محسن الرملي
أعمال الكاتب هي سجل حضوره الحقيقي
حاورته: أبرار الأغا
الروائي والشاعر والمترجم والأكاديمي العراقي محسن
الرملي هو أحد الأسماء اللامعة في سماء الأدب العراقي، يتمتع بحرفية عالية في
توظيف الأدوات الإبداعية في كتاباته، يتمكن من اختراق ذات القارئ بكل سهولة؛ فيسجل
في النفوس كلمات يمكن استحضارها وتذكرها بعد وقت طويل من القراءة، وينقش في
الذاكرة تاريخاً وأحداثاً لا تُنسى مع مرور الأيام.
وُلِد الرملي في قرية "سُديرة" العراقية عام
1967 ويقيم حالياً في إسبانيا، وله أكثر من ثلاثين إصداراً باللغتين العربية
والإسبانية ولغات أخرى، منها روايات وقصص وأشعار وكتب في الأدب وكتب مُترجمة، ومن
رواياته: "الفتيت المبعثر" و"تمر الأصابع" و"حدائق
الرئيس" و"ذئبة الحب والكتب" وأخيراً رواية "بنت دجلة"..
وكان لـ 999 الحوار التالي معه:
-
ماذا
تعني لك "سديرة"؟
- مهبط روحي، بيت أهلي ومقبرتهم، مهد
أحلامي، جذور حزني، ركن الحب والوجع، ساقية دمع أمي وأخواتي، ساحة خطواتي الأولى، حقل
أفضل علاقاتي ببقية الكائنات من حيوانات ونباتات وحشرات وطيور وعقارب، دفتر كلماتي
الأولى، مصدر شخصياتي، مسرح الضحك الصافي والبكاء المُر، مدرستي الأولى في البساطة
والطيبة والصبر، مسجد صلواتي الأولى، السماء الوحيدة التي رأيت فيها ملائكة وتحدثت
معهم، التراب الذي لعبت فيه وأكلت منه ورسمتُ عليه وصنعت من طينه ألعابي.. ويُفترض
أن أُدفن فيه وأتحول إلى جزء منه.
-
من
المعروف أن شقيقك المرحوم حسن مطلك له دور بارز في حياتك الأسرية والأدبية
والثقافية، فهلا حدثتنا عن هذه العلاقة؟
- نعم، كان وما يزال بالنسبة لي الأخ
والصديق والمعلم والقدوة والمثال والأب الروحي، علَّمني في حياته وفي موته، حياته
الحُرّة وموته المأساوي، وإذا جاز القول بصناعة شخص لآخر، فأنا صنيعة حسن مطلك،
والمرة الوحيدة التي فكرت فيها بالانتحار هي عندما قتلوه، ولكنني وفي اللحظة
الأخيرة، قررت العكس، وهو أن أعيش حياة مضاعفة، لي وله، وأن أعمل على إبقاء ذِكره
حيّاً ما حييت، لذا واصلت الاشتغال على ما تركه من مخطوطات ونشرها حتى اليوم.
-
من
واقع تجربتك.. ماذا تضيف الدراسة الأكاديمية إلى الكاتب والروائي؟ وهل انعكس ذلك
على كتاباتك؟
- أي معرفة وأي تجربة أو تعلُّم إضافي سيضيف
للكاتب، وبالنسبة لي فقد اخترت تخصصي الأكاديمي في اللغة والأدب بسبب شغفي
بالقراءة والكتابة ومن أجلهما، وقد نفعني ذلك في تعميق معرفتي بهما أكثر، وفي
البحث والتنقيب في الإرث الأدبي والوقوف على عناصر الناجح والخالد منه، إلى جانب
إثراء اللغة والتي هي أداة الكاتب الوحيدة، وبالتأكيد قد انعكس كل ذلك على كتاباتي
بحيث طغت عليها بالتدريج، التقنيات والبناء الكلاسيكي أكثر من الحداثوي والتجريبي
الذي اتسمت به كتاباتي الأولى.
-
تناولت
أطروحة الدكتواره خاصتك "تأثيرات الثقافة الإسلامية في الكيخوته"، فما
أبرز هذه التأثيرات؟
- وجدتها
أكثر مما توقعت وأكثر مما أشار إليه باحثين أسبان قبلي، وأبرز ما تناولته هي
التأثيرات، الأدبية، التاريخية، الشخصية، الدينية واللغوية، وطرحت رؤية مختلفة عن
السائدة حوله فيما يتعلق بنموذج الفروسية وشخصت كيف أن الكيخوته يلتزم ويتَمَثُل شروط الفروسية العربية أكثر من
تمثله لشروط الفروسية الغربية، ومنها البلوغ ووجود معشوقة ونظم الشِعر أو حفظه،
والأهم أنه يدافع عن الفقراء والمظلومين واليتامى والأرامل والمهمشين، فيما
الغربية تأسست للدفاع عن الملوك وأصحاب السلطة والأغنياء.. كما قمت بتحليل وتأويل
مغاير لما هو سائد حول رؤية ثربانتس للإسلام والمسلمين ولنبيهم، الذي ترد الإشارة
إليه ست مرات في الرواية.
-
أنتَ
تتقن العربية والإسبانية فهل هناك خيط بين اللغة العربية واللغة القشتالية التي
تطورت إلى الإسبانية المعاصرة؟
- ليس خيطاً واحداً ولا بضعة خيوط.. وإنما
شبكة واسعة وعميقة، وأحياناً معقدة، تربط بين هاتين اللغتين العظيمتين والجميلتين،
وهي بالطبع تتعلق بتأثير العربية على الإسبانية وليس العكس، فعدا وجود آلاف
الكلمات الإسبانية من أصل عربي، هناك تأثير واضح في تركيبة الجملة والعبارات نفسها
وفي توظيفات الصفات والضمائر وأدوات التعريف والاشتقاقات والقواعد واللفظ والإيقاع
وضبط مخارج الحروف والأصوات وغيرها، وبالطبع انسحب هذا التأثير على الآداب
المؤسسِّة في هذه اللغة شِعراً ونثراً، وبالتالي امتد ليؤثر على أنساق الذهنية
والثقافة الإسبانية بشكل عام.
-
نعتتك
صحيفة "الغارديان" البريطانية بأنك نجم من نجوم الأدب العربي المعاصر..
فما وَقْع ذلك في نفسك؟
- لا أميل كثيراً إلى تصنيف (النجومية) فيما
يتعلق بالأدب، على غرار ما هو في الرياضة والغناء وغيرها، فالأديب أصلاً، يقضي في
العزلة من الوقت أكثر مما يقضيه مع الناس أو تحت الأضواء، وبالطبع إشارات كهذه
تسعده، لأنها تنبه إلى أعماله وتحث على الاطلاع عليها، فالحضور الحقيقي والأهم لأي
كاتب هو حضور أعماله أكثر من شخصه.
-
لديك
مؤلفات عدة مترجمة إلى أكثر من عشرة لغات.. فماذا تضيف الترجمة إلى الروائي؟
- إنها تطمئنه على أن في رواياته، هناك ما
هو إنساني وجمالي يهم الآخرين في أماكن وثقافات أخرى غير مكانه وثقافته الأولى أو
الخاصة، فنجاح عمل مُترجم سيعني أنه ينطوي على قيمة وجمالية معينة.. حتى بعد
تعريته من زينة وثوب لغته الأولى وإلباسه ثوب لغة أخرى. عدا أن الروائي سيعرف أكثر؛
مواطن القوة والضعف في اشتغاله، كلما تلقى المزيد من الآراء النقدية ورسائل
وتعليقات القراء من جهات وثقافات مختلفة.
-
زودتَ
المكتبة العربية والإسبانية بإرثٍ يزيد عن الثلاثين إصداراً.. فما وصيتك للقراء؟
- وصيتي لهم أن يستمروا بالقراءة، وللذين لم
يقرأوا أن يجربوا القراءة ولن يندموا، لأن القراءة هي مفتاح المعرفة، والمعرفة هي
مفتاح كل شيء.
-
هل
تعتقد أن الرواية العراقية وصلت إلى قمة هرم الرواية العربية؟
- لا توجد قمة ولا هرم في الرواية ولا في
الفنون عموماً، ذلك أن الفنون هي التي تفتح آفاقاً جديدة دائماً، وتواصل البناء التراكمي
على ما سبقها. أما عن الرواية العراقية فأعتقد بأنها قد حققت اليوم حضوراً غير
مسبوق عربياً وعالمياً، فصرنا نجد لها الكثير من القراء والمتابعين في كل البلدان
العربية، ونجدها في المكتبات جنباً إلى جنب مع روايات البلدان الأخرى التي عُرفت
بقوتها الروائية في العقود السابقة، كما يتم تناولها من قبل النقاد العرب وإقامة
الندوات والأمسيات عنها وكتابة البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه في جامعات
مختلف البلدان العربية، وعالمياً، فلأول مرة، لدينا أعمال تمت ترجمتها إلى أكثر من
ثلاثين لغة ونالت ترجماتها على جوائز معروفة.
-
بما
أنك ملامس للثقافة الغربية، كيف يرى الغرب الثقافة الأدبية العربية المعاصرة؟
- إنه جاهل بها إلى حد كبير، وما نعرفه نحن
عن آدابه وما نترجمه منها أضعاف ما يعرفه هو أو ما يترجمه من الأدب العربي. ومن
خلال الحديث الصريح مع العديد من الأصدقاء منهم، يعترفون بهيمنة مركزية الثقافة
الغربية على أذهانهم، بحيث تجعلهم يرون في آدابهم أنها هي الصوت وغيرها الصدى..
إلا أن الأمر الآن، في بداية تحولاته نحو النظر الجاد والموضوعي والمحترم تجاه ما
ينتجه غيرهم في الثقافات الأخرى، ومنها العربية، وخاصة في ظل عالمنا المعاصر الذي
زاد فيها الانفتاح والتواصل والتقلبات الراديكالية المؤثرة على الجميع.
-
تعد
رواية "الفتيت المبعثر" باكورة إنتاجك الروائي، فهل تعتقد أنها هي من
صنعت اسم محسن الرملي؟ وما المكانة التي تحملها هذه الرواية في قلبك؟
- نعم، كانت البداية بالتعريف بي على نطاق أوسع،
كما أن لها الفضل في مساعدتي على التفرغ لكتابة أطروحة الدكتوراه، فقد أتاح لي
مبلغ جائزة ترجمتها الإنكليزية، فرصة ترك العمل الاضطراري لتأمين العيش، كعامل في
أسواق بيع الجميلة في مدريد، وهكذا فمكانتها كبيرة في قلبي وذاكرتي، عدا أنها
رواية قصيرة ومكثفة وطازجة فنياً في تجربتي الروائية، استطعت من خلالها قول
الكثير، وحين أعدت قرأتها بهدف التغيير فيها من أجل طبعة جديدة، أعجبتني حقاً ولم
أجد فيها ما أُغيره، بل أحياناً، أتمنى لو أنني أستطيع الآن أن أكتب مثلها من حيث
القِصر والكثافة والحس الأنقى والأكثر براءة.
-
تندرج
رواية "بنت دجلة" تحت التراجيكوميديا.. فما الرسالة التي أراد محسن
الرملي إيصالها للقارئ؟ وهل هي جزء الثاني لرواية "حدائق الرئيس" أم
أنهما روايتان مستقلتان؟
- هي رواية متصلة منفصلة، يعني؛ يمكن
قراءتها كجزء ثاني مكمل لحدائق الرئيس، ويمكن قراءتها كرواية مستقلة. حاولت فيها
أن أصور الفوضى القاتلة التي عصفت بالعراق كدولة وكشعب وكأفراد في ظل الاحتلال والتي
ما زلنا نعاني تباعتها. هي أصعب رواية كتبتها حتى الآن، ولكنها الأكثر احترافية
وحبكة.
-
في
هذه الفترة الزمنية ماذا يكتب قلم محسن الرملي؟
- أشتغل على بقية إرث أخي حسن مطلك ودفاتره
وأوراقه، من أجل إعادة نشر ما نُشر منها، وما لم يتم نشره من قبل، من قصص قصيرة
وكتابات أولى ويوميات وحوارات وغيرها، ومازال يدهشني، كيف استطاع أن ينجز كل هذا
الجمال في أقل من عشر سنوات وقبل أن يبلغ الثلاثين منه عمره!
------------------------
*نشر في
مجلة (999) الإماراتية، العدد 604، السنة 50، ابريل 2021
https://www.moi.gov.ae/DataFolder/2021magazine999/arapr2021.pdf