بَلَح العراق..
ورائحة الوطن
علاء الديب
تأخرت كثيراً في التعرف على أدب الكاتب
العراقي الحر «محسن الرملي» الذي يقدم صوتاً فريداً متميزاً، خاصة في الرواية
القصيرة، أنه يعيش في إسبانيا بعد أن هرب من جحيم الدكتاتورية العراقية الفريدة
سنة 1993 ليدرس في إسبانيا الفلسفة، ويقوم بالتدريس في الجامعة، ويكتب الشعر
والقصة، والرواية بالعربية والإسبانية. هو من مواليد شمال العراق، أجمل وأقدم قري
علي نهر دجلة، وقرب بترول كركوك.
أصدرت الهيئة العامة للكتاب أخيراً طبعة
جديدة من روايته الرائعة «تمر الأصابع». التي تسجل في فنية عالية وايجاز نافذ،
تاريخ ثلاثة أجيال في التعامل مع دكتاتورية العراق وحروبها المتلاحقة، التي كانت
عين العاصفة التي قلبت العالم العربي كله رأساً على عقب.
«محسن الرملي» نفسه ـ كما تقدمه سيرته
الذاتية المتاحة ـ نموذجا فريداً لبحث الإنسان عن الحرية، وقدرته علي المقاومة والإبداع
تحت أي ظروف، وهو من مواليد (1968) في قرية سديرة، وهو شقيق الكاتب العراقي الذي
أعدمه نظام صدام 1990 بتهمة قلب نظام الحكم (لم يكن لأحكام الإعدام سبب). خدم محسن
الرملي في الجيش العراقي في أثناء الحرب الايرانية 3 سنوات كقائد دبابة، وفي 93
هرب إلى الأردن، تاركا العراق، وتاركا قلبه وحبه وروحه في بلد يعشقه أهله عشقاً
يماثل وأحيانا يفوق عشق المصري لأرض النيل، هل لأننا بلاد قديمة، أم لأننا أبناء
نهر، أم لأن تاريخنا المركب يزيد من ارتباطنا بالأرض والأهل وبرائحة الوطن.
رواية «تمر الأصابع» تنتقل في سلاسة،
وسرد وروائي عذب بين القرية الواقعة علي نهر دجلة، وقلب مدريد، وتحكي صراع جد وأب
وحفيد من عائلة المطلق مع حكم غاشم ونظام فاسد وصل إلى إلغاء معني وجود الإنسان أو
كرامته أو أي قدرة على الاختيار.
الجد الشيخ صحب حفيدته إلى المدينة لكي
يعرضها علي طبيب، ومن سيارة مرسيدس من مد شاب أمن يده وضرب مؤخرة الفلاحة الجميلة
المريضة التي تسير في صحبة جدها. «أنت مش عارف الولد ده مين؟! أبن سكرتير مدير
مكتب الرئيس في تكريت! لم يسكت الجد ولا الأب الذين كانا يؤمنان بالمثل الذي
يعيشان به «إذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه، ولكن إذا عضك فعضه». انقلبت الدنيا
وأخرج الأب نوح العملاق الشاب الرقيع من سيارته وطرحه أرضاً واستولى منه علي
مسدسه، وأفرغ الرصاصات وأصر على أن يحشرها في مؤخرته، واحتفظ في يده برصاصة
للذكري، انقلبت الدنيا مرة أخري أو انعدلت ، وانتقمت الحكومة من القرية كلها،
وشطبت اسم العائلة من السجلات المدنية، وسحبت من الناس بطاقاتهم الشخصية، وأخبرتهم
مع تغيير ألقاب عائلاتهم وأطلقت عليهم اسما مهينا «بدلوا ألقابنا جميعا من
(المطلق) إلى (القشمر) وكلمة (قشمر) في العامية العراقية توحي بالاستخفاف
والاستهانة والإهانة وتسم من تطلق عليه بالغفلة أو الغباء، وفي قواميس اللغة
الفصحي التي قلبتها لاحقا تعني: القصير، الغليظ المجتمع بعضه علي بعض. سمعت اسمي
وأنا محمول: سليم نوح القشمر، ثم ألقيت علي الأرض فآلمني ظهري.
قالت أمي «كنا نستلمكم جثثا مع الهوية
والرعب يخرسنا. قلت: وجدي؟ قالت بخير، لم يضربوه كثيرا ولكنهم حلقوا لحيته وشاربه،
ورأسه مثل الجميع:
غرقت حبيبة سليم.. «ابنة عمه «عاليه» في
دجله التي كانت تقول عنه انه صديقها. الأب الذي احتفظ بالرصاصة مُصراً على مواصلة
الانتقام بعد ان تصاعد الصدام بين القرية والسلطة، ومات الجد مختنقا بالقهر
والاهانة حيث انه لم يقدر علي ان يعض الكلب الذي عضه. وبعد ان غيرت القرية مكانها
وانتقلوا إلي جزيرة بين النهر والجبل، لم تتركهم الحكومة، وأعادت لهم جثث 17 من
شباب القرية في صناديق ولم تسمح لهم بدفن الجثث إلا بعد أن تعفنت وخنقت رائحة
الموت كل كائن حي.
غادر الأب نوح أولا إلى مدريد وافتتح
لنفسه مرقصا وملهى محتفظاً في سلسلة مفاتيحه بالرصاصة، وقد علم أن الشاب الرقيع
يعمل دبلوماسيا في السفارة، وأخذ يتحين فرصة لمواصلة الانتقام.
أما الابن سليم فقد غادر أقواس العراق مغتربا
حيث التقي صدفة أباه وقال له إنه يفكر في أن يكتب قصة العائلة، ولكنه يخاف أن يفضح
أسرارا عائلية. وقال الأب كلمة تفتتح بها الرواية التي نسجها المؤلف نسيجا مشوقا
عاطفيا مشحونا بالفكر والعاطفة والإثارة: يقول الكاتب في أول الرواية بعد لقاء
الصدفة في مدريد مع أبيه:
«ما كنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا
تشجيع أبي لي وهو يحلق شعر رأسي في مرقصه المدريدي، قائلا: اكتب ما تشاء فلن يحدث
أسوأ مما حدث.. هذا العالم جايف وجايف مأخوذه من جيفه!!
العالم الذي صنعه الفنان محسن الرملي في
روايته «تمر الأصابع» نابض بالحساسية، وبالحب، والجنس، والحرية، والفكر، خلال بناء
روائي جميل سريع ومعبر، ولغة نادرة العذوبة والسلاسة.
تأخرت كثيراً في اكتشاف كمية الجمال
الفني التي يمكن أن تخرج من بشاعة الحدث اليومي الذي تعيشه العراق، والذي نراقبه
جميعاً، وكأننا تحولنا إلى تماثيل من الحجر تجسد الذهول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ*نشرت في صحيفة (الأهرام) المصرية، بتاريخ 3/12/2014 السنة 139 العدد 46748