محسن الرملي: اخترت الإسبانية لأقرأ
ماركيز فتغيرت حياتي كلها
تحولات العصر وتأثيرات
السوق والصحافة أدت إلى ازدهار الرواية
حاوره: صفاء ذياب
كانت إسبانيا، بالنسبة لنا نحن الشباب،
عالماً مجهولاً لما نقرأه من روايات لكتاب إسبان، أو روايات كتبت باللغة
الإسبانية، إلا أن (مجلة ودار ألواح) قدمت لنا هذا العالم من جديد عن طريق أعداد
تميزت بموادها الغنية والمهمة، فضلا عن الكتب التي كانت تصلنا فرادى عن هذه الدار.
ألواح التي أصبحت رمزاً للنشر الفردي وغير المؤسساتي في العراق، أسسها وأدارها
الكاتبان العراقيان محسن الرملي وعبد الهادي سعدون.
ملحق "أدب وثقافة" حاول تسليط
الضوء على تجربة محسن الرملي القصصية والروائية والشعرية، على الرغم من أنه كان
متخوفاً من الخوض في ضمار الشعر، فبعد تررد قدم نفسه للوسط الثقافي الإسباني
كشاعر، وبعد نجاحه، زادت ثقته بنفسه، بحسب تعبيره، ليقدم نصوصه الشعرية في العراق.
إلا أنه بقي أميناً وحارساً لمنارة القصة القصيرة وقلعة الرواية. عن تجربته
الأدبية وإدارته لدار ألواح كان لنا هذا الحوار:
*اشتغلت في روايتك الأخيرة (حدائق الرئيس)
على سرد الأحداث التي مر بها العراق من خلال ثلاث شخصيات ارتبطت معا في جوانب عدة.
كيف كانت لعبة السرد التي بنيت عليها روايتك في توصيف هذه الأحداث؟
- منذ وقت طويل
وأنا أحلم بكتابة رواية مثل "جسر على نهر درينا" لليوغسلافي إيفو
إندريتش التي سردت تاريخ بلاده على مدى أجيال عبر اتخاذها للجسر مرتكزاً يربط
الأحداث والأزمنة، وبالطبع فأنا لا أمتلك قدرته، لكنني، على الأقل، حاولت تجسيد
هذه الرغبة بشكل معين، فتناولت ثلاثة أجيال وسعيت لتغطية مساحة خمسين عاماً من
تاريخ العراق الحديث، فاتخذت هذه الشخصيات من مواليد 1959، ونحن نعلم في العراق كم
عانى أصحاب هذه المواليد والمواليد اللاحقة لهم، إذ شهدوا الحروب المتوالية
والدكاتورية والحصار وخراب البلد واحتلاله، ومن خلالهم رويت شيئاً عن جيل آبائهم
وجيل أبنائهم، ومدى تأثير هذه الأحداث على حياة الناس البسطاء واللعب بمصائرهم،
ومدى معاناة الضحايا. بكيت وأنا أكتب بعض المشاهد، لأنني استحضرت أصلها الواقعي
الذي عايشته.
*بين (الفتيت المبعثر)، (تمر الأصابع)
و(حدائق الرئيس)، ما التحولات التي طرأت على رواية الرملي، خصوصا وأنك أتيت لعالم
الرواية من لعبة القصة القصيرة؟
- التحولات كانت
في الأسلوب وفي المراحل التي تناولتها كل رواية، ففي الأسلوب كانت "الفتيت
المبعثر" أكثر تجريباً وتكثيفاً وإيحاءات رمزية، وفي "تمر الأصابع"
اعتمدت الثنائيات في كل شيء تقريباً من حيث مستوى السرد والزمان والمكان والمواضيع
والانشطار النفسي، أما في "حدائق الرئيس" فقد عدت للسرد المستقيم
المباشر الذي يركز على الموضوعة أكثر من التجريب باللغة، إلا أن هذه الرويات
الثلاث تشترك جميعها بأنها تتحدث عن العراق وأثر الأحداث والتقلبات السياسية عليه،
الأولى عن الحرب العراقية الإيرانية، والثانية عن إشكاليات الهجرة وأزمة الهوية
والدكتاتورية، والثالثة حاولت استعراض مساحة أوسع من تاريخ العراق الحديث مع
التركيز على ما حدث له قبل وأثناء وبعد الاحتلال الأميركي. ومسألة التحولات في
السرد، متأتية من طبيعة محتوى كل عمل وكذلك متأثرة بتحولات السرد الروائي في
العالم بشكل عام.
القصة القصيرة لم تعد تكفيني
لقول كل ما أريده
*كانت القصة القصيرة عالمك الأخير حتى
فترة ليست بالبعيدة، اشتغلت من خلالها على عوالم وشخوص وإشارات عرّفت القراء بمحسن
الرملي، لماذا هذا الانقلاب الى الرواية؟
- لم أنقلب
عليها، فهي رافقت مسيرتي الكتابية منذ البداية وأعتقد بأنها سترافقها حتى النهاية،
الأمر معروف للجميع من أن الفكرة أو الموضوع هو الذي يفرض شكله، لذا فإن بعضها تكون
القصة هي الأصلح له والآخر يصعب عليها استيعابه، وأنا أستغرب من استغراب البعض أن
يكتب الكاتب في أكثر من جنس، فهو في النهاية كاتب ومادة عمله الكتابة بغض النظر عن
تنوع أشكالها، وانتقال كاتب من القصة إلى الرواية أمر عادي وطبيعي، إذ كلما زادت
التجربة والمعرفة والعمر اتضحت ونضجت رؤيته أكثر، والرواية هي في الخلاصة رؤية
للعالم أو لحدث أو موضوعة معينة، وأقول ما كان يقوله حسن مطلك: أشعر أحياناً بأن
القصة القصيرة لم تعد تكفيني لقول كل ما أريده، وذلك لأنها ببساطة (قصيرة). أما دليلي
على أنني لم أتخل عن القصة هو هذا التوالي والتناوب بإصدارها مع رواياتي، فلي أربع
مجاميع قصصية فيما لي ثلاث روايات، وما زلت أكتب القصة طبعاً.
*تحول الكثير من الشعراء والقصاصون الى
الرواية بوصفها "لغة العصر" كما يشاع، هل تعتقد أن الأمر صرعة جديدة في
عالم الكتابة، أو أن هناك نضجا ما يصل إليه الكاتب ليترك ما بدأه في انطلاقاته
الأولى؟
- لا ضير في أن
يكتب الجميع الرواية، بل يستحسن وسيحدث أن يكتب كل شخص روايته بنفسه، فالرواية
ليست حكراً على أحد وإنما هي فن الجميع، أما عن شيوعها أو بروزها مؤخراً فلهذا
عوامل كثيرة تتعلق بتحولات العصر وتأثيرات السوق والصحافة والسينما وقدرة الرواية
على استيعاب أي شيء وأي موضوع وأي أسلوب وأي جنس كتابي آخر وخاصة بعد أن تراجع مستوى
التجريب فيها وتراجع الاشتغال اللغوي، مثلما تراجعت المناهج النقدية وضوابط
الكتابة والتجنيس، وما أكثر الشعراء الذين أثروا الرواية العالمية بروايات جميلة.
*يقال أنك اخترت إسبانيا بلدا للإقامة
لكي تقرأ "ماركيز" بلغته الأم، كيف كان التحول إلى هذه اللغة؟ وما الذي
أضافته بثقافاتها وكتاباها لك؟
- لم تضف لي وحسب
وإنما أعادت تكويني وغيرت حياتي تماماً، بالفعل، كان منطلق توجهي للتخصص باللغة الأسبانية
لهذا الغرض، إذ كان انبهارنا كبيراً مطلع ومنتصف الثمانينيات بأعمال ماركيز وبموجة
الواقعية السحرية، وكانت تلك نصيحة أيضاً من صديقي وابن قريتي الكاتب الراحل إبراهيم
حسن ناصر صاحب رواية "شواطيء الدم، شواطئ الملح"، ومنذ البداية أحببت هذه
اللغة وكنت من العشرة الأوائل على دفعتي، فبعثتنا الجامعة لإسبانيا شهراً للمعايشة،
وهناك، في مدريد، كانت بداية معرفتي بالبياتي أيضاً. وبإيجاز، اخترت الأسبانية لأقرأ
ماركيز، فتغيرت حياتي كلها، ولم يعد ماركيز الآن يدهشني كما كان آنذاك، حيث انفتحت
أمامي آفاق هائلة وأوسع من الآداب المكتوبة بالأسبانية واخترت لرسالتي للدكتوراه قمتها،
ألا وهي رواية "الكيخوته".. كما جربت وما زلت الكتابة والنشر بالإسبانية
أيضاً، ولي أصدقائي وقرائي وحياتي فيها.
من الترجمة تعلمت الكثير
لأنها مدرسة حقيقية لتعلم الكتابة
*قمت بترجمة عدد من الكتب من الاسبانية
الى العربية، أين تضع هذه التجربة والمعرفة الجديدة في خطواتك الابداعية؟ وهل ثلمت
من لوح إبداع محسن الرملي الآخر؟
- إنها واحدة من
أهم تجاربي كقارئ وككاتب، فمن الترجمة تعلمت الكثير لأنها مدرسة حقيقية لتعلم الكتابة
أيضاً، وعلى الرغم من كل ما ترجمته من كتب ونصوص متفرقة أتمنى لو أجد الوقت والفرصة
لترجمة أعمال أخرى تعجبني وأود لو يطلع عليها أصدقائي والقارئ العربي، لكنها كما قلت،
عادة ما تكون، من حيث الوقت والجهد، على حساب المشروع الشخصي لي ككاتب.
الشعر هو الوحيد الذي سيبقى
محافظاً على امتيازه وممثلاً مخلصاً ونقياً لروح الأدب واللغة
*كان للشعر نصيب منك في ديوانيك (كلنا
أرامل الأجوبة) و(نائمة بين الجنود)، لماذا دخلت وخرجت من عالم الشعر بشكل خاطف؟
- ربما أكون قد قدمت نفسي كشاعر بشكل
مفاجئ، أو خاطف، على حد قولك، ولكنني لم أخرج منه بعد، ولا أظنني سأفعل، ذلك أنني
ومنذ تعلقي بالقراءة، أنا مُدمن على قراءة الشعر وكنت، مثل معظم الناس، أكتبه لنفسي
وللمقربين. ولكن لأن الشعر في نظري هو أرقى الفنون ولأن العرب أمة شعر ولأن العراق
بلد شعر بامتياز، لذا كنت وما زلت أخاف من تقديم نفسي شاعراً بالعربية، وهكذا قدمت
نفسي شاعراً بالإسبانية أولاً، وتقبلهم لنصوصي هو الذي منحني الثقة لتقديمه
بالعربية لاحقاً. في رأيي أن الشعر هو الوحيد الذي سيبقى محافظاً على امتيازه
وممثلاً مخلصاً ونقياً لروح الأدب واللغة ومفارقاً للتعبير اليومي، فيما الأجناس
الأخرى تزداد اقتراباً من الكلام العادي حتى تكاد تصبح لغتها لغة الشارع ذاته.
*إلى أي مدى يمكن أن يكون الكاتب صادقا
مع نفسه فيما يكتبه؟ أم أن الابداع تزويق لآلام الآخرين وعذاباتهم بشكل شيق ومثير
للقارئ؟
- الصدق في
الكتابة ومعها هو غير الصدق في الحياة الواقعية، وعلينا أن لا نظلم أحدهما عبر
قياسه بالآخر، وفي رأيي أن الصدق في الكتابة شرطاً أساسياً لنجاح النص، بينما
الصدق في الحياة قد يكون سبباً رئيسياً لخراب بيوت الكثيرين فيما الكذب جسراً
لنجاح آخرين كالساسة على سبيل المثال. والصدق في الكتابة لا يعني أن تكون واقعياً
لأن الأدب هو مزيج بين الخيال والواقع وأحياناً يكون خيالاً بمجمله، لكن المهم هي
قدرة الكاتب على التعبير والإيصال الحقيقي لما يتخيله ويتفاعل معه ويشعر به، لوصف
ما يراه هو بغض النظر عن تطابق ما يراه مع الواقع الذي يراه غيره. ولست معك بأن
الكتابة "تزويق للآلام"، فهي قد تكون العكس أحياناً كإعطاء وجه موجع وتراجيدي
لما يراه الأغلبية سعادة. الصدق في الكتابة هو الصدق مع النفس والتمكن من تنبيه
وتدريب القارئ على ذلك.
*تجربتك في دار ومجلة ألواح كانت متفردة
وقتها، فقد أسهمت في طباعة عدد كبير من الكتب الابداعية لمبدعين عراقين وعرب، فضلا
عن مجلة ألواح التي أثارت موضوعات إشكالية في أغلب أعدادها، كيف تصف هذه التجربة؟
لماذا توقفت؟ وهل هناك من مشاريع أخرى مشابهة لهذا المشروع؟
- نعم، تجربة
ألواح كانت ضرورية وناجحة، ربما لأنها جاءت في الوقت المناسب ولاستنادها على
الحرية في تناول وطرح كل شيء والانفتاح على الثقافات الأخرى وما هو جديد، يدعمها
حماس الشباب من قراء وكتاب في وقت كانت فيه الأنظمة والشللية تضيق على أصواتهم،
عملنا عليها بقناعة وحب وجدية فأثمرت. أما عن توقفها فذلك لأننا نعتقد بأنها قد
أدت دورها في المرحلة التي ظهرت فيها وهي على مدى عشر أعوام بين 1997 و2007 إذ برزت
لاحقاً شبكة الانترنيت واتسعت مساحات الحرية والتواصل بين الثقافات والأجيال والتي
كانت من بين أهداف ألواح، كما أن تزايد انشغالاتنا ومسؤولياتنا مع تقدم العمر
وارتفاع تكاليف الطباعة والتوزيع وغيرها.. كل ذلك أدى إلى قرار إيقافها وانغماسنا
أكثر بالحياة الثقافية الأسبانية، وربما لو أتيحت لنا ظروف أخرى مستقرة وإمكانيات
في العراق أو أي بلد عربي آخر لأعدناها بدفق وروحية جديدة.
أخشى على الشباب أن يرثوا
سلوك الخصومات والمناوشات الضيقة كمعارك المقاهي والصحافة
*برز في العراق جيل جديد من الشباب على
مستوى الرواية والقصة والشعر، كيف تصف المشهد الآن في ظل كل هذه التغيرات التي لا
تتوقف؟
- للأسف لست
مطلعاً بشكل كاف على نصوص الشباب الجدد كي أكوّن رأياً عنها، ولكن القليل الذي
اطلعت عليه هو جيد ويضاهي نتاجات شباب بعمرهم في ثقافات وبلدان أخرى، فقط، أخشى
عليهم من أن يرثوا سلوك الخصومات والمناوشات الضيقة المتعلقة بمعارك المقاهي
والصحافة المحلية والتنافس على المناصب والنشر والمهرجانات وما إلى ذلك مما هو
إهدار للوقت والطاقة، فهذه تضر بالإبداع أكثر مما تنفع. آمل أن يجعلوا إبداعهم
هدفاً وليس وسيلة.
*بماذا يفكر محسن الرملي الآن؟ وما أهم
المشاريع التي يخطط لها؟
- كالعادة، أفكر
بالعراق وأقول: متى يهدأ هذا الحبيب الجريح كي أعانقه ويعانقني! أما عن مشاريعي
فهي عديدة وأتمنى أن أجد الظرف والوقت الكافي لإنجازها، ومنها، إتمام بعض الأبحاث
الأكاديمية، تهيئة مسودة لحسن مطلك ونشرها وهي بعنوان "الكتابة وقوفاً" تتعلق
برؤيته لكتابة الرواية، أود أيضاً لو أتمكن من ترجمة اطروحتي للدكتوراه إلى
العربية وإتمام دراستين بدأت بهما، إحداهما عن رواية "دابادا" والأخرى
عن أثر الكيخوتة في الثقافة العربية.. ولدي مشروع رواية جديدة أحضر الآن ما يتعلق
بها من معلومات.. وهكذا.
-----------------------------------
*نشر في جريدة (الصباح) العراقية بتاريخ 6/2/2013م.