهر
الشعراء في العالم، وكان له دور كبير ومؤثر في الميدانين الثقافي والسياسي في
القرن العشرين، وقد ترشح لرئاسة الجمهورية.
حاز نيرودا على أغلب الجوائز المهمة في بلده وخارجها، أبرزها جائزة نوبل
للآداب سنة 1971. له أكثر من خمسين إصدارا متنوعا في الأدب والسياسة والصحافة
والمذكرات، التي توجها بسيرته “أعترِف بأنني قد عِشت”، وبالطبع فإن أغلب كتبه
شِعرية، متنوعة الأساليب، أكبرها “النشيد الشامل”، وأشهرها “عشرون قصيدة حب وأغنية
يأس واحدة”.
وهذا الديوان “عشرون قصيدة حب وأغنية يأس واحدة” الذي ترجمه ورسم
لوحاته وقدم له الشاعر والمترجم والأكاديمي العراقي – الإسباني محسن الرملي،
وصدر بالاشتراك بين منشورات تكوين الكويتية ودار الرافدين العراقية،
هو أكثر ديوان شعري باللغة الإسبانية تمت إعادة طباعته ونشره وترجمته وإهدائه
وبيعه، فقد ترجِم إلى أغلب لغات العالم وبيع منه أكثر من أربعين مليون نسخة.
فتاتا المدينة والريف
يضم الديوان 21 قصيدة، محورها الحب بتنوعات مشاعره
وانفعالاته، وقد أضاف إليها الرملي قصائد أخرى من مرحلة هذا الديوان، لم ينشرها
نيرودا بعنوان “الأرواح التي تستعيد نفسها بنفسها، أرواح قوية” وأوضح أنها “تسع
قصائد لم ينشرها نيرودا في حياته، وإنما تم العثور عليها بعد أعوام من وفاته،
ونشرها الملحق الثقافي لصحيفة ABC الإسبانية، وهي من بين قصائده الأولى التي كتبها في مطلع
عشرينياتهِ، في الفترة التي كتب فيها ديوانه ‘عشرون قصيدة حب وأغنية يأس واحدة‘،
ويلاحظ فيها بوضوح، مناخات هذا الديوان وبذور خصائصه وحساسيته الشعرية؛ في تناوله
لثيمات الحب وقضايا العدالة والأسئلة الوجودية وغيرها، مما تجلى لاحقا في مجمل
أعماله المعروفة، كما تبدو فيها أسس أوليات خصوصية اشتغاله الشعري، الذي عرف
بالبساطة المرهفة والمباشرة الفنية”
ويقول الرملي “كان هذا أول كتاب قرأته كاملا باللغة الإسبانية، عندما كنت
أدرسها في جامعة بغداد، مطلع ثمانينات القرن الماضي. أعجبني حينها بشدة، دون أن
أعرف الأسباب بالضبط، وبقيت ـ حتى اليوم ـ أعيد قراءته بين حين وآخر، إذْ تراكمت
لدي ّالكثير من نسخه، حيث اقتنيت بعضها لجمال طبعتها أو لقِدمِها، وأخرى حصلت عليها
كهدايا. ولربما يكون هذا الكتاب أكثر ديوان شعري، باللغة الإسبانية، أعيد نشره
وطباعته وترجمته وإهداءه، وبيعه كذلك، رغم توفره مجانا على شبكة الإنترنت”.
ويلفت إلى أن بعض التقديرات تشير إلى أن مبيعاته قد فاقتْ الأربعين مليون
نسخة، وتحولت أغلب قصائده إلى أغان، وأبياته إلى أمثال وأقوال خالدة. لقد كان هذا
النجاح الهائل لافتا، منذ البداية، بحيث أنه باع أكثر من مليوني نسخة في حياة
شاعره نيرودا، وهو العمل الذي أسس لصنع مجدِ اسمه الأدبي، وصولا إلى نيله جائزة
نوبل للآداب عام 1971، علما بأنه كان قد كتبه ونشره مبكرا، في العشرين من عمره،
حين كان يتلمّس طريقه الشعري.
يصِف نيرودا في بعض حواراته، وفي مذكراته “أعترف بأنني قد عشت”، بأنه كان
يسعى لتجاوز بداياته في ديوانه الأول “شفقيات”، الذي طبعه على نفقته واعتبره
“طفوليا”، فأراد التخلص من هيمنة المناخ الشعري الذي كان سائدا آنذاك، وتنحية
البلاغة المفرطة التي تحول أحيانا دون الملامسة المباشرة لأسرار الإنسان والطبيعة
والوجود، والبحث عن خصوصية لأسلوبه هو، أكثر بساطة واختصارا، فتمخض الأمر عن كتابه
هذا “عشرون قصيدة حب وأغنية يأس واحدة”، مستمدا إياه ممّا هو شخصي من حياته
الجامعية وعلاقات الحب الأولى، وطبيعة بلده تشيلي. ويعترف بأنه يحبه، على الرغم
مما فيه من آلام وكآبة واضطراب عواطف مراهقته العاصفة، إلا أن فيه ما يلامس متعة
الوجود أيضا.
وأضاف الرملي “انطلق استلهام نيرودا لتجاربه الشخصية، في كل أعماله، مع هذا
الديوان الذي جمع فيه ملامح عدة نساء، ممن عرفهن، في تركيبة امرأة متخيلة واحدة،
ملامح اثنتين منهن على وجه التحديد. كان طالبا ريفيا، جاء من القرية ليدرس في
العاصمة، سانتياغو، وهناك أحب زميلة له. لذا فالكتاب يتحدث عن قصة حب، قصة سعيدة
لكنها تنتهي بالفراق بعد أن هجرتْه، مزجها مع حكايةِ حبه لفتاة من قريته، حيث كان
يذهب في العطلة إلى هناك، اتسمتْ القصائد التي تعنيها بحضور أكبر للطبيعة”.
وعمد نيرودا إلى إخفاء حقيقة الفتاتين، خاصة أن إحداهن قد تزوجت في حينه،
حيث أسماهما في مذكراته: ماري سول (ماري الشمس)، والأخرى ماري سومبرا (ماري الظل).
ماري سومبرا هي فتاة المدينة وماري سول هي فتاة القرية. كان الطابع الاجتماعي،
وقتذاك محافظا يتسم بإخفاء علاقات الحب، فكان يكتب لها الرسائل ويرفق مع كل رسالة
قصيدة كتبها عنها. يقال بأنها كانت قليلة الكلام، لذا لم تكن ترد عليه، رغم أنه قد
فكر بالزواج منها. وبسبب عائلتها المحافظة، أخفتْ رسائله ولم تستطيع الرد عليها،
إلا على واحدة بعد كل أربع أو ست رسائل، لذا يقول لها في القصيدة 15:
“تعجبينني
حين تصمتين، لأنك تبدين وكأنكِ غائبة،/ تسمعينني عن بعد، وصوتي لا يمسكِ./ تبدين
وكأن عينيكِ قد طارتا منكِ/ تبدين وكأن قبلة ستغلِق فمكِ./ أنتِ كالليل، صامتة
ومرصعة بالنجوم./ صمتكِ صمت نجمة، بعيد جدا، وبسيط”.
ويلفت الرملي إلى أن موضوع صمتِها كان يؤرقه ويؤثر فيه، وهو الشاب المتحمس
المتوهج المنفعل. وللصمت أهمية في مجمل القصائد، ليس كموضوع وحسب، وإنما حتى في
الأسلوب، فيجعل الأبيات أحيانا منفردة وأخرى مزدوجة، ثلاثية أو رباعية، وصعودا إلى
ثُمانيّة وتُساعية، وما بينها ثمة صمت ما.
ولأن الديوان يتمحور حول ثيمة واحدة، فهو لا يضع عناوين لقصائده، ويكتفي
بترقيمها، باستثناء الأخيرة، حيث يخرج عن صمته فيها، ويعنونها بمفردة متعلقة
بالصوت أساسا “أغنية يائسة”.
فتاة المدينة، التي كانت تكبره بعام، فقد تعرف عليها خلال دراستهما للغة
الفرنسية في معهد إعداد المعلمين. ويعترف في القصيدة ما قبل الأخيرة التي تدور حول
الهجر والحزن والتعزي، القصيدة 20، بأنها هي التي هجرته أو كانت تنوي ذلك، وفي
الوقت نفسه، يقاوم، ويحاول قدر الإمكان، عدم الاعتراف الواضح والصريح، بأنها قد
هجرته نهائيا، لذا يقول “أستطيع” كي يحث نفسه، ويجعل الأمر نسبيا، كأنه عائد إلى
إرادته هو بشكل ما.
موازنة صعبة جميلة، ولكنه في الخلاصة يعترف، في ليلة محطمة، بأنه لا
يملكها، وبأنه يفقدها “أستطيع أن أكتب أشد الأشعار حزنا هذه الليلة. / أحببتها،
وأحيانا، هي أيضا قد أحبتْني. / أستطيع أن أكتب أشد الأشعار حزنا هذه الليلة. / أن
أفكر بأنها ليست لي. أن أشعر بأنني قد فقدتها. / ها أنا لم أعد أحبها، حقا، ولكن
ربما أحبها. / ما أقصر الحب وما أطول النسيان!”.
ويختمها بما يعتبره آخر الأبيات التي يكتبها لها “وإن كان هذا آخر ألم
تسببه لي، / وهذه آخر الأبياتِ التي أكتبها لها”.
ذروة شعرية
يؤكد الرملي أن الفن، في كل الأحوال، ليس الحقيقة، بل هو تحويلها لتشكل
واقعا جماليا آخر. وبالنسبة إلينا، كمتلقين، يهمنا النص الشعري أكثر مما تهمنا
الأحداث والحكايا القائمة خلْفها، وأحد جوانب أهمية هذا الديوان، أنه من أوائل
نصوص الشِعر المعاصر المكتوب بالإسبانية عن الجسد، إذ قليلون آنذاك من كانوا
يتحدثون عن الجسد على هذا النحو، ويسمون الأعضاء، أو يرسمون ممارسة الحب
بإيروتيكية.
في القصيدة 8 نجد “أغمضي عينيكِ/ يرفرف الليل/ عري جسدكِ/ جاءت لتنام على
بطنكِ فراشة”. إنها قصائد تتغنى بالجسد، ونيرودا، بشكل عام، كان يرى المرأة
باعتبارها مثل الطبيعة، ويربطها دائما بالطبيعة؛ الغابات، الماء، الفصول، الضوء،
الليل، الشمس، البحر، النباتات وغيرها. “جسد امرأة، تِلال بيضاء”، “عينيكِ
المحيطيتين”، “الطيور الليلية تنقر النجوم الأولى”، “أريد أن أفعل معكِ/ ما يفعله
الربيع مع أشجار الكرز”؛ وتلك من سمات اللغة الشعرية الطليعية وقتذاك، إلا أن
نيرودا كان رومانسيا في العلاقة العاطفية وفي التعبير عنها، مما حافظ على جزء من
سِمات اللغة الشعرية التقليدية أيضا، فنتج هذا المزيج.
ويشير الرملي إلى أنه يمكن وصف هذا الديوان بأنه ضمن ذروة الشِعرية
وبأنه “مضبوط” من حيث كونه المقال المناسب في المقام المناسب تماما، ولا يمكن
كتابة ديوان مثله إلا في عمر كهذا، وفي مرحلة وظرف كهذينِ، فقد كتِب بالشكل والوقت
المناسبين. كان الشِعر حينها لاتزال فيه تقليدية رومانسية، وثمة بدايات للحداثة
والطليعية، وهو يقدم نفسه كشاعر حديث، دون التخلي عن سِمات جوهرية في الشِعر
التقليدي.
ويوضح المترجم أن مواضيع الديوان متنوعة وواحدة في الوقت
نفسه؛ الحب، الجسد، الهجْر، الذكريات، الحنين، الاعتراف، الأحلام، الأوهام
والطبيعة. وطزاجة تحسس ذلك، بمشاعر مرهفة فتية لم تتضح ولم تقر رؤاها المعرفية
بعد. المفردات بسيطة بشكل عام، وتنتمي، في الوقت نفسه، إلى اللغة الأدبية الممتدة
منذ الرومانسية وصولا إلى الحداثة. يظهر بعض الغموض أحيانا، بينما يتجلى الوضوح في
أغلب الأحيان.
يستخدم نيرودا القوافي والوزن أحيانا ويكسرها بحرية في أحيان أخرى، صور
وتشبيهات مدهشة. وفي المحصلة، فقد حقق نيرودا في هذا الكتاب نموذجا ناجحا للتواصل
مع القارئ، دون أن يتخلى تماما عن التقاليد الشعرية أو السمات الحداثوية التي
راجتْ في عصره. ثمة لغز ما في هذا العمل، يتعلق بلغز الشِعر نفسه، الأمر الذي يجعل
قارئه يعيد قراءة القصيدة أكثر من مرة، ويتوقف عند بعض الأبيات محاولا سبْر ما
تنطوي عليه أو ما توحي به.
ويرى الرملي أنه على ضوء ذلك وغيره، يستطيع القول، الآن، بأنه أدرك إلى حد
بعيد، بعض أسباب إعجابه الشديد بهذا الديوان منذ قراءته الأولى له، ومنها: أنه قد
كان في عمر الشاعر حين كتبه، في بدايات مغادرته لمرحلة المراهقة، لغته بسيطة بشكل
عام ولغة الرملي الإسبانية أبسط، وفيه ضبابية في الرؤية، عواطف جياشة مضطربة، طاقة
في الجسد والحواس، حساسية عالية للمتعة والجمال والألم، تضخيم للتفاصيل الصغيرة
وتصغير للقضايا الكبرى، تقاطعات بين الرومانسية والواقع، بين إرث التقليد ونداء
الحداثة، بين الثقة بالنفس ورهبة المجهول، بين الكبرياء والاستسلام، بين التغني
والإدانة، بين الرفض والقبول، بين الرغبة بالتملك والتخلي، بين الهمس السري
والصراخ، بين المعرفة والحدس، بين الأنا والآخر، بين الذات والطبيعة، وضوح مشوب
بالغموض وغموض يوهم بالوضوح، وما إلى ذلك من سمات إنسانية تطبع تلك السِن، خبرناها
جميعا، ومازالت آثار أغلبها في دواخلنا، نعاوِد تحسسها بين الحين والآخر؛ وقراءة
ديوان كهذا تساعدنا على فعلِ ذلك.
كما يعتقد بأن هذا الديوان ما كان بوسعِ نيرودا
كتابته إلا بتلك السن تحديدا، فبعد تلك المرحلة تغيرت رؤاه، وظروفه، وتجاربه
الحياتية كذلك. مضيفا “إنني كقارئ، مثل نيرودا كمؤلف، أحببت هذا الديوان؛ بما فيه
من طزاجة، وكآبة، وقوة وضعف وجمال وألم واضطراب وإيروتيكية وأوهام وتقليد وتجريب
ووضوح وغموض وصور عن مشاعر ورؤى مرحلة جوهرية في حياتنا، وها أنا هنا؛ بعد أكثر من
ثلاثين عاما، أقوم بترجمته بمحبة، وكنوع من الشكر على رفقته في أوقات مختلفة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (العرب)، العدد 12903 بتاريخ 25/9/2023
لندن.
https://alarab.co.uk/%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%AF%D9%81%D8%B9%D8%AA%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%88-%D9%86%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AF%D8%A7-%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A3%D8%B4%D9%87%D8%B1-%D9%82%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D9%87
https://alarab.co.uk/sites/default/files/2023-09/13_23.pdf